تقنيّات صناعة الشعبيّة
جاء احتفال السوريين والسوريات بالذكرى السنوية الأولى لسقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول بنزولهم بكثرة إلى الساحات العامة، في المدن الرئيسية الكبرى، للتعبير عن فرحهم بالخلاص من الطاغية. ترافق ذلك مع الدعوة التي وجّهها الرئيس السوري أحمد الشرع إلى الناس للنزول إلى الساحات والميادين لإحياء ذكرى انطلاق معركة «ردع العدوان» التي أدّت إلى سقوط النظام السابق.
وقد حاول بعض المستشارين والصحافيين المقربين من العهد الجديد، قراءة هذه المشاركة الشعبية الواسعة على أنها بمثابة «استفتاء شعبي» جديد على شرعية الشرع. وذهب المستشار الإعلامي للرئاسة، الصحافي أحمد موفق زيدان، إلى كتابة الآتي على صفحته على أكس: بالأمس كان استفتاءً سورياً ودمشقياً بالتحديد على ثقة السوريين والتفافهم حول العهد الجديد، يأتي في ظل المسح الذي نشرته الفورين أفيرز عن دعم 90% من الشعب للسيد الرئيس.
صحيح أنّ لغة الأرقام والإحصائيات واستطلاعات الرأي لشعبية مفترضة، لا تُسمن ولا تُغني من جوع إلى المشروعية الشعبية الحقيقية، المنبثقة من صندوق الاقتراع وفقاً لقانون انتخابي عصري يُقَرّ في ظل دستور منبثق عن جمعية تأسيسية منتخبة. لكنّ هذا الفراغ الانتخابي، إن دلّ على شيء، فعلى خطورة البحث عن مشروعية شعبية تنبع من حشد شارع في مواجهة شارع، وادعاء احتكار تمثيل مجموعات بشرية بعينها، إذا لم نقل شعب بأكمله، بالاستناد إلى حجم الحشود المنتشرة في الشوارع والساحات العامة. وهذا ما يذكرنا بخلافات الأرقام وحجم الحشود التي تنازعتها الجماعات اللبنانية بعد احتفالي الثامن والرابع عشر من آذار في ساحة الشهداء في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، قبل أن ترتضي هذه الجماعات المتخاصمة بالعودة الى صندوق الاقتراع- على علّاته- في ظل المحاصصة الطائفية وقانون الانتخابات المهترئ.
كان حافظ الأسد، ومن بعده ابنه بشار الأسد، يقيسون شعبيتهم ويطربون لها، لا من خلال صناديق الاستفتاءات الشعبية المزورة التي كانت تعطيهما نسباً تتجاوز الـ95 بالمئة، بل من خلال إذلال الناس وسوقهم إجباراً إلى الشوارع للهتاف باسمهم وممارسة طقوس الولاء والتبجيل لرموز السلطة علناً، بمعزل عمّا يعتمر حقيقةً في صدورهم.
لا يمكننا هنا إلا أن نسجّل أنّ الحشود السورية المحتفلة بسقوط النظام الأسدي لم ترفع صور الرئيس أحمد الشرع، ولم تهتف بحياته على ما جرت العادة في مناسبات وطنية كهذه. وحتى نكون منصفين، فهذا لا يرتبط في جزء كبير منه بوعي الحشود بضرورة تجنب تأليه الحاكم، بقدر ما يعود إلى عدم رغبة الحاكم نفسه، على ما يُظهر على الأقل، بأن يحاط بمظاهر التبجيل والتدليس التي أحاطت بمن سبقه. وهذا رغم أن العديد من المحيطين بالرئيس الشرع يتصيّدون اللحظة لكي يكيلوا له المدائح الرنّانة وينسبوا له القدرات الاستراتيجية الاستثنائية التي سمحت بانتصار الثامن من كانون الأول 2025، ورغم أنّ الحشود نفسها لن تتوانى عن الممارسات السابقة إذا طلب منها ذلك.
