الانتفاضة بين 6 سنوات
يمكن الاستفاضة بالكلام عن ليلة انتفاضة 17 تشرين الأول من عام 2019، بعد 6 سنوات على ذكراها. يمكن الكلام بالسياسة، ويمكن كذلك الاستفاضة بالكلام عن الهزيمة أو بالالتفاف عليها بهدف تسويغ كل مرادفات شيء ما يشبه الإنجاز. ويمكن، أيضًا وأيضًا، الكلام عن استمرارية سرد ما يخالف ويناقض مشهد استعادة أحزاب النظام الطائفي قدرتها على إعادة إنتاج ذاتها وحماية السستم الذي يضمن لها البقاء. كذلك يمكن التعريج على نقد التجربة النيابية، وما إلى هنالك من مقاربات انتصاروية للكلام عن شيء ما يخصنا، شيء قمنا به تلك الليلة والليالي التي تبعتها، حين استعدنا لأيام البلد بكل ما فيه، حين شعرنا أن لنا شيئاً في هذا العالم لا بد من استعادته.
إلا أنه، وبمجمل الأحوال، كان لا بد من الكلام، فوق هذه وتلك، عن تجارب شخصية وخاصة وحياتية خاضها الموظفون والمتقاعدون من أسلاك الدولة وأجهزتها في مختلف الميادين، والتي كانت كثافتها وطغيان حضورها أمراً جديداً تمامًا على تجارب الحركات الاعتراضية التي دارت في السنوات الأخيرة. وهي تجارب لم تجد من يعبّر عنها جرّاء الغياب التام لمجمل النقابات والروابط التي من المفترض أن تحمل مطالب القطاعات وتدافع عن حقوقهم، والتي لم تستطع الانتفاضة أن تجمعهم في أجسام تنظيمية سياسية، وبقوا في أزماتهم وأشكال مواجهاتهم ذاتها بعد أن تلاشى كل شيء.
فوزي
في هذا السياق، تُشكّل ليلة 17 تشرين حدثاً وتجربةً خاصة، لعلّها جزء من مجموعة أحداث مشابهة كانت منتشرة فيها. تلك الفترة شهدت ولادة تجارب ذاتية، كتلك التي خاضها صديقي فوزي دون غيره من معظم المتظاهرين والمنتفضين أمثالنا. تجربة أن يكون في قلب المشهد، لكن من الجهة المقابلة. فوزي الذي يتحدّر من قرية شوفيّة، وبات اليوم في أوائل الخمسينيات من العمر، كان عنصرًا في قوى الأمن الداخلي منذ أن تعرفت إليه في قسم الفلسفة في الجامعة اللبنانية في سنتي الأولى. كنا خلال تلك الفترة نتموضع في تناقضات المشهد، نحن ننتمي للمتظاهرين وهو ينتمي للقوى الأمنية التي تتقابل مع المتظاهرين فتقمعهم. كانت صبحياتنا في الجامعة لطيفة بمجملها، وفيها الكثير من الدردشات والنقاشات الفلسفية والأدبية والموسيقية، حتى تلك العبثية، بما فيها الصباحات التي تسبق أي تظاهرة، وذلك قبل أن يقرّر التقاعد حين سنحت له الفرصة لذلك، وينتقل من بعدها إلى عالم الرواية والصحافة والكتابة والأنشطة الثقافية التي لطالما أحبّ وكانت ممنوعة عليه خلال مسار خدمته. لكنّ ليلة تشرين قلبت المعايير، إذ انضمّ فوزي إلى المتظاهرين كجزء من مجمل اللبنانيين الذين فاض بهم الكيل جرّاء التداعي والإفساد والقمع وتغوّل الوحشية والميليشيويّة والمافيويّة في الدولة عمومًا وفي مؤسساتها خصوصًا، وكجزء ممّن سيمسّهم الانهيار جرّاء تداعي رواتب القطاع العام، بما فيها رواتب المتعاقدين. انضمّ فوزي إلى تموضعنا في المشهد بالمقابل من الموقع الذي لطالما كان يتموضع فيه بحكم وظيفته السابقة. للمرة الأولى تراه ينضم إلى صفوف المقموعين لا القامعين.
