تكرار
ذكرى الحرب باتت مضجرة، هذه العودة الدائمة إلى الحدث المؤسِّس للجمهورية الثانية التي باتت تشبه الفولكلور البائت. فما مِن جديد يمكن أن يضاف إلى ذكرى هذا الحدث. كل معركة فيها باتت موثّقة، كل شخص عايشها تمّت مقابلته في فيلم أو مقالة أو وثائقي، كل القصص تمّ سردها. لم يعد الحدث مهمًّا، بات التكرار هو المطلوب.
درس الحرب الأهلية
لكن رغم ذلك، لم تشبع «ماكينة الاستذكار». فهي ليست مهتمّة بالماضي. الذكرى، كالأعياد الدينية، تتوجّه للحاضر كفعل أمر. فللاستذكار هنا هدف أو درس تأديبي، مفاده أنّ «الحرب الأهلية هي الشرّ المطلق». فلكلّ نظام سياسيّ نظيره الأخلاقي، أو حدوده الأخلاقية ومفهومها للشرّ، كالمحرقة والنظام الألماني أو الفصل العنصري وأفريقيا الجنوبية أو الإرهاب والولايات المتحدة. لنظام الطائف، هذا الشرّ هو «الحرب الأهلية»، هناك تقع حدود هذا النظام.
الحرب الأهليّة لغة الاعتراض
أن تكون الحرب الأهلية هي مفهومنا للشرّ، فهذا يعني أنّ لغة الاعتراض في جمهورية الطائف تلوّنت بالعلاقة مع هذا الحدث. فالاعتراض على سياسات الحريري غالبًا ما ربطت بين سياسة الإعمار والنسيان، أو السياسات النيوليبرالية والشروط الاقتصادية للحرب. من بعدها، جاء اعتراض القوى المسيحية على تهميشهم بلغة تعود إلى الحرب الأهلية وشعار «عزل الكتائب». مَن يعارض في الجمهورية الثانية هو مَن يحذّر من «العودة» إلى الحرب الأهلية.
الذكرى بعد الحرب
ولأنّ الذكرى هي انعكاس للحاضر، اتّسمت معظم دروس هذه السنة بتلاوين من «الرواية المسيحية»، أي الحرب كنتيجة مقاومات خارجة عن سيادة الدولة. بين فتح وحزب الله خط بياني، يعيد تكرار تراجيديا لبنان، البلد الضعيف الباحث عن سيادة مستحيلة. لم يعد البعد الداخلي، أكان اقتصادياً أو طائفياً، هو من يشار إليه عندما نتذكر الحرب. حلّت محلّه مسألة السلاح، لكي تأتي هذه الذكرى كجزء من الصراع الحالي حول حزب الله.
يمين جديد قيد الإنشاء
تأتي هذه الذكرى في لحظة انتعاش خطاب، يمكن تسميته باليميني، يعيد تكرار بعض المواقف التقليدية للقوى المسيحية، في لحظة انكسار الخصم المستجدّ الذي شكّله حزب الله في الآونة الأخيرة. نرى بعض تجلّيات هذا الخطاب في الهجوم على الوزير طارق متري في بداية تشكيل الحكومة الجديدة أو التذكير الدائم لبعض إعلاميي هذا التيار بتاريخ رئيس الحكومة «اليساري» أو بالكلام السخيف عن مؤامرة كونية من «اليسار العالمي». الذكرى هذه السنة تلوّنت بهذه الحساسية.
المسألة المسيحيّة والطائف
هي لحظة انتعاش خطاب شُكّل من مسلّمات جمهورية الطائف، كالخوف من الحرب الأهلية. فمنذ انطلاق هذه الجمهورية الثانية، بقيت مسألة التمثيل المسيحي معلّقةً وموضوعَ سجالات دائمة. فمن التهميش والإحباط المسيحي، إلى مسألة الصلاحيات الرئاسية، مرورًا بالقوانين الانتخابية، ولا سيّما «الأرثوذكسي» منها، يبقى موضوع الموقع المسيحي في نظام الطائف موضوعاً إشكالياً، ولأسباب مفهومة. وفي لحظة الانهيار هذه، تعود هذه المسألة إلى الواجهة، ولكن بطريقة ملتوية، من خلال خطاب «يميني» اعتبر أن وقته قد حان بعد انتظار دام ثلاثين سنة.
المصرف وراء الخطاب
لكن، كما يجري بالعادة، غالبًا ما تختبئ وراء المسائل المشروعة مصالح تحاول استغلالها. فصعود هذا الخطاب الجديد جاء مقرونًا بدفاع عن المصارف في لحظة التفاوض المنتظرة بعد سنوات من التهرّب من مواجهة الأزمة. ويستغلّ هذا اللوبي كامل أدوات الضغط من أجل التحريض على كلّ مَن يعتبر أنّ هناك عدالةً مطلوبة في ملف الانهيار المالي، متّهماً إياهم بـ«اليسار العالمي» أو «إعلام حزب الله». فمن أجل الحفاظ على مكتسبات جناها من الأزمة ومن قبلها، يبدو هذا اللوبي مستعدّاً لتحوير أيّ شيء.
النسيان
فما يريدنا أن نفعله هذا الخطاب هو بالضبط «النسيان». أن ننسى أنّه قبل خمس سنوات، سرقت المصارف الودائع. وعلى مدار السنوات الأخيرة، منعت أيّ تدقيق فعليّ أو خطّة إصلاح. وأنّها ما زالت تنفضح بقضايا جديدة تُظهر، ليس فقط مسؤوليتها بالأزمة بل استغلالها للأزمة من أجل زيادة أرباحها. يجب أن ننسى كل هذا، بل أن نتذكر، من دفاتر السبعينات «يسارًا عالميًا» لا مكان له في الوجود إلّا بعقول من بقي سجينًا بأدبيات الحرب الباردة.
فإذا كان مطلوباً منّا، بمناسبة الحرب الأهلية، أن نتذكّر، فلنبدأ بتذكُّر كلّ جريمة ارتكبت بحق هذا البلد، ومن بينها الجريمة المالية التي تتحمّل مسؤوليتها المصارف، إلى جانب الدولة.