صناعة الديكتاتور من الأسفل
يحظى التاريخ السوري الحديث بالعديد من الأمثلة والوقائع التاريخية التي تشير إلى كيفية تلاقي شعبوية بعض الحكام وبطشهم مع استعداد العديد من صغار النفوس والوصوليين في المجتمع إلى ملاقاة افتتان الحكام بأنفسهم، بالمزايدة فيها وعليها.
فصناعة الدكتاتور من أسفل هرم السلطة نحو الأعلى ظاهرة مجتمعية مغرقة في القدم في المجتمع السوري. يكفي في هذا السياق التذكير بما كتبه السياسي المخضرم ورئيس الوزراء لعدة دورات خالد العظم في الجزء الأول من مذكراته حول ظاهرة التزلّف للحكام التي عايشها عن قرب بحكم وجوده في دوائر صنع القرار، وقدرة قلمه على تسجيل العديد من الأحداث والمفارقات بعين أنثروبولوجية ثاقبة.
فالشاب خالد العظم هو ابن فوزي باشا العظم أهم رجال العهد العثماني في مدينة دمشق. اضطر فوزي باشا أن يقبّل يد الجنرال جمال باشا عند زيارته لمقر «جمعية الأمور الخيرة» في دمشق التي كانت تديرها والدته لدعم الجيش العثماني خلال الحرب العالمية الأولى. انحنى هو ووالدته وشكرا جمال باشا السفاح، الذي كان قد أعدم أحرار العرب، على الالتفاتة الكريمة بزيارة مقر الجمعية، كما يكتب خالد العظم في مذكراته. من مرارة هذه التجربة، ومن موقف والده الملتبس بين الرابطة العثمانية وتيار القومية العربية، يخبرنا خالد العظم بصراحة ثاقبة عن مشاهداته خلال كل هذه المراحل الانتقالية التي عبرت فيها سوريا وكيف كان جمال باشا يُستقبَل استقبال الملوك الفاتحين في دمشق، وكيف كان الشعراء والأدباء يكيلون له المديح شعراً ونثراً، حتى إنّ أحدهم، وهو خير الدين الزركلي، ألقى أمام صورة جمال باشا في حفلة افتتاح جريدة الشرق قصيدةً مطلعها:
احنوا الرؤوس ورددوا النظرات هذا مثال مفرج الكربات
فشبه بالباري عز وجل. وكانت أكفّ الجميع تدمى من كثرة التصفيق
ويسأل خالد العظم مستغربا كيف يستطيع المرء التوفيق بين تنكيل جمال باشا بالعرب وبين احتفاء وجهائهم به في الاحتفالات. ثمّ يجيب أنّ الناس كانوا- ولا يزالون- لا يعتبرون الاشتراك بمثل ذلك تأييداً منهم أو دعماً لسياسة ما. كانوا يحضرون لمجرد الفرجة.ويتساءل خالد العظم:
وإلا فكيف نستطيع تفسير الاستقبال الرائع الذي حظيه الجنرال الفرنسي غورو عند قدومه إلى دمشق أثر ظفر جنوده في معركة ميسلون؟ وكيف لا نغطي وجوهنا خجلاً مما بدا من بعض المستقبلين، حين فكوا رباط خيل عربة الجنرال المشار إليه ووضعوا أنفسهم بدلاً عنها وجرّوها في الطريق، بين دويّ المصفِّقين وهتافاتهم؟
ويشير خالد العظم إلى أنّ
أهل دمشق استقبلوا جمال باشا بالحماسة نفسها التي استقبلوا بها، فيما بعد، الأمير فيصل بن الحسين عندما انسحب الترك ودخل الإنكليز الى سورية، ثم حين عودته من باريز. ثم كان استقبال الجنرال كاترو بما لا يقل مهابة عن الاستقبالات الشعبية التي كان يقابل بها شكري القوتلي بغدواته المتكررة، أو غيره من كبار رجالات العرب.
