تحليل طرابلس
صهيب أيّوب

طرابلس وتاريخها 

المدينة التي تبحث عن دولة

10 تموز 2025

الشائعة

تدلّ الشائعة المنتشرة حول ضمّ طرابلس إلى سوريا إلى إشكالية مُضمَرة حول علاقة المدينة بالدولة اللبنانية، كما تشير إلى نظرة المدينة إلى نفسها كمدينة مغبونة أو كمسوّدة دُوَيْلة. وتقع هذه الشائعة على تقاطع مسألتين: من جهة، مسألة تموضع طرابلس داخل الكيان اللبناني، ومن جهة أخرى، علاقتها بسوريا الكبرى. الّا أن هذه الشائعة، على سرياليتها، تُفكِّك السردية الوطنيّة تجاه طرابلس باعتبارها- وفقاً للمخيلة اللبنانية- قد دخلت لبنان متأخِّرةً، وأن حدوث هذا الأمر جاء مع مظاهر الابتهاج والاحتجاج في ساحة النور في أوج ثورة تشرين 2019، أو قبل، في عام 2005، مع انتقال ثقل حركة 14 آذار شمالًا. فطرابلس، حسب هذه الرواية، قاومت دمجها في الكيان اللبناني حتى لحظة متقدّمة من تاريخ البلاد. لكن هل فعلاً كان دخول طرابلس إلى لبنان الكبير بداية هزيمتها التي لم تهضمها إلى يومنا هذا؟ وهل هناك حقاً رغبة طرابلسية- ولو دفينة- في التماهي مع الهوية السورية والتماهي بهويتها الطرابلسية الخالصة التي تعيد إلى أذهاننا شعورها بأنها «المدينة الدولة»؟ 


في البداية، كان لبنان الكبير

تاريخياً، أُلحِقت طرابلس عنوةً في دولة لبنان الكبير تحت ضغط الاستعمار الفرنسي، ما كان بمثابة تحوّل بنيوي في علاقتها مع نفسها ومع جوارها وعمقها التاريخي والجغرافي. فكانت طرابلس، منذ عهد العثمانيين، ولاية أو نائبة سلطنة. ترتبط إقتصادياً وثقافياً بدمشق وحلب، وكان ميناؤها رئةً للتجارة الشامية. كانت نخبها السياسية والتجارية لا تنظر إلى نفسها على أنها «مكوّن هامشي»، بل كمحور فعّال في علاقتها الجغرافية مع الداخل السوري والمدن العربية الكبرى كبغداد والقاهرة. لذلك، لم يكن الانضمام إلى لبنان خيارها الذاتي، بل قراراً استعمارياً صعباً لم تهضمه كفاية. فانقسمت المدينة حول هذا القرار. عارض مفتي المدينة حينذاك، عبد الحميد كرامي، قيام هذا الكيان الهجين، فيما رضخ الشيخ نديم الجسر له، باعتباره أمراً واقعاً وعلى طرابلس الخوض فيه كي لا تُنبَذ أو تُهمَّش. ففي الوقت الذي كانت فيه النخب الطرابلسية والشعبية مع الخيار السوري والعروبي، رافضةً الانفصال عن دمشق، كان هناك ميل إلى القبول بالهوية اللبنانية المستحدَثة، ولو على مضض. 


