يتذكّر اللبنانيون دورياً تاريخ 13 نيسان 1975، تاريخ الهجوم على «بوسطة عين الرمانة» وبداية الحرب الأهلية أو الحرب في لبنان، ويعدّون السنوات والعقود التي تفصل بينهم وبينه ليُقيموا الاحتفال السنوي به. وهم أحيوا قبل أيام ذكراه الخمسين، وعقدوا الندوات ونظّموا المعارض لهذا الغرض.
لكن ثمة أسئلة تفرض نفسها ربطاً بهذا التاريخ وبفلسفة إحياء ذكراه. ذلك أن استذكار الحروب يقوم عادة على الاحتفال بنهاياتها، أي بالأيام التي تُعدّ آخر أيام القتل فيها. هكذا تحتفل أوروبا مثلاً بتاريخَي انتهاء الحربين العالميتين الأولى والثانية. وهكذا أيضاً تحتفل أميركا بتاريخ انتهاء حربها الأهلية، ومثلها يحتفل البوسنيون بنهاية حرب يوغوسلافيا السابقة والإيرلنديون بالاتفاق الذي أنهى الحرب في بلفاست، والأمثلة كثيرة.
فما الذي يجعل الحالة اللبنانية استثنائية، أو بالأحرى يجعل تاريخ «احتفاليّتها» استذكاراً لبدء الحرب وليس لنهايتها؟ هل لأننا لا نملك أن نعتمد تاريخاً واحداً يحدّد نهاية الحرب، ويحظى بقبول أكثرية الفرقاء والمؤرّخين؟ هل لأن الحروب التي تتالت في سياق الحرب المندلعة في 13 نيسان 1975 وابتلعتها ووسّعت من إطارها وعدّلت من فُرقاء النزاع فيها وأفضت احتلالات خارجية للتراب اللبناني لم تنتهِ بعد؟
نهايات
لندقّق بمجموعة نهايات مفترضة للحرب.
تقول الرواية «شبه الرسمية» أنّ اتفاق الطائف في 30 أيلول 1989 وضع حدّاً للحرب وأدخل إصلاحات على النظام السياسي. لكنّ الحقيقة أن الحرب لم تنتهِ بعده. بل عرفت جولات من أشرس جولاتها، من بينها «حرب الإلغاء» بين القوات والجيش بقيادة ميشال عون و«حرب الأخوة» بين أمل وحزب الله.
وتقول رواية ثانية أن الحرب انتهت في 13 تشرين الأول 1990 عند اجتياح الجيش السوري للمناطق التي كان ميشال عون الرافض لاتفاق الطائف مسيطراً عليها.
لكن هناك رواية ثالثة تعدّ الحديث عن نهاية الحرب وهماً في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي لجزء من جنوب لبنان واستمرار مقاومته، وهو ما أدّى الى عمليات حربية واسعة النطاق، خاصة في العامين 1993 و1996، ثم إلى غارات جوية إسرائيلية وصلت حدود بيروت وضربت الكهرباء على مقربة منها.
بهذا المعنى، يصبح تاريخ 25 أيار 2000، أي تاريخ التحرير من الاحتلال الإسرائيلي هو تاريخ نهاية الحرب. فهل هذا دقيق؟ الجواب هو النفي، لأن الهيمنة المخابراتية والعسكرية السورية، وعمليات الاغتيال المرتبطة بها وصولاً إلى اغتيال رفيق الحريري، استمرّت بعد التحرير ولغاية انتفاضة الاستقلال وانسحاب القوات السورية من لبنان في 26 نيسان 2005. فهل انتهت الحرب أخيراً عندها؟ النفي تكراراً هو الجواب. فلا الاغتيالات توقفت، بل أضيف إليها تاريخ قتالي أهلي هو تاريخ 7 أيار 2008، ولا حزب الله الذي خاض حرباً ضروساً قبل ذلك مع إسرائيل في تموز وآب 2006 سلّم سلاحه لاحقاً لدولة منبثقة من اتفاق الدوحة وما افتُرِض أنه أنهى صراعات كادت تطيح بالبلد بأكمله.
