تعليق لبنان
خالد صاغيّة

حُكم المافيا وحُكم الخُبَراء

12 حزيران 2025

في تعداده لإنجازات المئة يوم من عمر الحكومة، ذكر الرئيس نواف سلام أنّ رؤية حكومته الاقتصاديّة تقوم على تصحيح أخطاء الماضي. لكنّ خطاب سلام جاء بعد أسبوع على تكرار حكومته الحرفيّ لـ«أخطاء الماضي». فباسم الإصلاح، يدخل البلد مرحلةً هجينة يتنافس فيها حُكم المافيا مع حُكم الخبراء، في مشهد تدفع ثمنه الفئات الأكثر هشاشةً في المجتمع.


تعميق الفقر ومساعدة الفقراء 

ليس سرّاً أنّ إحدى الركائز الأساسيّة للسياسة المالية للحكومات السابقة كانت تقوم على فرض الضرائب غير المباشرة التي تصيب عموم المقيمين، أثرياء وفقراء على حدّ سواء، وتفادي الصدام أو حماية مصالح النافذين والمحتكرين. ما من مثال أوضح على هذه العودة إلى «أخطاء الماضي» من قرار الحكومة الأخير فرضَ الضريبة على المحروقات. وما من مثال أوضح على وقاحة اللجوء إلى هذا النوع من الضرائب، في هذا التوقيت بالذات، من تصريح وزير المال بأنّ هذه الضريبة تخفّف من أعباء زحمة السير. 

كان يمكن اعتبار الضريبة على المحروقات «زلّةً» متسرّعة لولا أنّها جاءت بعد أسابيع قليلة على تنازلٍ اقتصاديّ آخر قامت به الحكومة لمصلحة مافيا المحتكرين في مسألة تصحيح الأجور. فبعد جولات من التفاوض الشكليّ، نزل وزير العمل عند رغبة «الهيئات الاقتصادية» بأن يقتصر الأمر على رفع الحدّ الأدنى للأجور إلى نحو 300 دولار فقط لا غير، و«تأجيل» البحث في تصحيح سائر الأجور.

بالتوازي مع هذَيْن القرارَيْن المُنحازَيْن، بشكل مباشر وغير مباشر، ضدّ مصالح الفئات الأكثر هشاشةً في المجتمع، أبدى رئيس الحكومة سعادته بالحصول على تمويل إضافيّ لبرنامج «أمان» «لتعزيز الحماية الاجتماعية للأُسَر الأكثر فقراً»، والذي بات يغطّي نحو 800 ألف مستفيد. وإذا كان الحصول على تمويل لهذا البرنامج يستدعي بعض الإيجابيّة، فإنّ ما ينبغي أن يُقلِق رئيس الحكومة هو أنّ هذا العدد من المستفيدين لا يمثّل، وفقاً لوزيرة الشؤون الاجتماعيّة، إلا 45% من الفقراء في لبنان، أي أنّ فقراء لبنان قد تجاوزوا المليون ونصف المليون. صحيحٌ أنّ هذه الحكومة ليست المسؤولة عن ارتفاع عدد الفقراء في لبنان، لكنّها المسؤولة عن معالجة مسار إفقار اللبنانيّين، الذي خطّته ونفّذته الحكومات السابقة، ولا يمكن تغييره من خلال السياسات الأخيرة بشأن الضرائب والأجور، وهي سياسات تعمّق الفقر قبل أن تحاول تعويض الفقراء بفُتات برامج المساعدات.


الصندوق عدوّ أم صديق؟

ليست هذه السياسة المتّبعة ارتجاليّةً. إنّها مجرّد البداية لسياسات مماثلة أكثر خطراً، تندرج ضمن الوصفات المعهودة لصندوق النقد الدولي. وحسناً فعل رئيس الحكومة حين قال، في مئويّة حكومته، إنّ المفاوضات مع صندوق النقد الدولي تتقدّم بجدّية ومسؤوليّة، وإنّ الصندوق لا هو عدوّ ولا هو مُنقِذ، بل أداة… نستخدمها بعقلانيّة لخدمة مصلحة الناس. لكنّ الجدّية والمسؤوليّة في المفاوضات تكمنان بالضبط في تحديد أين يكون الصندوق «عدوّنا» وأين يكون «منقذنا». عندها فقط، يتحوّل إلى أداة لخدمة مصلحة عموم الناس.

