فكرة طرابلس
صهيب أيّوب

أهوال طرابلس وهويتها 

بعد الحرب الأهلية

24 نيسان 2025

لم تنتهِ الحرب الأهلية في طرابلس. بل مدّت أذرعها الطويلة كأخطبوط في داخلها، مثل الأفعى التي قالوا أنها تعيش تحت قلعة سان جيل، منذ أيام المماليك وتبثّ سمومها في جلد المدينة وحجارتها. وعلى الرغم من أنّ الحرب لم تكن بالوحشية المعلنة دماراً وإبادة، كما حصل في العاصمة بيروت، والتي دُمِّرت بنيتها التحتية وأبنيتها وأسواقها، إلّا أن الحرب طبعت شراستها عميقاً في اقتصاد طرابلس المحلي وتمزيقاً في نسيجها ومكوّناتها، وخسّرتها ما لا يمكن استرجاعه: تنوّعها، والأهم٬ انفتاحها على نفسها قبل كل شيء. فهي منذ تلك اللحظة التي باتت الحرب فيها واقعاً، صارت طرابلس في مكان لا عودة منه. 

وأوّل تأثير للحرب كان في ضربها صمّام الأمان في اعتدال المدينة والذي جعلها لقرون، منذ حكم الشيعة في أيام بني عمار، مروراً بالحكم الصليبي ثم عصر المماليك وتالياً العثمانيين، وصولاً إلى دخولها عنوةً في لبنان الكبير، متّكِئةً على هذا التوازن التاريخي في حوارها مع ذاتها المتعدّدة ومكوّناتها الكثيرة. فالمدينة عرفت تنوّعاً طائفياً، ساهم ازدهارها الاقتصادي واستقراراها ومكانتها الجغرافية وتاريخها الديني والإثني في تكريس حواره والحفاظ عليه، وجعلها محطّةً بارزةً في حيوات محيطها الماروني والأرثوذكسي (زغرتا والكورة وبشري) حتّى مشارف الحرب الأهلية. 

كانت المدينة مشتى للزغرتاويين الذين تركوها من دون رجعة مع أحداث الحرب، وكانت مقصد التعليم والتسوّق والترفيه للبشرّانيين والكورانيين، حيث عرفت المدينة حارات بأسمائهم ومواقف سيارات لهم وبنسيونات وموتيلات لأولادهم ومحلّات عريقة، أغلقت كلّها بعد الحرب، عدا عن مساهمتهم العميقة في مكوّناتها الثقافية والعلمية، والإسهام في نقاباتها (خصوصاً نقابتَي المحامين والأطباء). 


تدمير المؤسّسات الضامنة والنقابات

دمّرت هذه الحرب مناعة داخلية عرفتها المدينة، باجتماعها الأهلي القائم على تآلف التجّار المحليين من الطوائف الكبرى بعضهم مع بعض، وقدرتهم على التأثير وصناعة القرار الداخلي بارتباطهم مباشرةً بعائلاتها التي تناوبت على رئاسة بلديتها ونقاباتها، قبل أن تقضي الحرب على كل هذه المؤسّسات وعلى هذه الارتباطات المسيحية والمسلمة واليهودية قبل تركهم المدينة (مع بداية ستّينيات القرن الماضي). حوّلت الحرب وتداعياتها هذه المؤسّسات الضامنة إلى مجرّد بهو لمصالح سياسية ضيّقة ولحسابات لم يعُد التنوّع فيها سوى فصلاً مسرحياً هزيلاً، أضعف قوة نسيجها وتنوّعها وانعكس هذا على ظروف حياتها وطبع تبدّلاتها الاجتماعية والثقافية، وأسهم عميقاً في عرقلة أي مشاريع ممكنة للنهوض بمرفقاتها. زادت العشوائيات وكثرت المخالفات وتبدّلت عمارة المدينة، خصوصاً مع تدّفق نسب عالية من النازحين من عكار والضنية والمنية ومجدليا، باحثين عن فرص العيش التي لم تعد ممكنة بعد الحرب. 

هذه الحرب الأهلية في مدينة، كان الانتداب قد فكّك ارتباطها بداخلها السوري، وجعلتها حكومات لبنان الكبير متروكة لنسيان مقصود، لم تكن حرباً واحداً، بل حروباً كثيرة، بين الأهلين والأغراب، وبين أضداد وحلفاء، ما جعل لتلك الحرب تركة ثقيلة متعدّدة الجهات، حاضرة ومسهبة الفصول. وليس مبالغة القول أنّ هذه الحرب، ترسم مستقبل المدينة ومستقبل أجيالها وتحكمها بإشارات تؤكّد أن هذه الحرب تعيش وتتضخّم، ولو بموازين جديدة وشعارات أخرى، وقتلت إلى غير رجعة «ألوانها» الكثيرة. 


المعاهد السلفية والإخوانية

قد تكون أبرز تركات هذه الحرب هو «أسلمة» المجتمع الطرابلسي. فمع خروج المسيحيين وهجرتهم إمّا إلى بيروت وإمّا إلى أقضية الكورة وزغرتا، أو هجرتهم إلى أوروبا والأميركيتين، استفادت الجمعيات الإسلامية، لا سيما السلفية منها والإخوانية، من اتّساع رقعة الفقر وتراجع مستوى التعليم وانخفاض مستويات الدخل الفردي وارتفاع مستويات التسرّب المدرسي وازدياد التديّن العامي (من دون مرجعيات فقهية)، وكثرة المعاهد الإسلامية وحلّها مكان التعليم الرسمي الذي تراجع تراجعاً مدويّاً بعد الحرب (مع هجرة الكفاءات العلمية). كل هذا ساهم في تكريس قاعدة بنيوية لأسلمة المجتمع. فالحرب الأهلية وتشابكها مع الثورة الخمينية، أنتجت حركة التوحيد الإسلامي التي أسّست إمارة إسلامية، وفتحت فصلاً جديداً في المدينة، لم يعد ممكناً طيّه. 

