الانهيار الانتخابي لـ«التغييريّين»
انتهى الشهر الانتخابي، وصدرت النتائج. ما كان يعرف بـ«الجو التغييري» لم يشكّل أي وزن انتخابي في الاستحقاق البلدي، باستثناء بعض الحالات المعزولة. وقد يكون المثل الأوضح لهذه الخلاصة انخفاض تمثيل «بيروت مدينتي»، النموذج الأنجح للتجربة المحلية، من حوالي ثلث الأصوات إلى أقل من 6٪. أمّا على الضفة الأخرى، إذا اعتبرنا أنّ الأحزاب التقليدية هي خصم «التغييرين»، فكانت الانتخابات مناسبة لإعادة تأكيد سيطرتها على العمل الانتخابي، بعدما فقدت بعض هذه السيطرة في الانتخابات النيابية السابقة. ولأن النتائج كانت شبيهة بين المناطق، رغم الفروقات المحلية، علينا البحث بالأسباب البنيوية لهذا التراجع، بعيدًا عن خصوصيات كل معركة وأخطاء مرشح من هنا أو حملة من هناك.
انهيار النظام وعودة الطوائف
لم تكن هذه الانتخابات مجرّد استحقاق محلي، بل كانت أول انتخابات تجري بعد التحوّل العميق الذي طرأ على السياسة اللبنانية. فتأتي هذه الانتخابات بعد سنوات من الاعتراض والانهيار، أضعفت شرعية النظام، وبعد حرب دموية، ما زالت مستمرة، قضت على «معضلة حزب الله». كما تأتي هذه الانتخابات بعد انهيار النظام البعثي، ومعه «الممانعة»، ودخول المنطقة في حلف إقليمي جديد ما زالت معالمه تتبلور. كما حصلت هذه الانتخابات في «عهد إصلاحي»، أي في عهد لم يعد فيه «التغيير» عنواناً واضحًا للاعتراض. في ظل هذا الضياع السياسي، عادت الأحزاب لكي تؤمن بعضًا من الثبات. فجاء «التصويت الشيعي» ليعيد تأكيد حصرية الثنائي الشيعي، رغم ضعفهما، وانقسم «التصويت المسيحي» بين أحزابه المعتادة، أما «التصويت السني»، فأكّد الفراغ الحريري. في لحظة انهيار النظام اللبناني والإقليمي الذي حكم لبنان منذ عقود، لم يذهب الناخب إلى الخيارات الخارجة عن هذا النظام، بل تمسّك بأحزابه، ريثما تتضح الأمور.
نظام أسقط معارضته بلحظة سقوطه
لكنّ انهيار النظام لم يُعِد الناخبين إلى حضن الأحزاب وحسب، بل أفقد أيضاً معارضة النظام صلاحيتها. فالاعتراض، أي اعتراضٍ، مرتبط بطبيعة النظام الذي يعارضه، أكان كمخيلة سياسية أو ممارسة أو تنظيم. فالنظام، كما نتخيله، يشكّل العائق أو الخصم أو العكس، لما نتشوق له سياسيًا. نتمرّن على مقاومته، نتعلم نقاط ضعفه، نفكّك خطابه، نستثمر به بقدر ما نكرهه. بكلام أوضح، نبتكر المعارضة الصالحة له. هذا النظام انهار ولم يعد يشكّل هيكلًا موحّدًا، وبالتالي لم يعد هناك «معارضة» اليوم، بمعنى غطاء جامع لكل المتضررين من النظام.
