قضية الأسبوع هندسة الانهيار الاقتصادي
ميغافون ㅤ

قانون الفجوة المالية

معركة المصارف الأخيرة

20 كانون الأول 2025

بات مجلس الوزراء أمام استحقاق مناقشة وإقرار مشروع قانون الفجوة الماليّة، الذي سيحدّد أخيراً آليّة توزيع خسائر الأزمة المصرفيّة الممتدّة منذ أكثر من ستّ سنوات. ما سيحدّده هذا القانون، بصيغته النهائية، هو ما يمكن استرداده من أموال المودعين، وما إذا كان المصرفيون سيحتفظون بنسبة من مساهمتهم في مصارفهم بعد إجراء عمليّة إعادة الهيكلة، والأهم، فهو أنّ القانون سيُحدّد مدى انطواء المسار بأسره على أبسط معايير المحاسبة والعدالة، عند معالجة خسائر متراكمة بهذا الحجم. 

قانون الفجوة المالية لن يحدّد فقط توزيع الخسائر وبالتالي حجم الودائع التي سترّد وشكل القطاع المصرفي المستقبلي، لكنّه سيحدّد طبيعة مسار التعافي المالي ومدى دور معايير العدالة فيه.

وبمعزل عمّا يتضمّنه حالياً مشروع القانون، فمن الأكيد أنّ المشروع سيخضع لتعديلات متكرّرة، داخل مجلس الوزراء أولاً، ومن ثمّ المجلس النيابي، ما يعني أنّ النقاش بهذا الشأن لن يُحسم قريباً. ومن المتوقّع أن تستنفر الماكينة الإعلامية للمصارف مجدّدًا، دفاعًا عن مصالح أصحابها. 

مسؤولية المصارف

تضمّن مشروع القانون إشارة إلى احترام تراتبيّة الحقوق والمطالب، ما يعني التدرّج بتحميل رساميل المصارف، أي مساهمات أصحابها، أوّل شريحة من الخسائر، قبل الانتقال إلى تحميلها لأطرافٍ أخرى. نتيجةً لهذه العمليّة، من المفترض أن تُشطَب هذه المساهمات، ما يفرض إعادة تكوين المساهمات عبر ضخّ سيولة جديدة من مساهمين جدد أو حاليين.

طرحَ طرفان رؤىً متناقضةً إزاء هذه العمليّة:

  • جمعيّة المصارف التي ثارت ثائرتها إزاء تضمين القانون هذا المبدأ، كونه سيؤثّر حكماً على هويّة الأطراف المسيطرة على القطاع. وهذا ما يفسّر بيان الجمعيّة العنيف الذي هاجم هذا المسار بأسره.
  • صندوق النقد الذي طلب تضمين مشروع القانون بنود أوضح، للتأكّد من عدم لجوء مصرف لبنان إلى تنظيف الودائع من «الشوائب» (مثل الفوائد المرتفعة على سبيل المثال)، قبل استنفاد قدرة الرساميل على تحمّل الخسائر. في هذه الحالة، ستكون المصارف قد خفّضت التزاماتها، وحسّنت وضعيّتها المالية، قبل تحميل المصرفيين ما يمكن تحمّله للتعامل مع الخسائر.

في هذا الجانب من القانون، تقف المبادئ التي يطرحها صندوق النقد على الجانب الأكثر انصافاً للمودعين والمجتمع. فبديهيّات عمل أسواق المال، تفرض مسؤوليّة المساهمين عن مجازفات ومخاطر مؤسّساتهم، قبل أي جهة أخرى، هذا بمعزل عن الأسباب التي أدّت إلى تراكم الخسائر موضوع النقاش أصلاً. فكيف يُفترض أن يكون الحال إذا كنّا نتحدّث عن نخبة مالية أثرَت نفسها بعمليّات مشبوهة مع مصرف لبنان، على حساب أموال المودعين الموجودة هناك؟

أي قانون عادل لتحديد الفجوة المالية يبدأ من احترام تراتبيّة الحقوق والمطالب، أي أنّ الشريحة الأولى من الخسائر يُفترض اقتطاعها من رساميل المصارف، قبل الانتقال إلى تحميلها لأطرافٍ أخرى. وهذا ما يؤمّن أن توزيع الخسائر لن يتمّ على حساب صغار المودعين أو الاقتصاد ككل.

