تعليق الحرب على لبنان
طارق أبي سمرا

المراوحة في الكارثة

10 حزيران 2025

السياسة اللبنانيّة تعيش على الخضّات. فهي لا تنتقل من طور إلى آخر إلّا بصدمة عنيفة، داخليّة كانت أم خارجيّة، تكسر الجمود وتفرض تحوّلاً في المشهد العام. ومن بين هذه الصدمات ونتائجها:

  • اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط 2005، ما أدّى إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان، وعودة ميشال عون من المنفى، وخروج سمير جعجع من السجن، وظهور انقسام حادّ في الشارع اللبناني بين خطَّين سياسيّين متناحرَين: 14 آذار و8 آذار، وهو انقسام لا يزال قائماً، بشكل أو بآخر، حتّى اليوم.
  • حرب تمّوز 2006، التي عزّزت موقع حزب الله بوصفه الطرف السياسي الأقوى في المعادلة اللبنانيّة.
  • أحداث 7 أيار 2008، التي كرّست دور السلاح في الحياة السياسية اللبنانيّة، ورسّخت نفوذ حزب الله داخل مؤسسات الدولة من خلال اتفاق الدوحة.
  • انتفاضة 2019 وانفجار مرفأ بيروت في آب 2020، اللذان أدّيا إلى انتشار خطاب بديل، تغييري وإصلاحي، تُرجِم لاحقاً بفوز أكثر من عشرة نوّاب «تغييريّين» في انتخابات 2022.

أمّا ما بين كلّ صدمة وتلك التي تليها، فمراوحةٌ وجمود، إن لم يكن شللاً تامّاً. ففي استطاعة لبنان، مثلاً، أن يُمضي سنوات من دون رئيس للجمهورية، أو من دون حكومة فاعلة تمارس صلاحياتها كاملة، أو حتّى من دون انتخابات نيابيّة، إلى أن تحدث خضّةٌ ما تعيد تحريك عجلات الحياة السياسية.

السياسة اللبنانيّة تفتقر، إذاً، إلى أيّ محرِّك ذاتي وتظلّ في حالة من الركود إلى أن يوقظها حدث استثنائي من خارجها. وليس المقصود بالخارج هنا ما يأتي بالضرورة من وراء الحدود، بل ما لا يصدر عن منطقِ الحياة السياسية العادية وعملِ المؤسّسات الدستوريّة: اغتيال، حرب، انتفاضة…


أحدثُ هذه الصدمات كانت الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله، ومن نتائجها أنّها أنهت حالةً طويلة من الشلل السياسي، كانت أبرز مظاهرها شغوراً في رئاسة الجمهوريّة واستمرارَ الحكومة في وضع تصريف الأعمال. فبعد مرور شهر ونصف على إعلان وقف إطلاق النار، انتُخِب رئيسٌ للجمهورية، تلا ذلك تشكيل حكومة جديدة بسرعة قياسيّة مقارنةً بالوقت الذي تستغرقه عادةً هذه العملية في لبنان. بدا حينئذٍ أنّ الحياة السياسية عادت إلى الانتعاش، نتيجة عاملَين أساسيّين: الضغوط الخارجيّة، والتبدّل في موازين القوى الداخلية، إذ خرج حزب الله من الحرب فاقداً الكثير من قوّته، وهي قوّة (أو فائض قوّة) كانت أحد أسباب الشلل السياسي في المرحلة السابقة.

لكن سرعان ما تبيّن أنّنا دخلنا طوراً جديداً من المراوحة أو الركود. فقد بات البلد معلّقاً في حالة انتظار يُرّجح أنّها ستكون مديدة: انتظار إعادة الإعمار، انتظار المساعدات الخارجيّة، انتظار الإصلاح، انتظار نزع سلاح حزب الله... وطبعاً انتظار انسحابِ إسرائيل ممّا احتلّته من أراضٍ، ووقفِ اعتداءاتها واغتيالاتها شبه اليوميّة. 

والأنكى أنّ كلّ واحد من هذه الانتظارات مشروط بغيره، في ما يشبه حلقةً مفرغة: فلا إعادة إعمار ولا تعافيَ اقتصاديّاً من دون مساعدات، ولا مساعدات من دون نزع سلاح حزب الله، ولا تسليم للسلاح من دون إنهاء الاحتلال ووقف الاعتداءات، ولا إنهاء للاحتلال من دون نزع السلاح... وهكذا دواليك.

والمفارقة أنّ هذا الجمود إنّما هو جمود في القاع: إنّه مراوحةٌ في الكارثة، ركودٌ في ظلّ حرب واحتلال ودمار وأزمة اقتصاديّة. حربٌ انتهت ولم تنتهِ. احتلالٌ بلا أيّ أفق زمني لجلائه. دمارٌ يبدو أنّه سيبقى على حاله. أزمةٌ اقتصاديّة قد تستمرّ لسنوات. إلى أن تأتي الخضّة التالية. وفي الأثناء، نحيا في الكارثة كما لو كانت من أكثر الأمور طبيعيّة.


ينسحب هذا الجمود أيضاً على الخطاب السياسي الذي غالباً ما يكون اجتراراً إنشائيّاً رتيباً لشعارات سرعان ما تفقد معناها، ولا يتبدّل إلّا تحت وقع الصدمات العنيفة. في الفترة الراهنة، فإنّ الخطاب الذي كان أساساً خطاباً بديلاً، تغييريّاً وإصلاحيّاً، بات هو نفسه خطاب السلطة مُتمثِّلةً برئيسيّ الجمهوريّة والحكومة، فأخذ يعكس حالة الشلل التي نعيشها، متحوِّلاً إلى تكرار لشعارات من قبيل الإصلاح، والمحاسبة، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها، وإنهاء الاحتلال عبر الضغوط الدبلوماسيّة... إلخ، وهي كلّها شعارات يبدو أنّ تَحقُّقها بعيد المنال.

يترتّب على كلّ ما سبق أنّ فاعليّة المجتمع المدني في الحياة السياسيّة تظلّ ضئيلة، وأنّ إمكانيّة العمل السياسي القائم على التراكم والتغيير التدريجي غالباً ما تكون محدودة جدّاً. فمن النادر أن تنجح الضغوط المجتمعيّة المتراكمة في كسر الجمود وإحداث تحوّلات سياسيّة، وهي تحوّلات لا تحصل، عادةً، إلّا نتيجة صدمات عنيفة. ولعلّ هذا ما يُفسِّر عيش اللبنانيين في حالة من الترقّب المستمرّ، من دون أن يدركوا بوضوح ما الذي ينتظرونه: حدثٌ استثنائيّ يحلّ محلّ العمل السياسي المُتعذِّر، وينقل مجتمعهم من طور إلى آخر، علّه يكون أقلّ سوءاً من سابقه.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
عدوان إسرائيلي على شمال غزّة بعد تهديدات بالإخلاء
أيُّ إعادة إعمار لمدينة حمص؟
29-06-2025
تقرير
أيُّ إعادة إعمار لمدينة حمص؟
الاحتفاظ بالجولان المحتلّ شرط إسرائيل للتطبيع مع سوريا
مقتل عبير رحّال
نقد

مقتل عبير رحّال

سيلفانا الخوري
3 شهداء بعدوان إسرائيلي على جنوب لبنان
5 قيل هذا الأسبوع