البديل بدل الهامش
منذ سنوات، وهناك رؤيتان ضمنيتان تتنافسان على معنى الاعتراض بلبنان، رؤيتان تضمّان أفكاراً وتيارات مختلفة، لكنّهما تشكّلان مقاربتين مختلفتين لمعنى العمل الاعتراضي والأهداف من تلك الممارسات الصراعية.
يمكن تسمية المقاربة الأولى بـ«الهامش»، وهي تقوم على اعتبار أنّ الاختلاف والتعارض مكانهما هامش المجتمع، ولا يمكن لهما أن يتحولا إلى متنه. من هوامش المجتمع، تصنع الأفكار الجديدة، ويتمّ تجاوز التابوهات وكسر المقدّسات ودفع الخطاب العام إلى مواقف أكثر جرأةً. الهامش يدرك أنّه لن ينجح بالانتخابات ولن يصلح لكي يتحوّل إلى خبير أو وزير. مكانه خارج دوائر السلطة، يؤثر على الحيز العام من أطرافه الثقافية والاجتماعية. الهامش يدرك أنّ لا مكان له خارج هذه الأطراف، ويفقد شيئًا من فعاليته عندما يتحوّل إلى المتن.
في مقابل هذه المقاربة الثقافية، وأحيانًا الثورية، صعد شعار آخر، منذ حوالي العقد من الزمن، يمكن تسميته بـ«البديل»، أراد أن يكوّن معارضة تطمح إلى الاستحواذ على السلطة، أي أن تشكّل «بديلاً» للسلطة الحالية. كانت مقاربة سياسية مباشرة، تقوم على ضرورة بناء التحالفات والتنظيمات لكسب أكبر دعم شعبي حول أفكارها «الإصلاحية» من أجل تشكيل كتلة قادرة على الحكم. البديل لا يريد أن يبقى في الهامش، يطمح إلى العلن والتشابك المباشر والترشيح للانتخابات وتعيين الوزراء. لا معنى في أن يبقى في الهامش، فمكانه المتن.
منذ 2019، كان هناك صراع ضمنيّ بين هاتين الحساسيتين في الاعتراض، صراع انحسم لصالح «البديل»، والذي بات وكأنّه الخيار الأكثر ترجيحًا في جوّ من الثورة والانهيار والترحيب العام بالتغيير. انتصر «البديل» على «الهامش»، إلى حدّ بات معه هو الوريث الوحيد لتجربة «ثورة تشرين»، يحدّد معناها ومصيرها. وذلك إلى أن جاءت لحظة تعثّر هذا الخيار ليتّضح للجميع أنّ الوقت حان لإعادة طرح سؤال معنى الاعتراض في لبنان.
جاءت نتيجة الانتخابات البلدية الأخيرة لتؤكّد مساراً انحدارياً «للقوى البديلة»، يطرح سؤال الاعتراض في اللحظة الحالية. فبعيدًا عن حسابات الانتخابات ودروسها، هناك سؤال أكثر صعوبةً عن أدوات وأهداف وممارسات ما يعرف بالاعتراض بهذه اللحظة، أسئلة تطرح للهامش والبديل في الآن نفسه.
نتائج الانتخابات البلدية
جاءت نتائج الانتخابات الأخيرة مخيّبة لآمال الخيار «البديل». فالخريطة البلدية أظهرت ضعف التمثيل الانتخابي للخيار البديل، ما ينذر بمعركة نيابية قادمة صعبة. لكنّ هذه النتائج لم تأتِ كمفاجأة، بل توّجت مساراً انحدارياً بات عمره سنوات. فمن فشل «النواب التغييريين» في بناء حالة تنظيمية، إلى انقسامات الخيار البديل، مرورًا بالحملة عليهم، لم تعد هذه الحالة تشكّل عنوان الاعتراض الطبيعي والوحيد. لكنّ هذا الانحدار ليس فقط مسؤولية «الخيار البديل». فالسياق السياسي الذي قدّم لهذا الخيار مغزاه السياسي لم يعد قائمًا، بعد التحوّلات العميقة التي دخلت على السياسة اللبنانية. بهذا المعنى، جاءت نتائج الانتخابات البلدية تكريسًا لتحوّلات سياسية ومسار انحداري، تطرح أسئلة جديّة للخيار البديل الذي استحوذ على الاعتراض منذ عام 2019.
سنة للانتخابات النيابية والحكومة
يواجه «الخيار البديل» سنة مفصلية، قد تحدّد إن كان لا يزال لهذا الخيار دور ليلعبه. هي سنة تفصلنا عن الانتخابات النيابية القادمة، والتي ستخاض جزئيًا حول وزن ودور «التغييريين»، أي «الخيار البديل». لكنّ هذه السنة تشكّل أيضًا تحديًا أمام رئيس الحكومة «الإصلاحي» الذي أتى جراء ضغط «التغييريين» في إيصال مرشح من خارج الطبقة السياسية. وبغض النظر عن نظرة رئيس الحكومة لدوره وموقعه السياسي، فهو بات محسوباً على «الجو التغييري»، وتجربته باتت ميزاناً لتقييم قدرة «الخيار البديل» على الحكم بطريقة مختلفة ومع نتائج مغايرة لما اعتدنا عليه. فهذه السنة ليست فقط سنة تقييم لنواف سلام أو للنواب التغييريين، بل تشكّل امتحاناً للخيار «البديل» وقدرته على إرساء حكم مختلف.
نهاية «الإصلاح» الصرف
التحدي الذي يواجهه «الخيار البديل» هو الخروج من المقاربة التقنية للحكم إلى أخرى سياسية، وبالتالي الابتعاد عن شعارات مثل «الإصلاح» و«التغيير» و«المدني»، التي تلخّص العمل السياسي إلى عمل الخبراء. بدل هذه الشعارات، بات ضروريًا مقاربة هذه الخيارات من منظور سياسي، يحدّد خارطة الأعداء والحلفاء والقواعد الاجتماعية التي يتوجّه إليها والتصوّر لمشروع أوسع يشكّل عنوانًا جامعًا وأشكال التنظيم المطلوبة. فمستقبل «الخيار البديل»، بعد انتهاء لحظة الثورة، هو التحوّل إلى حزب أو أحزاب سياسية، تتنافس على السلطة، خارج ابتزاز فكرة أن «التغيير» شعار كافٍ لإقناع الناس.
أمّا الهامش
لكنّ الاعتراض لا يكمن فقط في «البديل». هناك هذا «الهامش»، الذي طُلب منه الصمت لسنوات من أجل إعطاء الخيار البديل حظوظ النجاح. هذا «الهامش» يشكّل اليوم المكان لإعادة تعريف السياسة والثقافة، المكان لإعادة اكتشاف هذا المجتمع الذي تحوّل منذ عقد من الزمن، المكان الذي عليه أن يتجاوز ويكسر المقدّسات، حتى لو لم يكن ذلك مربحاً انتخابيًا، المكان الذي تصنع فيه التحوّلات الثقافية التي أدّت بالماضي لقيام اعتراض وثورة. زمن تجاوز البديل للهامش انتهى، لكي يعود كلٌّ منهما إلى منطقته ومنطقه. فالتراث الاعتراضي خسر من تنوعه وفعاليته ودوره في لحظة توحيد الساحات، وبات عليه إعادة ابتكار نفسه.