مسؤوليّة الدولة

نصّ المشروع المقترح على صيغة عموميّة وفضفاضة لتحديد مسؤوليّة الدولة، في عمليّة إعادة رسملة مصرف لبنان، وتالياً تسديد أموال المودعين. اكتفت تلك الصيغة بإحالة المسألة إلى اتّفاق بين مصرف لبنان ووزارة المالية، على حجم الديون التي ستتوجّب على الدولة اللبنانيّة، كما اكتفت بصياغةٍ تَضمن إصدار سندات طويلة الأجل مقابل هذا الدين. وبهذا الشكل، لم يُحدَّد معيار معيّن لاحتساب هذه الديون، ولا آليّة واضحة لتسديدها.

  • بطبيعة الحال، تريد المصارف ما هو أكثر. منذ العام 2020، كان مشروع جمعيّة المصارف تحويل التزاماتها تجاه المودعين إلى ديون عامّة، تتوجّب على الدولة اللبنانيّة. ومن الطبيعي أن يغيظ الجمعيّة عدم تضمين القانون بنداً واضحاً، يضاعف من الكلفة التي سيتحمّلها الشعب اللبناني لإنقاذ القطاع.
  • بالمقابل، تحفّظ صندوق النقد على ترك المسألة فضفاضةً ومفتوحةً بهذا الشكل، انطلاقاً من كونه معنيّاً بمسألة استدامة الدين العام، أي عدم رفع هذا الدين إلى مستويات غير قابلة للسداد.

ومن البديهي الإشارة إلى أنّ مصلحة المجتمع، تقتضي عدم إغراق الدولة بديون كفيلة بشلّ القطاع العام، ومنعه من أداء أدواره الاجتماعية. ولهذا السبب، من الضروري تعديل هذا الجانب من المشروع، بدلاً من ترك صيغة تحاول ترك المسألة مفتوحة على احتمالاتٍ عديدة.

أي قانون عادل لتوزيع الخسائر يجب أن يبتعد عن إغراق الدولة بديون لتسديد أموال المودعين، ما سيشّل القطاع العام، ويحمّل المجتمع بأكمله ثمن الأزمة.

المحاسبة والمساءلة

في سياق مشروع الحكومة، يمكن العثور على أفكار تنسجم مع مبدأ إعادة الهيكلة على أساس المحاسبة والمساءلة، وأهمّها:

  • التدقيق في أرباح الهندسات المالية التي تُعتبَر أصول «غير نظاميّة» بحسب المشروع، والتي ساهمت بمراكمة خسائر مصرف لبنان، مقابل إثراء أصحاب المصارف. كما نصّ المشروع على استعادة الأرباح والمكافآت المُبالَغ بها التي حقّقها أصحاب ومدراء المصارف. وهذا ما يزيد من قدر الخسائر التي سيتم تحميلها إلى أصحاب المصارف.
  • تغريم أصحاب الأموال المهرّبة خلال الأزمة بنسبة 30% من هذه الأموال، مع تخصيص المصرفيين منهم ببند يفرض ملاحقة هذه الأموال وتغريمها بنسبة 30% منذ 17 نيسان 2019.

هاجمت جمعيّة المصارف هذه المبادئ، بعد أن عقدت اجتماعات طارئة لمواجهتها. ومن هذه الحجج: عدم وجود قانون كابيتال كونترول يمنع تهريب الأموال، وعدم معرفتها بواقع مصرف لبنان المتعثّر عن الانخراط في الهندسات الماليّة. غير أنّ صندوق النقد، وعلى النقيض تماماً، وجد حاجة لضبط أقوى لعمليّة التدقيق، عبر إجرائها من قبل مؤسّسات دوليّة ذات مصداقيّة، ومن خلال الاستناد إلى معايير محاسبيّة واضحة.

من الأكيد أنّ ما تطرحه جمعيّة المصارف لا يتجاوز حدود الحجج الواهية. فعدم وجود قانون للكابيتال كونترول، لا يعطي المصارف الحقّ باحتجاز أموال معظم المودعين بشكل قسري، في مقابل تهريب السيولة، وبشكلٍ استنسابيّ، لقلّة نافذة داخل القطاع. وفي جميع الحالات، لا يوجد ما يمنع فرض غرامة استثنائيّة على الفئة المستفيدة، إذا وجدت الحكومة أنّ هذه الفئة تمكّنت من إثراء نفسها على حساب سائر المودعين في القطاع.

على أي قانون عادل أنّ ينطلق من مبادئ المحاسبة والشفافية للتدقيق بما جرى، أي بعمليّات  الهندسات المالية والأموال المهرّبة خلال الأزمة، ما يضفي على عملية توزيع الخسائر بعضًا من العدالة.