كان هناك خطّ معارض متناسق، بدأ بعام 2015، وتتوّج بعام 2019، قبل أن يحصل على فرصة ثانية في عام 2022. رسمت هذه المعارضة النظام كـ«نظام فاسد»، حسب أدبيات الفكر المدني، ما سمح لها بالخروج من الاصطفاف السياسي والثقافي، وإن كان على حساب إضعاف الرؤية السياسية وتحويلها إلى ما يشبه مقاربة تقنية. في منظور «معارضة التكنوقراط»، كان الهدف توحيد الصفوف المدنية، المعادية لشبكة الأحزاب التقليدية، من أجل مواجهتها في الساحة الوحيدة التي كانت تتخيلها هذه «المعارضة المؤسساتية»، أي الانتخابات. بالنسبة لهذه المعارضة، لم يكن هناك حاجة لمعركة ثقافية تتخيّل لبنانًا مختلفًا، كان المطلوب إدارة أفضل للبلاد، لتتحوّل ثورتها إلى ما يشبه «الحركة التصحيحية»، أي تصحيح الفساد لتعود الأمور إلى مجراها الصحيح. ربّما كانت هذه المعارضة في صلب الموضوع في السنوات الأخيرة، لكنّها بدأت تدريجيًا تخرج من الصورة، لتصبح فاقدة للصلاحية بعد التحوّل الكبير.
من معارضة تغييريّة إلى حكومة إصلاحيّة
لم يعد هناك إسقاط لنظام لم يعد موجودًا كما كان. وبالتالي لم يعد هناك صلاحية لشعارات كالإصلاح أو التغيير أو المدنيين، لتصلح كرافعة للاستحقاق القادم. بكلام أدق، هذه الشعارات كانت رافعة لاعتراض على نظام. أمّا اليوم، فباتت عنواناً لعهد أو فريق حكومي، يستمدّ بعضًا من شرعيته من هذه الأدبيات. فالاستحقاق النيابي القادم لن يكون حول «الثورة» و«شعاراتها»، بل حول مشروع هذه الحكومة وصراعها الضمني مع أحزاب قرّرت إلغاء أي إمكانية لإصلاح أو تنوع سياسي. لم تنتظر هذه المعركة الانتخابات البلدية، بل بدأت مع السجال حول المصارف، وحملة التخوين التي ترأسها تلفزيون المصارف. من المتوقع أن تستمر حتى الانتخابات القادمة، حيث تريد الأحزاب إعادة ما خسرته منذ بضع سنوات، لفرض خياراتها السياسية. أما خيار الاستمرار بحكومة إصلاحية، فيتطلب بناء أوسع تحالف نيابي من حولها، بين «تغييريين» وأحزاب.
من البديل إلى الهامش
لكنّ إرث هذه المعارضة، ولحظة الثورة التي توّجتها، لا يجد أثره فقط في الحكومة أو في أي تحالف بين سياسيّين يمكن بناؤه من حولها. منطق الضرورة السياسية لا يختصر إمكانيات هذه اللحظة. فالتحوّل الكبير الذي أزاح الثورة وأسئلتها من الصدارة يتطلب العودة إلى الهوامش، هذه الهوامش التي غادرناها مع صعود شعار البديل، والتي تشكّل البعد الثقافي والاجتماعي للسياسة. الهامش هو من يدرك أنّه من الخوارج، وسيبقى على أطراف المجتمع، يحوّله من خارجه، إن استطاع إلى ذلك سبيلاً. أمّا البديل، فهو من يعتقد أنّه يمكن أن يشكّل بديلاً للنظام، نسخة أفضل منه. لحظة الثورة كانت لحظة تقاطع هاتين الحساسيتين، بين من نظر إلى ما يحدث كمحاولة لتحويل ثقافة هذا المجتمع من الهوامش، أو من اعتقد أنّ أبواب المجلس مفتوحة له ليقود المجتمع. هذا التزاوج انتهى اليوم، لنعود إلى هوامشنا حيث حرية النقد والتجاوز لا تُضبَط من ضروريات التوحيد والانتخاب.
قبل البحث بشكل الاستحقاق القادم وكيفية خوضه، على الجميع أن يعاين عمق التحوّلات التي جرت بالأشهر الماضية، لتفادي الخطيئة الكبرى في السياسة، وهي فقدان الصلة مع الواقع.