أزالت الحركة تمثال عبد الحميد كرامي (زعيم طرابلسي تقليدي ومفتي المدينة المعتدل)، ونصبت مكانه كلمة الله، مزيّلة بشعار: طرابلس قلعة المسلمين، وفتحت شرخاً لا رجعة فيه في تعامل المدينة مع هويّتها. وما كان فعل حركة إسلامية هدفها إقامة حكم إسلامي، صار حكماً واقعياً، لا يمكن التراجع عنه. ومن هنا عرفت طرابلس لاحقاً بنية صلبة لتخريج دفعات جهادية متأثّرة بتغيّرات الإقليم. فمع حرب الشيشان وحرب العراق، زادت دفعات الجهاديين الطرابلسيين متأثّرين بخطاب القاعدة وبمشايخ محليين انضمّوا إلى صفوف الجهاديين، قبل أن يتدرّبوا في السعودية في صفوف الأصولية السلفية. وهذا ما خلق لاحقاً ما عُرف بأحداث الضنّية في العام 2000، والتي انفجرت على يد جماعة التكفير والهجرة، وساهم النظام السوري الذي أحكم قبضته على المدينة في تأجيج هذه الحركات ومطاردتها وتحويلها إلى شمّاعة. 

وهذا ما خلق ما يُعرف بالمظلومية السنّية الداخلية لدى جيل شباب فقير وملتحق لتوّه بأفكار متطرّفة كملجأ لهويّته التي لم تعرف بعد الحرب علاقة صحّية مع لبنان، والتي خرّبته الحرب تخريباً كاملاً. وجاء الطائف ومحاصصاته ليجعل طرابلس في أسفل السلّم وفاقم من فقرها وبؤسها، مع العقاب الذي مارسه النظام السوري عليها واختراع زعاماتها السياسية التي أهملتها إهمالاً كلياً، أضعف مقدراتها وزاد من شقاء أهلها وشبابها.  


الجماعات التكفيرية وحيتان المال

أنتجت هذه التركة الثقيلة ما عُرف بعدها بجماعة فتح الإسلام، وهي جماعة تكفيرية تأسّست هيكليّتها من مساجين النظام السوري، وهم بمجملهم أولاد المدينة القادمين من عكار والضنية والمنية، وجاؤوا بأحلام كبيرة، لم تتّسع لها المدينة بعد أن قضت الحرب على بنيتها الاقتصادية ودمّرت قطاعات واسعة من معاشها المحلي، لا سيّما القطاع الحرفي. فهؤلاء تربّوا في الحرب وما بعدها على قلّة الفرص، وتسرّبوا باكراً من مدارسهم ولم يعرفوا علوماً سوى علوم الدين، من مشايخ حارات نصّبوا أنفسهم زعماء محليين ومشيخات ساهمت في تكثيف الشعور بالمظلومية، ومستفيدين تماماً من غياب الدولة وتراجع هيبتها، وضحايا النظام السوري الذي قتل أهلهم ونفّذ مجزرة التبانة المشؤومة ولاحقهم بحجج مختلفة ونكّل بهم وبأعمارهم الفتية. 

وإذا كانت هذه الأحداث (كما يسمّيها اللبنانيون) قد زادت من معدّلات الفقر فإنّ الحرب لم تُعِد الدولة إلى المدينة. فصارت المدينة مدناً كثيرة، وجزراً يحكمها أمراء صغار، ما ساهم في إفقارها، وفتح لاحقاً الطريق أمام حيتان المال للاستفادة من فقرها وعجز الدولة. ساهم كل هذا في تمدّد امبراطوريات نجيب ميقاتي ومحمد الصفدي وموريس الفاضل. وحوّل أولئك الناس إلى مجرّد أعداد في صناديق الاقتراع للوصول إلى السلطة. وبدلاً من أن تفتح هذه الزعامات مشاريع إنمائية ومصانع تُخفّف من معدّلات البطالة والتسرّب المدرسي، عملت على صناعة «المواطن الشحّاذ» من خلال نظام الإعاشة والإعانة والتسوّل الجمعياتي أمام أبواب مؤسّساتها. ثم استفادت زعامة أشرف ريفي من هذا النظام القائم معتمدة على مكاتب خدماتية صغيرة، لا تغيّر شيئاً في حياة الناس البسطاء ولا من فقرهم المدقع.

لم تنتهِ الحرب الأهلية في طرابلس.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
حدث اليوم - الجمعة 2 أيّار 2025
02-05-2025
أخبار
حدث اليوم - الجمعة 2 أيّار 2025
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 02/05/2025
مجلس الوزراء يقرّ مشروع قانون استقلالية القضاء
اتفاق بين الدروز والشرع
02-05-2025
تقرير
اتفاق بين الدروز والشرع
بعد الاشتباكات الطائفيّة
نظرة

ماذا نفعل بكلّ هذا الحطام؟

زياد ماجد
تصنيف حزب «البديل من أجل ألمانيا» كياناً يمينيّاً متطرّفاً