الأسبوع الفائت، عُدتُ للمرّة الأولى إلى بيتنا في ريف دمشق بعد 12 عاماً من التهجير. لم أتخيّل يوماً أن أجد نفسي في هذا المنزل مجدّداً، منزل لا أذكر منه سوى السنوات الأولى من الثورة والحرب. منذ سقوط الأسد، وأنا أتفرّج على مشاهد الأهالي يعودون إلى بيوتهم، يملأهم فرحُ العودة. وكنت، بدوري، أتوقّع أنَّ عودتي إلى بيتي ستجلب موجةً عنيفةً من اليوفوريا والحنين، وستُصلِح كلّ ما خرّبه شعوري المزمن بالتشرّد. فلطالما ارتبطت العودة إلى سوريا بالنسبة لي بالشفاء والتعافي، والعثور على الطريق الذي أضعتُه والحجارة التي أحتاج إليها كي أبني حائطاً أستند إليه. لكنَّ الأمر لم يكن بهذه البساطة.
في غرف البيت، لم تحرّك فيّ أغراضي التي تركتُها في هذا المنزل أي شيء. لا التنانير ولا الدفاتر ولا الألعاب. لم أجد شيئاً هنا. لم أستطع حتّى أن أجد دمعتَيْن. لم أشعر أنّني استرجعت أياماً سُرقت منّي. لم أشعر سوى بالغرابة وبثقلٍ يتكدّس في حلقي. لم أتحسّر على ساعة الحائط التي توقّفت عند الثانية وعشر دقائق، ولم يكن هناك أحدٌ ليغيّر بطاريّتها. لم أتحسّر على القماش الذي تعفّن ولم يكن هناك أحدٌ ليهوّيه.
جلستُ على كلّ الكنبات أحاول إقناع نفسي عبثاً أنَّ هناك معنى عليّ انتزاعه من هذه الحيطان، أنّ هناك عزاءً مُخبّأً تحت وسادةٍ قديمة، ما عليّ إلا أن أعثر عليها. قلتُ: لعلّه الغبار. لو مسحتُ الغبار عن الأسطح، سأجد تحته رثاءً أبحث عنه. لكنّ أكوام الغبار الأسود كانت تلفّ كلّ زاويةٍ من البيت. تتسلّل تحت أظافري وفوق أكواعي، على ملابسي وفي أنفي. حاولتُ أن أمسح الغبار عن الكتب، وأنفضه عن الشراشف البيضاء. جليتُه لأزيله عن الصحون، ومحوتُه من نقشات الأبواب. مسحتُ ومسحتُ، لكن دون جدوى.
كنتُ على وشك أن أفقد الأمل، أن أتحسّر على كلّ هذا الوقت المسلوب إلى أن وجدتُ في خزانة المطبخ علبة سكّر. وضعتُ السكّرية في المجلى كي أنظّفها ظنّاً منّي أنّها فارغة، لكنّني عندما فتحتها وجدتُ بداخلها بعض السكّر. مسكتُ حبّات السكّر بين يديّ، كمن يقبض على حياةٍ سابقة. هي وحدها ذكّرتني أنَّ هذا البيت كان يضجّ بالحياة، قبل أن يصبح السكّر وحيداً، لا أحد يمزجه مع الشاي، ولا أحد يعترض على وضعه في كاسة المتّة. حرّرتُ السكّر من عتمة دُرج خزانة المطبخ، وعندها فهمتُ أنَّ هناك غباراً أسود لن يزيله أيُّ ديتول. قرّرتُ أنَّ رثائي حالياً هو بالتعايش مع الغبار، وليس بمحاولة استئصاله بليَفٍ عنيفة. لا أعرف بالتحديد أين أذهب بهذا الثقل، ولم يكن كافياً أن ألعن روح الأسد في كلّ مرةٍ ألمح فيها الغبار من جديد. ربّما كان هذا جزءاً من إرث السوريّين، أن نعيش مع غبارٍ في أحشائنا دائماً.
كنتُ أفكّر بهذه المعضلة وأنا في المكرو في طريقي من دمشق إلى ريفها. كان يجلس بجانبي عمّو لطيف جدّاً. قال لي بعد تردّد ملحوظ «ليش هيك يا عمّو صفنانة ومضايقة؟ هَوْنيها بتهون». هل رأى الغبار في شعري؟ هل لمحه على يديّ أو في عيوني؟ أم أنّني تركتُ آثار غبارٍ ورائي على الأرض عندما صعدتُ إلى المكرو؟ هل يعاني هو أيضاً من متلازمة غبار؟ هل يُثقله سؤالٌ لا جواب له؟ نظرتُ إليه بامتنان وابتسمت، ولم أستطع سوى أن أهزّ برأسي موافقةً.
إلى جانب الغبار والبيت البارد، في الشام بيوتٌ دافئة وأذرعٌ لطيفة التفّت بودٍّ على خصري وكتفيّ. هناك عيونٌ تذرف حبّاً. هناك خدودٌ ناعمة ونكتٌ سوداء وقصصٌ وتوت وزيتون. هناك كنيسةٌ تنزف، وأهالٍ يبحثون عن أحدٍ يشاركهم الفاجعة ويتقاسم معهم الأيّام. هناك حياةٌ أترحّم عليها وحياةٌ اقترب منها. هناك غبار، وهناك نسمةٌ لطيفة أحياناً تمسكُ بيدي كلّما صفنت.