ويحذّر بأنه
يحسن بالذين تستقبلهم هذه المدينة بحفاوة وروعة أن لا تأخذهم عاطفة الغرور، فيظنون أنفسهم حائزين على مرتبة خاصة في نظر الدمشقيين. وليعلم الجميع أنّ أهل دمشق يستقبلون ويستقبلون بحفاوة كلّ من وفد إليها، عدواً كان أم صديقاً. فليمتِّع القادم (أيا كان مقامه) نظره بمشهد نهر بردى مثلاً… وليسعد بحفاوة الأهلين وليهنأ بها. ولكن حذارِ من الغرور ومن الاعتقاد أنه وحده صاحب هذه الحفاوة والعناية.
سيارة الأسد
لم يحتكم حافظ الأسد، بدوره، في بناء مشروعيته الشعبية إلى صندوق الاقتراع، عندما أتى إلى السلطة في أعقاب انقلابه العسكري في العام 1970. بل استند إلى السلاح والحشود التي خرجت او أُخرجت الى الشوارع في معظم المدن السورية لتحتضنه في جولات مكوكية تحت شعار قائد المسيرة، عملًا بمقولة غرفة تجارة دمشق في ذلك الوقت «طلبنا من الله المَدَد، فأتانا بحافظ الأسد».
يومها لم يكن حافظ الأسد يستقلّ عربة تجرّها الخيول حتى تفك الحشود الخيل لتجر وتحمل العربة بنفسها. لكن ما هي إلا عدة سنوات حتى تفتّقت عقول مرافقته الخاصة وحرسه الجمهوري على حمل سيارته الكاديلاك المصفحة على الأكتاف عند عودته في العام 1984، لمزاولة عمله في مكتبه بعد الوعكة الصحية التي ألمّت به وكادت تودي بحياته. وبعد عدة سنوات، لم يمنعه حداده وحزنه على ابنه باسل الذي قضى في حادث سيارة، من أن يمدّ يديه الاثنتين لتحية الحشود من شباك الطائرة المتوقفة في مطار المزة العسكري لتنقله مع جثمان ابنه لدفنه في القرداحة. ولو كان في استطاعة عشّاق الأسد المتجمّعين في ذلك اليوم من حول الطائرة لتحية رئيسهم، أن يحملوا الطائرة بمن فيها من عائلة الأسد على أكتافهم، لفعلوا.
في ذروة الفورة العاطفية في صفوف مؤيّدي النظام الحالي، والتي أثارها حجم الحشود المحتفلة مؤخرا في الشوارع بسقوط نظام الأسد، كتب عبيدة عامر غضبان، مدير قسم الأبحاث في المعهد الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية السورية الجديدة، في صفحته على أكس الآتي:
ليست الدولة وحدها ما أقامته الثورة، فهذه الحشود الصاخبة المكتظة هي تعبير الشعب السياسي عن نفسه في أمة وجدت نفسها أخيرا للمرة الأولى منذ قرون في بلاد الشام، حشود انتفضت في ثورة شعب ينصهر في حرب ليجسد نفسه في أمة تمثلت في الدولة الجديدة، لتكون، أخيرا، الدولة- الأمة السورية، دولة الأمة (nation-state)، بعُقابها وجيشها ومؤسساتها وذاكرتها الجمعية ورموزها، وكما قالت حماة قبل أيام في مليونيتها: «نحن الدولة، نحن الشعب، لو بدك تكسرنا صعب، بدك سلم وبدك حرب، نحن إلها بعون الله».
قد لا نأتي بجديد إذا قلنا أن أوزان السياسيين وأحجامهم لا تأتي من قدرة الحشود على جرّ عرباتهم ورفع سياراتهم على الاكتاف وإحاطة الحشود بطائراتهم، وهي لا تأتي من صهر الشعوب في حروب لتجسيدها في أمة ولا من القول بأننا «نحن الدولة» و«نحن الشعب» على ما ذهب السيد قتيبة، بل هي تأتي من أوزانهم الفعلية التي تقرّرها صناديق الاقتراع التي لا يزال السوريين إلى اليوم محرومين من ممارسة حقهم الانتخابي من خلالها.