الغضب
لا بدّ لتجربة كهذه أن تكون مكثفة جدًًا، إذ اختبر صديقي تلك المشاعر التي لم يختبرها في السابق، وبدأ يتلمس مصدر الغضب المنصبّ على القامع لا المقموع. فبدا وكأنه يحمل في داخله كمية لامتناهية من مشاعر مكبوتة منذ سنوات وسنوات. مشاعر انفجرت فجأة دون أي حسيب أو رقيب، خصوصًا وأنه كان يتواجد يوميًا في الساحة، التقي به في كل مكان يمتد بين ساحتي الشهداء ورياض الصلح، وأحياناً على رصيف بناية اللعازرية وغيرها من أمكنة كانت لنا في مجموع تلك الليالي. تراه يجلس على كرسي في قلب المشهد، ينفث دخان أركيلته، يراقب المشهد بدهشة، يعبّد الطريق أمام سيرورة الانتماء الجديد.
وسرعان ما دخل فوزي في مجال الفعل، دوامة أن ينتهي من المراقبة وأن يبدأ بخطّ الشعارات، لا تلك السياسية المباشرة، بل الشعارات التي كانت تهمّه وتخصّه. فما هي الانتفاضة، إن لم تكن لكتابة ما يخصنا؟ كان متلهفًا للمجاهرة بما يشعر به، كي يصل إلى الناس، بعد أن كان يقوله مواربة في فترات خدمته، وهذه المواربة لطالما كانت تنتهي بالمعاقبة. لذلك صبّ جام غضبه على التردّي في المجال الثقافي والأكاديمي السائد، وبكثير من العبث، على الشعراء حينًا، «مع كل شاعر ساندويش شاورما مجانًا»، على قسم الفلسفة وأساتذته في الجامعة اللبنانية، الذي نال شهادته فيه، «نعم لإغلاق قسم الفلسفة في الجامعة اللبنانية توفيرًا للمحروقات». كذلك أطلقَ غضبه على تقليديات المجتمع وعلى الفلسفة الكلاسيكيّة عمومًا، «الدين بونبونة الشعوب: كارل ماركس جونيور»، على السلطة والمؤسسة الدينية وعلى حزب الله وغيره من أحزاب الكلن يعني كلن الطائفية، «يسقط حكم اللّفات: الله».
كل ما كان يخطر في باله، ويشكّل مجال نقد جذري للتردي، كان يجد طريقه كي يتحول بلحظة إلى أداة تعبير، وهو الضليع في عالم «القفشة» بعد تمرّسه جرّاء نشره عدّة روايات كان بعضها بمثابة نقد مكثّف لتجربته كعنصر في جهاز أمني، أبرزها «مذكرات شرطي لبنان»، حيث فكّك وحلّل تفاصيل المشهد الداخلي بمؤسسة لا نكاد نعلم عنها شيئًا. وصف في روايته شعوره حيال تلك المؤسسة منذ اليوم الأول حين شبّه ساحة الاجتماع الأول بوصفها «باحة داكنة اللون، وأشجار ضخمة كعجائز متلفّحات بالأسود». كما حملت رواياته نقداً جذرياً للحياة الثقافية ومجتمعات المثقفين البرجوازيّة الانتهازيّة والهشّة والسطحيّة والاستعراضيّة وتغوّل الشخصانية فيها، كما في رواية «بيروت من تحت».