متى انتهت الحرب إذن؟ وهل يمكن الحديث عن انتهائها في وقت انتقل فيه حزب الله إلى سوريا بعد الثورة على بشار الأسد هناك في آذار 2011 ثم تحوّلِ الثورة إلى حرب قُتل فيها آلاف المقاتلين اللبنانيين ونزح إلى لبنان مئات ألوف السوريّين، وشهدت حدود البلدين عمليات كرّ وفرّ على مدى أشهر طويلة؟
وماذا عن انفجار المرفأ في 4 آب 2020 الذي دمّر أحياء في بيروت نتيجة موادّ خُزّنت فيه لأهداف حربية سورية، والذي أدّت محاولات منع التحقيق حول ملابساته إلى اشتباكات مسلّحة في 14 تشرين الأول 2021 في بعض مناطق العاصمة اللبنانية؟
ثم ماذا عن الحرب الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل التي انطلقت بوتيرة منخفضة وبجغرافيا محدّدة في 8 تشرين الأول 2023 في الجنوب، لتصبح واحدة من أشرس الحروب التي شهدها لبنان، والتي دمّرت إسرائيل خلالها بلدات بأكملها وأحياء سكنية في بلدات أخرى وفي مدن على امتداد الخريطة الديموغرافية الشيعية في البلد، قاتلة الآلاف من اللبنانيين ومهجّرة مئات الآلاف منهم.
هل يمكن القول إن الحرب انتهت بعد وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024؟
الإجابة سلبية بدورها، لأن الاعتداءات الإسرائيلية متواصلة منذ ذلك الحين وحتى اليوم، وهي اغتالت أكثر من 120 مواطناً ومقيماً في لبنان، ولأن القوات الإسرائيلية احتلّت وما زالت العديد من المواقع داخل الأرض اللبنانية، وما من مؤشّر على انسحابها منها في المستقبل القريب.
حروب غير عسكريّة
بموازاة كلّ هذا، هل من مشروعية لزَعم إضافيّ حول استمرار الحرب بين اللبنانيين وعليهم بوسائل غير عسكرية؟
بالطبع، إذا كان المقصود أن أركان الطبقة السياسية التي تشكّلت منذ اتفاق الطائف وما زالت معظم مكوّناتها في السلطة اليوم هم أركان الحرب إياهم في ثمانينات القرن الماضي، وانضمّ إليهم بعد العام 2005 من كانت استثنته وسجنته أو نفته المسارات السياسية والهيمنة السورية بعد العام 1992. وهؤلاء جميعهم مستمرّون في ممارسة الحرب بأشكال أخرى، تقوم على الزبائنية والترهيب والترغيب، وعلى الإنفاق والهدر والسلب والاستمرار في فرض أمر واقع على القضاء ومؤسسات الدولة. ومنطق الحرب الغنائمي الذي اعتمدوه خلال الصراع المسلّح، اعتمدوه أيضاً بعد استبدال سلاح معظمهم بمقدّرات سلطة، تقاسموا النفوذ وتصارعوا على حدوده داخلها.
كيف نكتب النهاية إذاً، ومتى نحدّد تاريخها؟ وكيف نصف حيويّات المجتمع اللبناني الثقافية والسياسية والاقتصادية التي لم تتوقّف طيلة العقود التي ذكرنا، والتي ما زال بعضها يقاوم اليوم الانهيارات التي أصابت البلد بعد كل ما تعرّض له من عنف؟
وهل نضيف الإفلاس المالي والاقتصادي وتضييع جزء كبير من أموال اللبنانيين في المصارف إلى المسلسل الحربي إياه فنمدّ في عمره ونؤجّل اتفاقنا على الموعد الواجب تحديده لإعلان انتهاء الحرب أخيراً والاتفاق حول الاحتفالات القادمة بذكراها؟
يفيد أن نعود من جديد إلى الحرب «الأولى» المُجمع على بدئها في 13 نيسان 1975، لنقول إنها انتهت في شكلها أو خصائصها مع نهاية حرب السنتين، أي مع دخول القوات السورية تحت مسمّى قوات الردع العربية، لتنطلق بعد ذلك مجموعة حروب موازية ومتعدّدة التدخّلات الخارجية، ولتبدأ من العام 1978 الاجتياحات والحروب الإسرائيلية المستمرّة حتى اليوم.
هل في هذا التعذّر إذاً عن تحديد تاريخ لانتهاء الحرب، أو الحروب، ما يبرّر اللجوء إلى تاريخ انطلاقها قبل خمسين عاماً؟ أغلب الظنّ، نعم، وأغلب الظنّ أننا في تذكّر 13 نيسان إنما نحاول العودة إلى إطار داخلي لصراع أهلي فنزعم أننا تخطّيناه، أو ننبّه من مخاطر عودته، على أساس أنّ باقي ما أصابنا من اجتياحات واحتلالات وتدخّلات لا قدرة لنا على التعامل معه لا تذكّراً ولا نسياناً.