الناظر للوهلة الأولى إلى نتائج الانتخابات البلدية في المناطق اللبنانية، يعرف من دون إطالة، أن ما أفضت إليه النتائج لم يفعل ما تأمّلناه من فتح صفحة جديدة للعهد القادم بتسوية دولية. لا بل لم يصل الى الوهج الذي قدّم العهد نفسه فيه، ووعد به الخارج قبل الداخل، بأنه سيفتح باباً لديموقراطية ما، تعيد خلط الأوراق المحلية.
هذه الديموقراطية التي يتغنى بها النظام الجمهوري القائم على المحاصصة والطائفية، حاول العهد الجديد استمالتها في خطابه، ومهّد لقدرته على الترويج لها وتفعيلها في بروفة انتخابات البلدية، مزيناً إياها بشعارات فضفاضة عن إتاحة المجال لإنتاج طبقة من «التغييريين» والوجوه الإصلاحية في ماكينات انتخابية قدّمها وزير الداخلية على أنها نزيهة. الواقع: لم يكن صحيحاً في الأرقام التي أبرزتها الجمعية اللبنانية لمراقبة الانتخابات ما روّج له هذا العهد. كمّ المغالطات والتجاوزات والرشى وتبديل الصناديق وشطب اللوائح وشراء الأصوات وما هنالك، كان تماماً صورةً عن العهود الماضية. ما جرى شبيه لعهود رستم غزالي وغازي كنعان، وشبيه بأيام ميشال المر وعهود الأنظمة ما بعد اغتيال الحريري وما فرضه الثنائي الشيعي.
ما حصل كان دليلاً حيّاً على أن هذه الانتخابات نسخة معدّلة عمّا سبقها. وتكمن خطورتها بأنها جاءت بشبان لم نسمع بهم، من داخل منظومات مدنية سابقة، أو لهم تجارب ثورية وعلى الأرض، وأحياناً يملكون كفاءات جيدة، إلا أنهم جاؤوا تحت وصاية الزعامات التقليدية، يلمّعون صورتها ويحسنون خطابها ويلبسون لباس التجديد والتغيير. فما هو تغييري، بدا مسخاً. شبحياً. بكرافاتات أنيقة وأحياناً بثياب عمالية كادحة، وخطابات حداثوية، تأتينا من عالم الأحلام والرؤى، وكل هذا لا واقع له حين حدث ما حدث.
ما حدث في كل المناطق على تغيّر أشكاله وأنماطه وأنساقه وشعاراته، كان واحداً. منظومة الموت عادت. بأدوات جديدة، تدّعي الإصلاح، وبقوة ضاربة، تستفيد من الحرب وواقع الأسى القائم والخيبة المدوية في الشارع. ومن يقرأ نتائج طرابلس لوحدها يفهم مدى الإحباط السنّي الطرابلسي وتراجع نسب المشاركة الانتخابية كدليل واضح وساطع على هذا الإحباط. فالتشتّت في الشارع السني مع تراجع قدرة أي قوة للوصول إلى الناس، دليل على موت الشارع واختفاء قدرته على تقديم نفسه. واستغلال القوى التقليدية كحال أشرف ريفي وفيصل كرامي (الاضداد في تحالفهم المتكالب على السلطة)، فتح مجالاً لأصوات جديدة وشابة أن تصل الى المجلس، لكن لن تتحرك إلا بأوامر تلك القيادات.
ما رأيناه هو عكس ما تحاول السلطة الجديدة أن تبيعنا إياه. نظام جديد، رؤية جديدة، انتخابات نزيهة، وتمهيد لانتخابات نيابية قادمة. تورّط هذا العهد في جعل هذه المنظومة تعيد ترتيب نفسها في وقت سريع. راحت تلمع صورتها وتستغل المهرجان الانتخابي لاستعادة أنفاسها وإعادة خلق مفاصلها في المجتمع المحلي (اختيارياً وبلدياً)، والتأكيد على صورتها بالزعاماتية ولو بتبديل الشخوص والوجوه، وأحياناً بالاستعانة بشخصيات لا غبار عليها الا أنها تنتمي الى هذه الحيتان وخيوطها ولن تكون سوى أداة بيدها، و«خدمتشية» في ماكينتها والترويج لها بزي التجديد والمدنية والوجوه «الكوول». جاء التصويت اعلاناً لتثبيت مواقع الزعامات التقليدية. حفرها عميقاً في خريطة البلد الجديد الذي يقدمه العهد. بروفة حية عن واقع السياسة اللبنانية اليوم، الواقعة في إقليم مشتعل ومتغير، وتحت وطأة المجازر الإثنية والعرقية والإبادات الجماعية وتغيّر خرائط وسقوط أنظمة. وبدا جلياً أنّ هذا الواقع يعيد لحيتان السياسة المحلية وزعامات الحرب وقيادات الأحزاب الطائفية وقعها ومواقعها.
استطاعت القوات اللبنانية أن تعود، بصور ابتهاجها وفيديوهات الرقص على الطريقة الترامبية، لكن بهزالة وكاريكاتورية زعيمها سمير جعجع. استطاعت أن تقول أن زعامتها الطائفية للمسيحيين واضحة، ومتقدمة، وأن قدرتها على اكتساح المقاعد في بيروت والشمال وفي البقاع، ما هي الا دليل وجودها أكثر من أي وقت مضى. وهذا ما يجعلنا نفهم أن الجيل المسيحي الجديد يستعيد الخطاب الطائفي ويعيش تحت غلالته وبين ثناياه، ولن يزيح عن خيارات أهله السابقة وما أنتجته عقلية الحرب الأهلية من تفضيل للعشيرة والزعامة الدينية. في المقابل، أخذ حزب الله وحركة أمل مقاعدهما بأريحية، والاشتراكي بزعامة جنبلاط وابنه، حافظ على وجوده التقليدي في بلداته.
ما روّج له العهد الجديد في جعل هذه الانتخابات دلالة على التغيير، لم يكن على أرض الواقع الا معاكساً. وبدا العهد الجديد مغلّفاً بالعهد القديم، بل مكرساً له، ويمهّد للانتخابات النيابية القادمة، التي ستكون شبيهة بنسخ قديمة نعرفها، منذ أيام الوصاية السورية ومروراً بنظام الأوليغارشية والبنكرجيين وثلتهم الحاكمة بأمر الواقع والخيال.
ما تأملناه صار فاشوشاً. ومن يعيش ويحيا هو منظومة الموت نفسها.