فلبنان الذي رزح طويلاً تحت حُكم المافيا، سيجد في الصندوق صديقاً حين يفرض إقرار الإصلاحات المتعلّقة بالسرّية المصرفية وإعادة هيكلة المصارف وقانون الفجوة الماليّة. لكنّ الصندوق، بلا شكّ، هو عدوّ للّبنانيّين حين يمنع تصحيح الأجور ويشجّع الضرائب غير المباشرة ويحوّل الرعاية الاجتماعية إلى استماراتٍ للآُسَر أكثر فقراً. وإذا كانت ارتكابات حُكم المافيا قد جعلت اللجوء إلى الصندوق ممرّاً شبه إجباريّ للخروج من الأزمة، فإنّ رضوخ الحكومة لأسوأ وصفات الصندوق ليس قدراً محتوماً.

لقد مرّ الصندوق بتحوّلات أيديولوجيّة في السنوات الأخيرة. فبعد الكوارث التي تسبّبت بها وصفاته على مدى عقود وفي أكثر من بلد، طرأت تحوّلات على وصفات الصندوق نفسه. ولعلّ أبرز هذه التحوّلات الانتقال من الـBail-out إلى الـBail-in. فأقلّه منذ أزمة القروض التي أصابت قبرص العام 2013، تخلّى الصندوق عن فكرة إنقاذ المصارف من خارجها (Bail-out)، أي من الحكومات أو المصارف المركزية أو الصندوق نفسه، وبات يعتمد سياسة إجبار المصارف على تحمّل قسطها من أعباء الانهيار (Bail-in). هذا التحوّل بالذات هو ما جعل لوبي المصارف يشنّ حملةً على تدخّل صندوق النقد الدولي، وما دفع أبواق هذا اللوبي إلى اتّهام الصندوق وكلّ مَن يروّج لإعادة هيكلة المصارف بأنّه جزءٌ من مخطّط تخريبيّ. فالمافيا اللبنانية من مصرفيّين ونافذين تريد المحافظة على كلّ ما نهبته في العقود الثلاثة السابقة، وتريد أيضاً إعفاءها من أيّ مسؤوليّة عمّا حدث.

هذا التحوّل في أداء الصندوق لا ينسحب على سائر مكوّنات وصفاته التي تركّز على فرض الضرائب والتقشّف ورفع الدعم وتعويم العملة والخصخصة، وهذه كلّها إجراءات تصيب عموم الناس، والصندوق يعرف ذلك، فيقترح كتعويض برامج لاستهداف الأسر الفقيرة. لكنّ ما يهمّ الصندوق من هذه الوصفات ليس الإجراءات نفسها، بل ما تفترضه من خفض للعجز وترتيب للموازنة العامّة. والواقع أنّ حُكم المافيا قد سهّل على الحكومة الحاليّة مهمّتها مع الصندوق في هذا الجانب. فالحكومات السابقة لم تنتظر الصندوق لتطبّق الكثير من مكوّنات هذه الوصفة الموجعة، إذ رُفِع الدعم، و«تحرّرت» العملة، وبات التقشّف يمنع الدولة من التصرّف حتّى بأموال الضرائب التي تتكدّس في مصرف لبنان، وقد تجاوزت حتى الآن السبعة مليارات دولار. لكنّ الأهمّ هو أنّ حُكم المافيا، بسبب ارتكاباته وفساده، يفتح المجال لكثير من الإيرادات التي يمكن للدولة تحصيلها إن قرّرت فعلاً مواجهة المافيا، سواء في جباية الضرائب أو الجرائم البيئية والاعتداءات على الأملاك العامّة… ما يسمح بإعادة ترتيب الموازنات من دون تحميل الفئات الأكثر هشاشةً عبء هذا الترتيب. إذا لم يكن هذا جزءاً من خطّة الحكومة، ومادّة تفاوض مع صندوق النقد، فإنّ «الإصلاح» لن يتعدّى كونه ترتيباً لمعادلاتٍ حسابيّة على حساب غالبيّة اللبنانيّين، وسيثبت مرّةً أخرى أنّ الصندوق ليس إلا عدوّاً فعلاً، لا مجرّد أداة.


