وعود الإصلاح المتلاشية
بدأ العهد الجديد محاطًا بآمال مشروعة، خاصة بعد حرب مدمرة وسنوات من الركود والانهيار، شكّلت سلاحه الأساسي في وجه طبقة سياسية تسببت أو تعايشت مع حالة الانحلال المجتمعي. فالعهد الآتي من خارج النادي السياسي التقليدي لم يكن يمتلك أكثر من هذه الشعبية والدعم الخارجي الفضفاض، لمواجهة العوائق الداخلية.
لكن سرعان ما بدأت هذه الآمال تتلاشى، بدايةً بانقسام العهد حول تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان، مقرّب من المصارف، ومن ثمّ بالعلاقة المتقلبة بملف حزب الله، هذا قبل أن تأتي نتائج الانتخابات البلدية لكي تضعف الأطراف السياسية الداعمة للعهد. بعد أقل من نصف سنة، ظهرت حدود «الإصلاح من فوق»، لتنذر بانتهاء مرحلة، كان فيها «الإصلاح» شعاراً سياسياً قائماً بحدّ ذاته. كانت نصف سنة كفيلة بطيّ صفحة في السياسة، صفحة سياسة الإصلاح، وصلت إلى خواتيمها في لحظة ذروتها السياسية.
مع تلاشي وعود الإصلاح، بدأ «العهد الإصلاحي» يظهر وكأنّه وقت ضائع، بين مرحلتين سياسيّتين، واحدة انتهت والثانية قيد الإنشاء. فما عُرِف بالعهد الإصلاحي لم يعد اليوم إلّا عنوان لحظة الانتظار والتروّي، محاولة لتمرير الوقت ريثما تتضح معالم المرحلة المقبلة.
تجلّى دور العهد الجديد كعنوان الوقت الضائع في الملفين الرئيسيّين اللذين شكّلا برنامجه السياسي: استعادة السيادة وفرض الإصلاحات المالية. فبات واضحًا أنّ سياسة التأجيل هي السياسة الرسمية اليوم، في انتظار بلورة معالم المرحلة القادمة.
ارتباك سيادي
شكّل شعار استعادة سيادة الدولة إحدى ركائز العهد الجديد. فأكّد الرئيس جوزاف عون في خطاب القسم على «حق الدولة في احتكار حمل السلاح»، كما وردت في البيان الوزاري عبارة «واجب الدولة في احتكار حمل السلاح». وتكرّرت هذه الشعارات في أكثر من مناسبة، كما شكّلت مادة لسجالات داخلية. لكن في واقع الأمر، لا يبدو أنّ لدى العهد أيّ مشروع عمليّ لتنفيذ هذا البند، أو اقتراح يخرجه من بازار المزايدات الداخلية والضغوط الخارجية. فتحوّل إلى صندوق بريد في مفاوضات، لا يملك من سلاح فيها إلّا التأجيل ريثما تتغير الأوضاع.
ظهر ضيعان العهد خلال زيارة المبعوث الأميركي، توم بارّاك، الأخيرة، الذي كرّر مطالب الإدارة الأميركية، وإن كان بلهجة أنعم من مورغان أورتاغوس. أفادت وسائل الإعلام اللبنانية عن اجتماعات ماراتونية سبقت الزيارة ولقاءات جمعت الرؤساء الثلاثة ومندوبين عنهم، وأخرى جمعت رئيس مجلس النواب مع ممثلين عن حزب الله، بهدف الردّ على المقترح الأميركي. جاء بارّاك وغادر، وإلى اليوم لم يعرف اللبنانيون ما هو مضمون الردّ اللبناني الرسمي على المقترح. مجرّد تسريبات غير رسمية تبقى غير كافية لرسم المشهد. «الجو منيح»، هكذا اختصر رئيس الحكومة الوضع في البلد بعد الزيارة، لكن في المشهد الحالي تكرار لمشاهد سابقها عاشها اللبنانيون في عهود سابقة، وتحديداً مشهدان: مشهد ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل ومنحها معظم مطالبها في الغاز البحري؛ ومشهد اتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024، والذي سمح باستباحة الاحتلال للأجواء والأراضي اللبنانية ومنحه «حرية الحركة» وحرية الاغتيالات والقتل في مختلف أنحاء لبنان.
قد لا يكون هناك الكثير أمام العهد ليفعله في مفاوضات هو ليس طرفًا فيها، خاصة مع تمسّك حزب الله بملف السلاح، كما جاء في خطاب أمينه العام خلال زيارة المبعوث الأميركي. لكنّ هذا لا يبرّر ألا يكون هناك تصوّر رسمي، يمكن أن يشكّل أرضية موقف العهد، لمقاربة هذه المفاوضات. وهذا بات ضرورياً لكون المبعوث الأميركي قد قطع الطريق أمام إمكانية تأجيل الموضوع حتى موعد الانتخابات النيابية المقبلة: رئيسي [ترامب] لا يمتلك الصبر، وإذا أراد لبنان الاستمرار في ركل العلبة على الطريق [إضاعة الوقت]، يمكنه الاستمرار بذلك لكننا لن نكون هنا في أيار لنناقش نفس المواضيع. خارج تصوّر كهذا، يكون العهد قد حكم على نفسه بالوقوف خارج المعادلة السياسية، والبقاء كمجرّد عنوان للوقت الضائع الذي يسبق التفاوض الفعلي أو الحرب.