مصير الذهب

في مشروع الحكومة، تُضمن أموال كل مودع لغاية 100 ألف دولار، تُسدّد خلال أربع سنوات. أمّا سائر الودائع، التي تتجاوز هذا الحدّ المضمون، فيتم تقسيطها على مدى فترات تتراوح بين 10 و20 سنةً بحسب حجم الوديعة. ضمانة تسديد هذه الودائع الكبيرة، على المدى البعيد، ستكون عائدات موجودات مصرف لبنان، بما فيها الذهب، أو عائدات تصفية هذه الأصول «في حال تصفيتها». وعلى هذا الأساس، لن يُباع أي جزء من احتياطي الذهب الموجود حالياً، ولن يُرهَن بشكلٍ مباشر. وسيكون هناك حاجة لإطار تشريعي واضح لاحقاً، قبل التصرّف بهذه الاحتياطات.

في هذه النقطة، يتقاطع صندوق النقد وجمعيّة المصارف بالإلحاح على تضمين المشروع بنود تسمح بالتصرّف بالذهب حالياً، لتسديد الفجوة، أو بيعه لاحقًا إذا فشل المصرف المركزي في تسديد السندات. والطرفان يستندان، في مطلبهما هذا، إلى وجود احتياطات الذهب ضمن بنود موجودات مصرف لبنان.

غير أنّ هذا المطلب ينطوي على إشكاليّات كبيرة. فاحتياطات الذهب بالأساس كانت احتياطيًا استراتيجيًا، تكوّن في مرحلة ما قبل الحرب الأهليّة، بفضل الفوائد التي حقّقها لبنان بالعملات الأجنبية. وبهذا الشكل، من غير المنصف ربط ثروة بهذه الأهميّة، بمسألة التعويض على بضعة آلاف من كبار المودعين، خصوصًا أنّ هذه الثروة لم تتأتَّ أصلًا من ودائعهم. وفي جميع الحالات، تبقى هذه الثروة الملاذ الأخير، عند تعرّض البلاد، أو حتّى الاقتصاد العالمي، لخضّات مالية أو نقدية قاسية وغير متوقّعة.

على أي قانون عادل لتوزيع الخسائر ألّا يضحّي باحتياطه الاستراتيجي، أي الذهب، بغية التعويض على بضعة آلاف من كبار المودعين. فهذا الذهب ملكٌ عامٌ والملاذ الأخير في حالة أزمات غير متوقّعة، ما يجعل استعماله اليوم خطَرًا مستقبليًا.

حملة جمعيّة المصارف

ما شهدناه هذا الأسبوع كان بداية حملة جمعيّة المصارف لتعديل مشروع القانون بصورة تتناسب مع أهدافها. وبهذا الشكل، عبّرت الجمعيّة عن حقيقة ما يجري بخصوص النقاش الدائر، في كونه معركة مصالح تخوضها نخبة مالية لحماية مكتسباتها السابقة خلال فترة التعافي المفترض، بعدما أثرَتها السياسات المالية والنقدية التي تمّ اعتمادها منذ التسعينات. ومن هذه الزاوية بالذات، يُفترض أن يُقارَب النقاش والتفاوض حول قانون الفجوة المالية، من الآن وحتّى إقراره في مجلس النواب.

أهم ما في الأمر، هو الالتفات إلى أنّ المعركة الحقيقية لن تقتصر على مرحلة صياغة مشروع القانون، بل ستمتد خلال الأيام المقبلة طوال مرحلة نقاش المشروع على طاولة مجلس الوزراء. كما ستمتد طوال الأسابيع اللاحقة، عند مناقشة القانون وتعديله في لجنة المال والموازنة، حيث يكمن أقرب حلفاء المصارف وأكثرهم دفاعاً عن مصالحها. وقبل إقرار القانون بصيغته الأخيرة، في الهيئة العامّة للمجلس، لن تنتهي معركة قانون الفجوة المالية. 

إنّها معركة جديدة في مسار الإصلاح المالي بين مطلب العدالة من جهة، ومن الجهة الأخرى محاولة حفنة من المصرفيين حماية مكتسباتهم على حساب المجتمع. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
نشر أوّل ملفّات إبستين مع «بعض» الحجب
قضية الأسبوع

قانون الفجوة المالية

ميغافون ㅤ
2,000$ / شهر معدّل ما سيُعاد إلى أصحاب الودائع التي تقلّ عن 100,000$
حدث اليوم - الجمعة 19 كانون الأول 2025
19-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الجمعة 19 كانون الأول 2025
ورودٌ وكهف: معرض فنّي لزياد عنتر وحاتم الإمام
19-12-2025
تقرير
ورودٌ وكهف: معرض فنّي لزياد عنتر وحاتم الإمام
إسرائيل تقرّ باختطاف القبطان البحري عماد أمهز من البترون