محيط وظيفيّ، لا جزء مؤسِّس

ساهم دخول طرابلس عملياً في منح هذا الكيان الهشّ وزنًا جغرافيًا. فهي واحدة من أكبر المدن اللبنانية وأعرقها تاريخياً. أضاف مرفأُها ومرافقها حينها ازدهاراً للدولة المولودة حديثاً. لكنّ الاستعمار جعل ثقل وجود الدولة الناشئة حاضراً في بيروت، ولم يترك لطرابلس أيّ مساهمة فعلية في تأسيسه. فتمّ التعامل مع طرابلس كمحيط وظيفي وليس كجزء مؤسِّس. وعلى الرغم من ذلك، رضخت طرابلس، وشارك الشيخ محمد الجسر في نظامها، وصار السياسي العثماني السابق وزيراً لعدّة حقائب، وانتُخب رئيساً لمجلس النواب في العام 1927 وبقي في منصبه إلى العام 1932، ليكون السنّي الوحيد الذي ترأس السلطة التشريعية في لبنان. لكن حين عمد إلى ترشيح نفسه، مدعوماً من زعامات مارونية، إلى رئاسة الجمهورية، سارع المفوّض السامي إلى تعليق الدستور. وهنا عرفت طرابلس أولى خيباتها مع الدولة الحديثة، واعتبرت إقصاء الشيخ محمد الجسر إقصاءً لها. أنتج هذا القرار علاقةً ملتبسة مع الكيان الجديد. فشعرت طرابلس أنها انتمت إلى لبنان الكبير انتماءً مشروطاً. دخلته كي تكون رافعة له، ولم تُمنَح فعلياً الفرصة في أن تكون شريكة حقيقية فيه. وهنا بدأت النزعة الرافضة شعورياً بأن تكون مدينة لبنانية، ليس رفضاً للدولة، بل لنموذجها الذي أقصاها ولم يُعِر اهتماماً لتاريخها ووزنها السياسي والسكاني ودورها الاقتصادي. 


مع القوميّة وضدّ مشروع التغريب

ساءت علاقة المدينة بالكيان اللبناني مع حكم كميل شمعون. فمع وصوله إلى سدة الرئاسة في العام 1952، بات هناك ميل واضح لكي تكون للسلطة الحاكمة مقاربة ليبرالية مرتبطة بالغرب. وهو ما دفع طرابلس لتكون الخطّ الأماميّ المعارض لهذا الاتجاه المعاكس للعمق العربي. ومع سياسات شمعون الاقتصادية وتركيزه السلطة برئاسة الجمهورية وانحيازه إلى حلف بغداد في خضمّ الحرب الباردة، ومعاداته التيار القومي العربي الذي كان يتصاعد حينها بقيادة جمال عبد الناصر، تعمّق ميل طرابلس العروبي ورفضها لحكم الدولة اللبنانية باعتبارها دولة خاضعة للغرب. ورأت في مشروع شمعون نقيضاً لتموضعها الطبيعي، وباتت تنظر إليه رمزاً للتغريب وخروجاً من العباءة العربية.


عاصمة المعارضة

تحوّلت طرابلس في الخمسينيات إلى «معقل ناصري»، ليس في الخطاب وحسب، بل تنظيمياً. ورأى الطرابلسيون في مشروع ناصر امتداداً لأحلامهم وطموحاتهم في قومية عربية تشكّل حاضنة لهم. فالمدينة المهمّشة، وجدت في الناصرية مشروعاً يحرّرها من ضيق الدولة اللبنانية وتهميشها. وحين قرّر شمعون تمديد ولايته، شهدت طرابلس واحدة من أوسع موجات التعبئة الشعبية ضد النظام. لم تكن طرابلس في الثورة مجرد ساحة أحداث بل عاصمة سياسية فعلية للمعارضة. أُحرِقت مراكز رسميّة، وقُطعت الطرقات، وتحوّلت المدينة إلى جبهة مواجهة ضدّ السلطة المركزية. لقد أخرَجت طرابلس في أيار 1958 كل ما تضمره للكيان اللبناني وما عاشته معه من تفكّك والتباس، وشهدت المدينة انقساماً وحوصرت المدينة القديمة وتعامل الجيش اللبناني مع المواطنين كخارجين عن السلطة وتمّ قمع المتظاهرين. 