الإصلاح المؤجَّل
بدأ العهد محاطاً بزخم إصلاحي اقتصادي لم يسبق أن رآه اللبنانيون منذ بداية الأزمة الاقتصادية الراهنة. وشكّل هذا الشعار إحدى أهمّ نقاط قوى العهد الجديد، محمولًا من دعم خارجي صارم حيال الحاجة لإصلاحات ماسة للنظام المالي. وظهرت سريعًا أولى نتائج هذا الزخم. فتمّ إقرار مشروع قانون رفع السريّة المصرفيّة في مجلس الوزراء، ثم تمكنت الحكومة من تمرير القانون في البرلمان من دون تعديلات تُذكر. وكذلك أقرّت الحكومة، بسرعة مذهلة، مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف، وأحالته إلى البرلمان، وحصلت على إشادات من صندوق النقد الدولي، بشأن سرعة القيام بهذه الخطوات.
غير أنّ الزخم الإصلاحي بدأ يخفت شيئاً فشيئاً. فمنذ بداية شهر نيسان، علق قانون إصلاح أوضاع المصارف في دهاليز لجنة المال والموازنة، وأشهر حاكم مصرف لبنان كريم سعيد اعتراضاته على القانون، والتي أتت مغلفة بحجج طائفيّة على اعتبار أن تعزيز دور لجنة الرقابة على المصارف يقلّص من دور الحاكم، المنصب الماروني المالي الأوّل. ومنذ ذلك الوقت، لم يشهد الملف أي تقدّم يُذكر. ثم بدأ أداء الحاكم يأخذ منحى يُذكّر بأداء سلفه رياض سلامة. فبدأ جولاته الخاصّة في الخارج لتسويق خطّة موازية، بل ومضادّة، لخطّة الحكومة اللبنانيّة، ما يشير إلى احتمال الإطاحة بخطّة الحكومة نفسها.
بعيداً عن مناورات الحاكم، كان المجلس النيابي نفسه أقل تفاعلاً ونشاطاً في تعامله مع مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف. واختفت تلك الديناميّة التي فرضت مثلاً الإسراع في إقرار قانون رفع السريّة المصرفيّة. وفي معظم الكتل النيابيّة، ساد خطاب متماهٍ مع الشكوك التي يطرحها حاكم مصرف لبنان، بخصوص القانون نفسه.
ثم انتهت ولاية نوّاب الحاكم الأربعة، ولجنة الرقابة على المصارف ورئيسها، منذ أكثر من شهر. وساد في جميع هذه المناصب الحسّاسة شغورٌ عطّل مفاصل المصرف المركزي، بما في ذلك الأنشطة الرقابيّة. وكذلك تعطّلت السلطة النقديّة، المتمثّلة في المجلس المركزي للمصرف، الذي يشغل فيه نوّاب الحاكم أربعة مقاعد من أصل سبعة.
غنيٌ عن القول أنّ هذا الشغور جاء بفعل تفاوض العهد نفسه مع رئاسة الحكومة من جهة، ورئاسة مجلس النوّاب من جهة أخرى، على غنائم هذه التعيينات الماليّة. وظهر واضحاً أنّ كل ما قيل عن آليّات شفّافة وواضحة لإجراء التعيينات، استُبدل بمنطق التحاصص بين الرئاسات الثلاث. لكنّ الأهمّ، أن عقلية التأجيل نفسها بدأت تتحكم بمجرى الأمور، حيث بات واضحًا للعهد نفسه أنّه لن يستطيع فرض باقي الإصلاحات بالطريقة التي نجح فيها بتمرير قانون رفع السريّة المصرفيّة. ومع اقتراب موعد الانتخابات، واحتمال تغيير المعادلة الحكومية، تصبح القابلية للدفع بالإصلاحات أضعف.
انتظار بلا أفق
عُلِّقت آمال كثيرة، ومشروعة، على العهد الجديد، لكنّها تلاشت مع الوقت لأسباب عديدة. فبدأ «العهد» يتحوّل إلى عنوان مرحلة «الوقت الضائع»، في انتظار الانتخابات داخليًا وتسوية ما إقليميًا. لكنّ مشروع قطب إصلاحي في الانتخابات القادمة بات صعبًا، كما أشارت إليه نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة، والضغط الإقليمي لا يبدو أنّه يتّجه نحو تسوية قريبة، ما يجعل من سياسة التأجيل الطريق الأسرع لخروج «العهد» من السياق السياسي. وهذا الخروج لا يطال العهد وحسب، بل خطاب الإصلاح أيضاً، كما شهدناه منذ عقدين من الزمن، وكذلك عالمه السياسي، الذي يجد نفسه اليوم في لحظة مفارقة كبرى بين وصول إصلاحيين إلى أعلى مراتب الحكم وانتهاء مشروع الإصلاح كمشروع سياسي قائم بحد ذاته.