تحليل سوريا
منار شربجي

الفزعة 

أحد وجوه سوريا الجديدة

2 كانون الأول 2025

أين الفزعة ضدّ المحتلّ؟

يوم الجمعة، ارتكب جيش الاحتلال الإسرائيلي مجزرة في بلدة بيت جن في ريف دمشق، بعد ساعاتٍ من اقتحام إسرائيليين ريف القنيطرة لإنشاء بؤر استيطانيّة. كانت حصيلة المجزرة 13 شهيداً و24 جريحاً على الأقل. تصدّى أهالي البلدة بأجسادهم وأسلحتهم المحدودة لجنود الاحتلال الذي توغّلوا بين المدنيّين، بحجّة اعتقال «مخرّبين». 

لم تتوصّل السلطات السوريّة بعد لاتفاقٍ أمنيّ مع إسرائيل يضمن لها حقّ انتشار القوّات السوريّة في المناطق المحاذية لدولة الاحتلال (بغضّ النظر عن إذا ما كانت ستتصدّى للتوغّلات الإسرائيلية بشكل ممنهج أو فرديّ). تترك هذه الفجوة الأمنيّة أهالي المناطق الحدوديّة وحدهم أمام إرهاب إسرائيل، كما يجري في درعا والقنيطرة

لذلك، تمحورت الكثير من التعليقات بشأن المجزرة حول سؤالٍ واحد: أين الفزعة ضدّ المحتلّ؟ أم أنَّ الفزعة فقط للتحريض الطائفي؟ أيّهما أجدر بالفزعات؟


الفزعة

بمعناها الأساسي، تجسّد الفزعة الاستجابة الطارئة للفرد أو الجماعة خلال الخطر والأزمات والكوارث. يزيل مفهوم الفزعة الحرج من طلب المساعدة، إذ يضع الاستنجاد ضمن إطار التلاحم والواجب الاجتماعي، فيتحوّل طلب العون وتقديمه إلى شرفٍ متبادل. في المعنى الحرفي، تكون الفزعة ظاهرة اجتماعيّة نبيلة، إلّا أن ترجمتها إلى أرض الواقع تفقدها بالفعل الكثير من إيجابيّتها.

كانت الفزعة الأولى لإسقاط نظام الأسد من أهمّ عوامل إنجاح «ردع العدوان»، حين آزرت فصائل الجنوب السوريّ الشمال، لتقصير الطريق إلى دمشق. عندما نسأل عن هذه الفزعة، أو عن غيابها بوجه الاحتلال، لا شكّ بأنها تحافظ على معناها المباشر بالتوحّد والمؤازرة. 

لكن إذا ما نظرنا إلى أحوال السويداء أو حمص أو الساحل اليوم، نجد أنَّ الفزعة كانت أداةً للتحريض ونمطاً جديداً للقتل الطائفي. فمنذ سقوط النظام، يبدو أنَّ الفزعة ترسّخت كعقدٍ اجتماعيّ سياسي جديد في سوريا، عقدٍ ذي وجهَيْن، أحدهما يتبجّح بالعنف، والآخر يتعطّش لإعادة بناء النسيج السوريّ الذي مزّقه الأسد.


الفزعة كنمط للقتل الهَمَجي

خلال الأشهر القليلة الماضية، ظهرت الفزعة كآلية حشد ومناصرة عابرة للطوائف. كان آخرها الفزعة التي شهدتها مدينة حمص، بعد مقتل زوجين من عشيرة بني خالد في 23 تشرين الجاري. بحجّة كتابة «يا علي، يا حسين» فوق جثمانيهما، استنفر بعض أبناء العشيرة وهجموا على الأحياء العلويّة، حيث أحرقوا سيّارات ومحالّاً للمدنيّين، قبل أن يتدارك الأمن العام الوضع، وتعلن العشيرة رسمياً رفضها للتحريض والاعتداء على الآخر.

لكنّ الفزعة ليست حكراً على العشائر السنيّة أو الشرائح الموالية للسلطات الجديدة. بدعوةٍ من رئيس المجلس العلوي الأعلى في سوريا، الشيخ غزال غزال، فزع العلويّون في الساحل السوري دعماً لحمص، ضدّ القتل الطائفي، علماً أنَّ عبارات طائفية تردّدت أيضاً في هذه التظاهرات. بالمقابل، فزع مؤيّدون متطرّفون للسلطة لقمع التظاهرات وردّ الطائفيّة.

قبل ذلك، كان المقاتلون الأجانب في سوريا قد فزعوا لنصرة المقاتلين الفرنسيّين بعد مداهمة أمنيّة لمخيّمهم في ريف إدلب، في تشرين الأوّل الفائت. اعتبر المقاتلون مداهمة الفرنسيّين تهديداً لوجودهم في سوريا، وخيانةً لتضحياتهم، ومحاولة لتصفية ملفّهم، فحاولوا مناصرة بعضهم بعضاً بوجه قوّات الأمن العام. تبدو الفزعة هنا كمحاولةٍ عنيفة، وبائسة بعض الشيء، لانتزاع نوعٍ من القوّة بعد الخذلان. 

