تعليق إعلام
دارين أبو سعد

صور القتل اليومي في السويداء

العدسة كأداة عنف

23 تموز 2025

صور المجازر اليوميّة

في محافظة السويداء، ثلاثة شبّان يُجبَرون على القفز من الطابق الرابع، ثم يُقتلون برصاص القوات التابعة لوزارة الدفاع السورية أمام أعين العالم.
في جامعة دمشق، طلاب يُحرّضون علناً على طرد زملائهم من السكن الجامعي لمجرّد انتمائهم إلى الطائفة الدرزية، ويدعون إلى «تطهير المكان» من المختلفين، باسم الثأر والدم.
في جنوب لبنان، صرخة طفلة تقول: الله يخليكن تعالوا ساعدوني، بابا وماما عم يموتوا، بعد أن فقدت والديها أمام عينيها خلال الغارة الإسرائيلية على بلدة قبريخا.
في غزّة، صوت امرأة يختصر المأساة كلّها: لا طعام، لا ماء، لا مال... وإن وجد، لا شيء نأكله.

وجوه مذعورة، أجساد منهارة، وأصوات تستغيث.
مجازر موثّقة بالصوت والصورة، تمرّ أمام أعيننا يوماً بعد يوم ولكن لا شيء يتغيّر.


العدسة والجريمة

في السويداء، التوثيق لم يكن أداة فضح، بل امتداد للرصاصة. يصوّر القاتل جريمته بيده، يوثّق لحظة الإذلال، ويبثّها بفخر كعلامة على «النجاح». هنا، الكاميرا لا تحمي، بل تُستخدم كأداة للتأديب الجماعي العلني، تُرهب وتُهين، لتُعيد رسم ملامح السيطرة. لا تُستخدم لنقل الحقيقة، بل لفرضها بالقوة.

أما في غزة، فالتوثيق هو فعل نجاة. يصوِّر الصحافيون تحت القصف،  يصوَّر الجوع، يصوَّر الخوف، كي لا يُختصَر الإنسان في رقم ضمن تقرير أممي، أو منشور صحفي. لا يفاخر الفلسطيني بمجزرة، بل يحاول أن ينجو من مشروع التطهير العرقي. يوثّق الفلسطيني لا لينجو وحده، بل ليمنح شعبه حق البقاء في الذاكرة، وحقّ الظهور في وجه مشروع الإبادة. يوثّق كي لا تُمحى الوجوه، ولا تُنسى الأسماء، ولا تمرّ المجازر بصمت. فعل التوثيق في فلسطين ليس حيادياً، بل هو شكل من أشكال المقاومة، ولذلك يُستهدَف أصحاب الكاميرات كما يُستهدَف أصحاب البنادق، لأنّ كشف الحقيقة في حدّ ذاته تهديد للمحتل.


الوضع المناسب للمقابلة

في بثّ مباشر على قناة عربية، ظهرت إحدى النساء الدرزيات المختطفات، تحت سيطرة فصائل مسلّحة موالية للنظام الحالي، وهي تتحدّث بتردّد عن محاصرتها في منزلها لأيام. وعندما سألها المراسل عن سبب خروجها مع المسلحين، أجابت بجملة أربكت السياق المتوقع للمقابلة: هني طلعوا جابونا. عندها، تدخّلت المذيعة من الاستوديو قائلة: يبدو أن الوضع غير مناسب لإجراء هذه المقابلة. ثمّ انقطع البث مباشرة.

لاحقاً، أصدر المراسل توضيحاً أشار فيه إلى صعوبة الظروف الميدانية، وإلى أن إجراء المقابلة في تلك اللحظة لم يكن قراراً موفقاً. إلا أن ما كشفتْه تلك اللحظة يتجاوز الملابسات التقنية أو الميدانية، إذ سلّطت الضوء على الشكل الذي يُنتظر من التوثيق أن يظهر عليه، وعلى الكيفية التي يُدار بها الظهور الإعلامي ضمن حدود رواية مسبقة. فعندما لا تتطابق الإجابة مع الخط السردي المعتمد، يصبح التوثيق نفسه موضع شك، ويُسحب من الهواء لا لحماية الضحية، بل لحماية الرسالة. وهكذا، تُمنَح الكاميرا الحق في البث حين تخدم الرواية، وتُغلق حين تخرج عنها.