حُكم الخبراء

بسبب العلاقة الوطيدة بين الأحزاب التقليديّة والمافيا، فضّل نوّاف سلام ألا يشكّل حكومة سياسية، بل حكومة خبراء، حكومة يمتلك وزراؤها المعرفة التقنيّة التي تدّعي إيجاد الحلول للمشكلات المستعصية. لكنّ مخاطر هذا الادّعاء أنّه يقدّم نفسه وكأنّه «فوق السياسة». فقد يتحوّل الوزراء إلى ما يشبه موظّفي المؤسّسات المالية الدولية الذين لا وقت لديهم أساساً لدراسة الواقع السياسي والاجتماعي للبلدان التي يُرسَلون إليها، فيحصرون مهمّتهم بفرض تطبيق وصفاتٍ جاهزة يسمّونها «إصلاحاً» أو «إصلاحات بنيويّة»، دون النظر إلى تأثير هذه المؤشّرات على حياة الناس. 

لكنّ الأخطر هو أنّ «حُكم الخبراء» لا يكتفي بتقديم الحلول التقنيّة كما لو أنّها حقائق علميّة لا تخضع للسياقات الاجتماعية والسياسية، بل يفرض علينا أيضاً تعريف المشاكل التي نواجهها. هكذا قد يكفّ الانهيار عن كونه أزمةً اقتصاديةً دمّرت القدرة الشرائية لعموم الناس، وفاقمت التفاوت الطبقيّ بين اللبنانيّين، وبات يُقدَّم كزلزال منع المصارف من أداء دورها في تحريك ما يسمّى بالعجلة الاقتصادية، وأفقد المودعين الصغار والكبار مدّخراتهم. تحوّل الانهيار إلى أزمة مصارف وأزمة مودعين في بلدٍ بات عدد المودعين فيه موازياً لعدد الفقراء الذين لا علاقة لهم بالودائع. وإزاء هذا النوع من التعريف للمشكلة، يصبح الهمّ الأساسي للحكومة وخبرائها إيجاد حلّ لإعادة الحياة لمصارف لا يريد أصحابها أن يتحمّلوا أيّ كلفة لهذه العودة، وإيجاد مخرج للودائع، حتى لو كان هذا المخرج غير عادل بالنسبة لسائر الناس. لا يمكن التخفيف من خطورة نهب الودائع والمدّخرات، ولا شكّ أنّ إيجاد حلّ للودائع ينبغي أن يكون من أولويّات أيّ حكومة، لكنّ آثار الانهيار لا يمكن اختزالها بأزمة الودائع، لأنّ اختزالاً كهذا هو الذي يسمح بعمليّة نهب جديدة يتحمّل كلفتها عموم اللبنانيّين، لكن هذه المرّة باسم الإصلاح والخروج من نفق الانهيار. 

لعلّ الضريبة الأخيرة التي فرضتها الحكومة على أسعار المحروقات، وهي تعلم أنّها ضريبة تصيب عموم الناس، وترفع أسعار الكهرباء ومولّدات الأحياء، ناهيك بأسعار سائر السلع الاستهلاكية، هي خير دليل على كيفيّة تعاطي خبراء الحكومة مع الأرقام كما لو أنّها لا تحمل أيّ بُعد اجتماعي، وكيفيّة التعاطي مع الإصلاح كما لو أنّه تعويذة تكفي ليتحمّل الناس مَنهبةً جديدة. تماماً كما طمأنَ رئيس الحكومة المودعين أكثر من مرّة أنّه مع «شطب فكرة شطب الودائع»، هناك مَن يحتاج إلى الطمأنة بأنّ أيّ اتفاق مع صندوق النقد الدولي لن يكون على حسابه، سواء من خلال إرهاقه بضرائب غير عادلة أو من خلال حرمانه من الأجر الذي يستحقّه. 

لكن في مواجهة حُكم المافيا، لا نجد من الحكومة حتى الآن إلا حُكم الخبراء الذين يقدّمون أنفسهم كما لو أنّهم يحملون وصفاتٍ موضوعيّة لا انحياز فيها ولا غاية لها إلا إنقاذ البلد، جاعلين من شعار الإصلاح وعداً بخلاصٍ مؤجَّل لا قاعدة شعبيّة له ولا مصالح محدّدة يدافع عنها.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
إشعار من السفارة الأميركية في بيروت:
روبيو: لم نُعلِن الحرب على إيران إنما على برنامجها النووي 
عراقجي: ترامب خان إيران والمفاوضات وسيتحمّل العواقب    
قيل هذا الأسبوع 15 حزيران - 21 حزيران 2025
جيش الاحتلال يُعلن استعادة جثث 3 أسرى من غزّة