هزيمة مُتوقَّعة
قبل تسع سنوات، ترشّحت لائحة معارِضة في انتخابات بلدية بيروت وحصدت حوالي الـ40٪ من الأصوات في وجه أحزاب السلطة. كانت «بيروت مدينتي» أنجح تجربة بعد حراك صيف الـ2015، وشكّلت نموذجًا ناجحًا للعمل الانتخابي. كانت العبرة في التحضير للمعركة من خلال العمل الميداني والابتعاد عن «طاولات المجموعات» وفي طريقة اختيار الأشخاص، ما أتاح للائحة الاستفادة من الجو المعارض المتصاعد في البلاد. بعد تسع سنوات، وثورة وانهيار وحرب، لم تكن النتيجة شبيهة بمفاجأة الـ2016. عادت الأحزاب لتسيطر على الاستحقاق البلدي، من دون أيّ أثر يذكر لـ«بيروت مدينتي».
نتائج «التغييريّين» المخيِّبة في الانتخابات البلدية لا تعود لأسباب تقنية وحسب، بل لمأزق سياسي، مرتبط بالهوية السياسية لتلك القوى، وفقدان الدور في الوضع الراهن. نتائج كهذه قد تتكرّر في الانتخابات النيابية القادمة، ما ينذر بنهاية مبكرة لوعود الإصلاح التي بدأت قبل بضعة أشهر.
خيبةٌ عمرها تسع سنوات
بدأت عوالم الهزيمة تظهر منذ اللحظات الأولى التي تلت إعلان نتائج انتخابات الـ2016. انقسم آنذاك جو «بيروت مدينتي» إلى تيارين. الأول اعتبر أنّ ما من إمكانية لتوظيف هذه النتيجة في الانتخابات النيابية، بسبب عدم وجود توافق حول المشروع السياسي الوطني لبيروت مدينتي، مفضلًا تدعيم المشروع المحلي والبلدي. أمّا التيار الثاني، فأراد بدء العمل للانتخابات النيابية، متجاهلًا هشاشة الهوية السياسية للمجموعة الجديدة. لم ينجح التيار الأول بفرض خياراته، كما فشل في إرساء مشروع «بلدية الظل» أو تدعيم الوجود المحلّي للقوى الإصلاحية. أمّا التيار الثاني، فتحوّل إلى بازار المرشحين للانتخابات النيابية، والذين فضلوا إقامة «طاولات التفاوض» بين مجموعات المجتمع المدني وزعاماته الجديدة ورثاء هذه التجربة، على بناء قوى سياسية منظّمة، قادرة على مراكمة التجارب. بين الانتخابين، تسع سنوات من عدم التحضير والتراكم والعمل الميداني، أدّت إلى هزيمة. ربّما اعتقد القيّمون على المعركة أنّ إسم «بيروت مدينتي» كفيل وحده بإقناع الناخبين. لكنّ هذا لم يحصل.
الانتخابات البلدية مسوّدة للنيابية
كان يمكن تجاهل نتائج هذه الانتخابات لو لم تشكّل دلالةً واضحةً لأزمة أكبر، ستؤثّر على مجرى الانتخابات النيابية القادمة، وبالتالي وعود الإصلاحات. فما يمكن استخلاصه من هذه النتائج ينطبق عمومًا على تجربة ما عُرِف بـ«النواب التغييريين». فبعد ثلاث سنوات على انتخاب أول كتلة مستقلّة ولاطائفية في تاريخ لبنان، لم نشهد أي تكتّل نيابي متناسق أو بناءً لتنظيم سياسي يحيط بهذه التجربة، أو حتى توافقاً حول القضايا الأساسية. ورغم نجاح سياسة «القنص الإصلاحي» في تعيين رئيس حكومة إصلاحي أو في تعديل بعض مشاريع القوانين، نحن لسنا أمام حالة إصلاحية قادرة على خوض انتخابات سياسية. ما أنتجته هذه التجربة هو تجمّع من السياسيين، يفتقد لأي ماكينة حزبية، ويواجه الاستحقاق القادم بأدوات التلاعب السياسي المعتاد.
المعركة على الاسم
ما أكّدته نتائج الانتخابات الأخيرة أن الاسم، أكان «بيروت مدينتي» أو «التغييريين» أو «الثورة»، لم يعد كافيًا لخوض معارك انتخابية، كما كان الوضع في انتخابات بلدية بيروت عام 2016 أو الانتخابات النيابية في عام 2022. فالتجارب التي كانت تسمّى بهذه الأسماء لم تكن مشجّعة لتستمرّ القدرة السياسية والتجييرية لهذه العناوين. لكنّ الأهمّ أنّ الحملة التي قامت ضدّ جوّ «التغيير»، وآخرها حملات لوبي المصارف، نجحت في ضرب ثقة الناس بهذه الأسماء. لم ينجح هذا اللوبي حتى الآن بعرقلة القوانين، لكنّه نجح بزرع الشكّ حيال «التغييريّين». و«التغيير» هو عنوان المعركة النيابية القادمة، حيث تدرك الأحزاب أن إمكانياتها الوحيدة لتوسيع تمثيلها أو تعويض ما خسرته سوف يأتي من حصة «التغييريّين». وانتخابات بيروت الأخيرة أظهرت أنّ احتمالاً كهذا بات ممكنًا، أي العودة إلى مجلس نواب في يد الأحزاب حصريًا.
معنى أن تكون تغييريّاً اليوم
لم نعد في العام 2015 أو 2016 أو 2018 أو 2019 أو 2022. آنذاك، كان من الممكن التمسّك بثنائية التغيير مقابل الأحزاب، وتراكم التجارب من حولها. لكنّنا لم نعد في هذه اللحظة. لم تعد هذه الثنائية كفيلة بفرز السياسة بلبنان، خاصةً بعدما بات «التغيير» و«الإصلاح» شعارَيْن يحملهما رئيسا الحكومة والجمهورية في العهد الجديد. «الإصلاح» لم يعد العنوان الذي يجمع كل من يعترض على النظام، بل بات لغة رسمية، حتى خشبية، لا تصلح كمنطلق لبناء قوى سياسية قادرة على المواجهة.
ومع تهاوي هذا العنوان العريض، بدأت الخلافات التي كانت تختبئ تحته تخرج إلى العلن، لتنذر بانفراط محتمل للعقد «الإصلاحي». وتعود تلك الخلافات لتباينات سياسية، كانت مؤجلة ريثما تنتهي المعركة مع «النظام»، أو لأسباب انتخابية، مع عدد من ممثلي «التغيير» الذين باتوا يعتبرون أنّ حظوظهم قد تكون أفضل بالانضمام إلى إحدى لوائح الأحزاب. لكنّ الأهم، أنّ تجربة «التغيير» لم تترك وراءها أُطُرًا تنظيمية، تستطيع أن تراكم رصيداً سياسياً. بل بالكاد تركت مكانها مشاريع شخصية، قد لا تدوم بعد الانتخابات القادمة.
الهزيمة الانتخابية الأخيرة هي إعلان انتهاء نهجٍ من العمل السياسي بدأ بعام 2015. وفي التحضير للانتخابات القادمة، بات ضروريًا البحث عن منطلق مختلف لخوض المعارك القادمة، وتطوير ممارسات وتنظيمات ترقى لمستوى الشعارات المطروحة.