مساحة التوثيق، إذاً، ليست حقاً مضموناً، بل أداة تتحكّم بالرواية: متى تُقال، كيف تُقال، ومن يُسمَح له أن يكون حاضراً فيها.


الإعلام كأداة في المجزرة

في السويداء، لم يكن القتل معزولاً عن الإعلام، بل كان الإعلام جزءا من أدواته. قُطعت الاتصالات، وترافقت الحملة مع تعبئة إعلامية منهجية. صُنعت صورة «الخائن والعميل الدرزي»، وروّجت عبر وسائل إعلامية رسمية وشبه رسمية، ومنصات شخصية شاركت في التحريض. نُشرت مقاطع مضلّلة ومفبركة، لكنها كانت قد أدّت غرضها: تهيئة الأرض لتبرير المجزرة.

هذا التعتيم الإعلامي الذي يسود في السويداء، يسود في غزة أيضا، حين تُمنع التغطية، ويعتقل الصحافيون، ويُقصفون مباشرة، كما قصفت عائلاتهم.  تحجَب الصورة لأن الصورة قادرة على إدانة القاتل، وقادرة على منح الضحية صوتاً.


العنف كامتداد للصورة

ما تكشفه هذه المشاهد ليس فقط عنفاً ممنهجاً، بل طريقة منظمة في إدارة الظهور كمدخل للعنف. 

تُمنح بعض الأجساد حقّ الحضور، وتُقصى أخرى من الشاشة كما تُقصى من الحياة. لم تعد الصورة مجرّد انعكاس للحقيقة، بل أداة لإنتاجها، تُستخدم أحياناً لحجب الضحية، وأحياناً لإعادة تشكيلها بما يخدم السردية الرسمية. وهذا التلاعب بمن يُمنَح صورة، ومن يُسلب منها، لا يبقى حبيس الشاشة، بل يمتد إلى الشارع. 
في لبنان مثلاً، شهدت مناطق عدّة اعتداءات على مقيمين سوريين، بحجة التضامن مع ضحايا السويداء. نُشرت مشاهد تُظهر شبّاناً يضربون عمّالاً سوريين في الشارع، يعترضون سياراتهم، يصوّرونهم وهم يتعرّضون للشتائم والإهانات، في ما بدا كمشهد استعراض للقوة لا توثيقاً للانتهاك.

في هذا السياق، لا تعود الكاميرا وسيلة توثيق، بل ساحة صراع، يُحدَّد فيها من يستحق أن يُروى، ومن يُختزل، ومن يُمحى. تُراقب الصورة، تُوجَّه، تُفلتر، في عملية تكشف موقعها كأداة في المعركة لا مجرّد شاهد عليها. هكذا، لا تُستخدم الكاميرا هنا للحماية أو المحاسبة، بل كجزء من العنف نفسه، تُصوّر الضحية لتُذلّ لا لتُنقذ. وكأن التضامن لا يكتمل إلا بإعادة إنتاج العنف، ولكن في وجه ضحية أخرى.

وبين الرقابة والنجاة، بين التشويه والتوثيق، تُصاغ ملامح الضحية وفق ما تحتاجه الأنظمة من سرديات، لا وفق ما تعيشه من وقائع أو معاناة حقيقية. وهكذا، يتحوّل العنف إلى خطاب متكامل. في النهاية، ما نعيشه اليوم ليس عنفاً عابراً، بل مشروع منظم تُحدَّد فيه الضحايا سلفاً، ويُعاد تشكيل صورتهم بما يتماشى مع الحاجة السياسية. 

وإسرائيل، التي تُدرَج كعامل عرضي في خلفية المشهد، حاضرة في عمقه: تديره وتغذّيه، حتى حين يتولّى غيرها التنفيذ. ومن لا يرى هذا التشابك، لن يرى سوى ما يُراد له أن يراه: ضحايا بوجوه متبدّلة، وعدوّ يتغيّر حسب الموقع والطائفة.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
زياد الرحباني
28-07-2025
تقرير
زياد الرحباني
1956 - 2025
حدث اليوم - الإثنين 28 تمّوز 2025
28-07-2025
أخبار
حدث اليوم - الإثنين 28 تمّوز 2025
نقد

آثارٌ على رمال البلد والذاكرة 

هلال شومان
ناشطو السفينة «حنظلة»
147 شهيداً  بالمجاعة والحصار 
دايماً بالآخر في آخر: زياد الرحباني يودّع مدينته