قبل المقاتلين الأجانب، برزت اشتباكات السويداء كتجسيدٍ للعنف الذي يمكن أن تولّده الفزعة التي لم تحكّم حينها أي مبادئ لحفظ الكرامة، بل شرّعت الهجميّة الدامية والنزعة الانتقاميّة. اعتمدت معارك السويداء، في تمّوز الفائت، بشكلٍ أساسي على فزعة العشائر، التي أعلنت النفير العام وتوافدت من كافّة أنحاء سوريا دون رادع. بالمقابل، توحّدت معظم الفصائل الدرزيّة، رغم اختلافاتها، ضدّ العشائر وقوى الأمن السوريّ. نكّل كلّ طرف بالآخر بدرجاتٍ مختلفة، في مشهدٍ يبرّر كافة أشكال العنف لحماية الجماعة، ويلغي أي حلول بديلة عن الحشد والشحن الطائفي.

تجلس الفزعة إذاً على طيفٍ من العنف، يبدأ بهتافات طائفية عرضيّة تزرع حقداً دافناً في نفوسنا، ومن ثم تتطوّر شيئاً فشيئاً لمؤازراتٍ توقظ الحقد الطائفي ليتحوّل إلى مجازر قتلٍ ممنهج. في شقّها العنيف، تكرّس الفزعة عزل الجماعة عن المجتمع السوري الأكبر. فهي تغذّي سرديّة مظلوميّة جماعة بوجه أخرى، وتبرّر الوحشيّة كردّة فعل طبيعية ومنطقيّة على التهديد الفعلي أو المتخيّل. وهنا تأتي الفزعة كي تعزّز تمزّق وعزلة المكوّنات السوريّة وانفصالها المعنوي قبل المادّي.


الفزعة كنمطٍ للتضامن المجتمعي

لا يقتصر مفهوم الفزعة على استخدام السلاح لانتزاع وفرض السيطرة، فلها حلّة ثانية، كأداةٍ للتلاحم الاجتماعي. تظهر هذه الصورة الموازية، من الفزعات التي حرّرت سوريا من نظام الأسد، إلى محاولات تجاوز العجز في مختلف المناطق السوريّة.

برز مؤخراً شكلٌ جديد شبه رسمي للتعاضد، من خلال حملات جمع التبرّعات في المدن السوريّة، كـ«عزّنا بفزعتنا» و«أبشري حوران» و«فداء لحماة» و«الوفاء لإدلب»، التي تحمل معاني الفزعة بشكل مباشر وغير مباشر. لم تظهر بعد نتائج هذه الحملات على الأرض كونها حديثة، إلا أنَّ 17 حملة حتّى الآن استطاعت أن تجمع أكثر من 600 مليون دولار، بهدف إعادة ترميم القطاعات الأساسية والبنى التحتية في بعض المدن السوريّة.

وفي نموذجٍ آخر في السويداء، سارع الأهالي لنجدة المهجّرين في المدارس ومراكز الإيواء، الذين هُدمت بيوتهم وفقدوا أرزاقهم إثر الاشتباكات. باتت هذه العائلات تعتمد بشكلٍ أساسي على التبرّعات والمبادرات المحليّة التطوّعية لتأمين الخبز والغذاء والمياه. انتشر هذا النموذج أيضاً بعد مجازر الساحل، عندما عمل ناشطون على جمع التبرّعات من عددٍ من المدن السوريّة وإرسال قوافل المساعدات إلى المتضرّرين من الاعتداءات والانتهاكات.

تظهر الفزعة في هذه الحملات كمكوّن أساسي لجبر الضرر والترميم الاجتماعي قبل المادّي. وتجسّد هنا نوعاً من استرداد المسؤولية والمبادرة الفرديّة والجماعيّة تجاه المجتمعات الصغيرة، وشكلاً محلّياً للإدارة الذاتية البديلة. تأتي الفزعة في حلّتها الثانية أيضاً من حقيقة أنَّ السلطة الجديدة لا تستطيع بمواردها إعادة تأهيل بلدٍ بحجم سوريا، خاصةً أنَّ الاستثمارات ستغيب عن البلدات والأرياف المهمشة، بحكم المناطقية وهيمنة العاصمة والمدن الصناعيّة الكبرى. ورغم تجزّؤ هذه المبادرات وارتباطها بالمكان والحدث، إلّا أنّها تعكس نمطاً جماعيّاً جديداً لترميم سوريا من الدمار والقتل والظلم.


الفزعة كتحوّلٍ اجتماعيّ

ربّما يشير وجها الفزعات السوريّة إلى بداية اتّضاح بعض التحوّلات الاجتماعية والسياسية والاقتصاديّة في مرحلة ما بعد الأسد. رغم تناقض معانيها وتجلّياتها، يشير صعود الفزعة إلى توجّهٍ للاعتماد على الحلول المجتمعيّة لسدّ الفجوات السياسيّة والأمنيّة والمعيشيّة. تكون هذه الحلول في حلّتها الأولى كارثيّة، إذ تأخذ على عاتقها فرض «الأمن»، على حساب السلم الأهلي. كما تكون بالمقابل محاولةً مستمرّة لجبر الضرر واستعادة شيءٍ من التعاضد، الذي أصبحنا بأمسّ الحاجة إليه اليوم. في كلّ الأحوال، تعالج الفزعة بجميع أشكالها فقدان الثقة المزمن بمؤسسات الدولة في سوريا، بعد عقودٍ من الدكتاتوريّة. وإذا أردنا إعادة تشكيل معنى الفزعة، كي تبتعد عن جانبها المظلم، فعلينا إعادة بناء العقد الأساسي بين الدولة والفرد، والدولة والجماعة، كشرطٍ جوهريّ لإعادة بناء سوريا.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً
الطفلة إيّان هُدم منزلها: وين نلعب؟ وين نعيش؟