عبق الحريّة المصادرة
قد يرى البعض أنه من غير المجدي الكتابة عن تجربة شخصية، لكنها ليست مجرد تجربة يمكن اختصارها بفرد يشعر بالملل أو الغضب ويعبّر عن انفعالاته في ساحة، بل هي نقد كثيف لبنى كاملة متكاملة تفرض على الشخص، في لحظة ما، سياقًا لم يكن ليتخيّله أو ليقرّره في السابق. فمن مهامّ السياق والمؤسسة والتراتبية أن تحوّل، تحت وطأة ووقع وقوة المشهد وعلاقات القوى، الأشخاص أنفسهم من فعل إلى آخر. وكيف لمن يتموضع في صفوف القوى الأمنية أن يسلك على نحو مغاير باستمرار حين يتموضع في صف من تقمعهم القوى الأمنية؟ وقس على ذلك من نتائج ومن سلوكيات فرضت نفسها عليه في حقله الاختباري الحر الجديد. ففي الشارع النقيض لما كانه في السابق، هناك حياة. هناك تجارب مختلفة تتمحور حول اختلاجات ومكامن عيش الناس العاديين، أولئك الذين سيتحول إلى صفوفهم بعد سنوات. أن تخوض تجربتك الشخصية بعيدًا عن أي مأسسة وهرميّة، أن تفعل ما يحلو لك دون أي أمر صادر عن جهة تستدعي تنفيذه المستمر. ففعل الأركلة في وسط الشارع، وبين الناس، لم يكن مسموحًا في حياته السابقة. فعلُ افتراش الرصيف والساحات والأمكنة العامة، فعلُ الهرب من وابل القنابل المسيلة للدموع ووقع الهراوات كذلك، وغيرها الكثير من تفاصيل كانت غريبة عنه، اختبرها للمرة الأولى في الانتفاضة، في حالة «ايفوريّة» لم أعتقد أنه دخل بها يومًا. كيف يمكن خط الشعارات على الجدران دون أية رقابة؟ كيف يمكن ممارسة هذا الدفق الأدريناليني الصاعد دون أي سلطة، بل بفعل تلقائي حر وليد لحظته ويبتعد كل البعد عن النتائج وعن احتساب الأهداف الخارجة عنه؟ فما كان يكتبه فوزي في رواياته قبل الانتفاضة، انتقل إلى مجال الممارسة، تلك القدرة العجيبة من الحرية ومن العبث الحر في مواجهة كل معيقات المؤسسة وقوانينها وتراتبياتها، تلك التي خاض صراعه معها منذ اليوم الأول حين حمل معه كتابين بين أمتعته: قصة الفلسفة لديورانت، والذي سُمح فيه، وكتاب بروتوكولات حكماء صهيون الذي منع عنه. فما كان الشارع بالنسبة إليه إلا مجالًا لاستنشاق عبق الحريّة المصادرة. أما لماذا كان بهذا التدفق، ولماذا كان يمارس هذه الدهشة؟ فكان ناتجًا عن شعوره بفائض العدالة التي حاول تحقيق بعضها حتى أيام خدمته، حين كان يحاول تكريسها عبر التفلّت من كثير من أوامر القمع، لا خوفًا على المتظاهرين فقط، بل تعاطفًا داخليًا كامنًا معهم ومع ذاته من خلالهم. كانت إنشاداً للحرية والعدالة اللتين حرمه الانتماء للمؤسسة منهما، وعندما سنحت له الفرصة أتت مضاعفة ومكثّفة وجارفة.
ليلة المصارف
هي تفاصيل كانت ترتسم من تلقاء ذاتها، قبل أن تنفجر بكل ما فيها ليلةَ المصارف في شارع الحمرا. حين كنا في حرب أزقة مع القوى الأمنية. حين كانت تمطر قنابل مسيلة للدموع بين المنازل والأبنية. تلك الليلة التي تكرّس فيها التموضع: قوى أمنية تحاول حماية ما تبقى من مصارف نهبت الناس وصادرت أموالهم ورواتبهم التقاعدية، وفي المقابل، يحاول الناس الثأر من تلك المصارف ومن كل من يحميها. كانت ليلة المصارف تكثيفَ التكثيف، معركة المواجهة الأوضح والأجمل والأكثر مباشرة مع السستم، مع القاعدة الأساسية للنظام. استباحة مؤسسات تكريس السلطة سلطتها بالمال والمافيات، وفوقها الميليشيات التي تحمي الاثنين. مواجهة الدوائر الضيقة لعمليات النهب وتهريب الأموال المنظمة، والمسؤولة عن كافة الانهيارات. لم تكن مجرد مواجهة سياسية، لم تكن حرباً اجتماعية فقط، بل كان وقعها بمثابة انتماء يعلنه صديقي، وغيره من الأصدقاء الذي يتشابهون مع حالته. تموضُع لن يبارحه بعد اليوم، حياة لم تكن تشبه كافة تفاصيل حياته السابقة. كيف لا وقد كنا في تلك الليلة أرواحاً هائمة تطوف كما يحلو لها في شارع الحمرا، كتلة من الإفراط باللذة جرّاء التدمير والحرق واسترداد نفسي ومعنوي للمال والتعب والإرهاق والعرق الذي تمت مصادرته. كانت أرواحنا حرّة في شارع لطالما كان رمزًا للحرية في خضم الحرب الأهلية، وما قبلها، وما تلاها. فوزي الذي كان يأتي إلى الحمرا بآلية عسكرية، أتى إلى أطرافها تلك الليلة في سيارته، واستكمل السهرة سيرًا على الأقدام، في الأزقّة، وفي مداخل الأبنية.
إشكاليّات ما بعد الانتفاضة
فوزي، اليوم، حاله كحال معظم المنتمين إلى مؤسسات الدولة ممّن شاركوا في الانتفاضة، إما الشعور بالهزيمة والانكسار والانكفاء إلى إنتاج شروط حياتهم وفق مقتضيات السستم ذاته، وإما المواجهة بحالة فردية واعتصامات متفرقة خاصة بالمتقاعدين أو بغيرهم. ها هو يستكمل انتفاضته الخاصة على صفحات المواقع، في الرواية، في الأدب، وفي المقالات التي يكتبها كاختمار لتجربة إنسانية متكاملة مرّت في تفاصيل المؤسسة وفي تفاصيل الخارج من المؤسسة.
وهنا يأتي السؤال الأصعب، سؤال يختصر تجربة واحدة لكنه يكثّف سلسلة لانهائية من التجارب. تجارب لمواطنين فقدوا أموالهم، فقدوا تعبهم وجنى عمرهم، تحولت رواتب تقاعدهم إلى ما يشبه اللاشيء، وكان هذا الفقد يجد طريقه همسًا إلى آذان المتظاهرين. أن يهمس العنصر الذي يقمعك في أذنك لكي تطالب بحقه الذي سلب منه، وسرعان ما يعيد كرّة قمعك حين تقوم بذلك، وفق ما تقتضيه المؤسسة وآلياتها القمعية. هذا هو الجدل المتناقض بين الحق المكتسب بالمواطنة وبين العيش، بين الواجب جرّاء الانتماء لمؤسسة ولبنى سلطوية لا يمكن حصرها. هي واحدة من الإشكاليات التي بقيت تحول دون انفلات الانتفاضة من كل معيقاتها، وهي ذاتها واحدة من الإشكاليات التي سمحت لقوى النظام باستعادة زمام المبادرة، خصوصًا بعد أن أخفقت قوى الانتفاضة في التفكير بشبكات أمان مختلفة. أماكن تفتح باب السؤال عن كيفية إيجاد طرق بديلة لإنتاج شروط العيش من خلال تفكيك شبكات الاستزلام، لا سيما في أجهزة الدولة والقطاع العام. حينها فقط كان يمكن أن تسري آلية تماهي المواطنين مع مواطنيتهم، وأن تنكسر علاقات التناقض بين الحق بالمواطنة وبين واجب الاستزلام كشرط ضروري للانتماء إلى مؤسسة.