الشهابيّة ومحاولة ترميم العلاقة

انتهت الثورة بتسوية إقليمية مع مجيء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية. وهذا ما ساهم في وصول زعامة آل كرامي إلى وهجها، مع دعم رشيد كرامي للمرحلة الشهابية. عادت المدينة إلى الدولة بحذر. عمل كرامي على تمثيل المدينة في الحكومات المتعاقبة، مساهماً في ربط طرابلس بالمركز السياسي في بيروت، مع محاولة لتحقيق توازن بين مطالب المدينة المحلية ومتطلبات الدولة الجديدة. ساهمت سياسات الشهابية في تحقيق الإنماء المتوازن في المناطق وافتتاح كليات جامعية، ما ساهم في خلق طبقة وسطى جديدة دخلت في الوظائف العامة التي خلقها نظام الشهابية في القطاع العام. تصالحت طرابلس مع الدولة لكن باستحياء، وأحست بمشاركتها في السلطة وانخرطت معارضتها في النظام اللبناني من خلال الانتخابات. لكن للشهابية وجه خفيّ آخر، أحبط فعلياً مشاركة طرابلس المتنوعة في السياسة اللبنانية، إذ استغل جهاز الاستخبارات الجديد أوساط الحارات القديمة وقبضاياتها للتدخّل في الحالة الطرابلسية، مع تراجع المرجعيات الدينية والسياسية، وعمل على تشكيل طبقة فتوّات تعمل لخدمة زعامة أحادية تمثلت بترسيخ قوة رشيد كرامي الموالي لشهاب وأحد أقطاب المرحلة الشهابية. 


مِن دولة المطلوبين إلى مشيخات الشباب

ومع وصول سليمان فرنجية إلى الحكم في العام 1970 وترؤُّس صائب سلام المعادي لرشيد كرامي للحكومة، عاد الخلاف مع العاصمة إلى الصدارة. حاول سلام الانتقام من «طبقة الفتوّات» التي تأسست في طرابلس، ونشأت حرب داخلية مع هذه الفلول التي اتخذت من المدينة القديمة مركزاً لها وعارضت الدولة اللبنانية، وأسست ما عُرف بـ«دولة المطلوبين». في هذه المرحلة، لم تكن طرابلس لاعباً فاعلاً في السياسة اللبنانية، وعانت من هشاشة داخلية مع تمدّد حالات الفوضى بسبب ما أفشته تجربة الفلول في المدينة القديمة، لتأتي الحرب وتجهز على آخر ما بقي من خيط علاقة مع الكيان اللبناني. 

ومع صعود الثورة الخمينية الإسلامية، نشأ ما عرف لاحقاً بلجان الأحياء ومشيخات الشباب التي ناصرت الأفكار الإسلاموية. وهنا خطت طرابلس خروجها الجديد على الدولة اللبنانية، وفتحت شرخاً كبيراً مع اجتماعها اللبناني والأهلي. تمركزت هذه المشيخات في العشوائيات التي زادت مع موجات النزوح الريفي إلى المدينة، وشكلت بؤرها في الأحياء الفقيرة، لا سيما باب التبانة، متغذّيةً من أفكار إسلامية عامّية. ومن هذه المشيخات، خرجت «حركة التوحيد الإسلامي»، بقيادة سعيد شعبان. تمكّنت الحركة من السيطرة على أجزاء واسعة من المدينة ورفعت شعارات دينية وسياسية تعبّر عن غضب واسع لدى الشرائح الشعبية الطرابلسية. ساهم غياب الدولة وضعف البنى الاقتصادية والاجتماعية، في توفير بيئة خصبة لصعود هذه الحركة التي دخلت لاحقاً في صدامات مسلحة مع القوى الفلسطينية المتبقية، ومع جماعات يسارية ومدنية أخرى داخل المدينة.


صراع فلسطيني- سوري حول طرابلس

أفسح غياب الدولة خلال الحرب المجال لظهور قوى محلية مسلّحة باتت هي الفاعل الأساسي في سياسة المدينة. ففي نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، تحوّلت طرابلس إلى قاعدة خلفية للقيادة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، خصوصاً بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 وخروج المنظمة من العاصمة. مثّل الوجود الفلسطيني في المدينة دعماً رمزياً وسياسياً لمجتمع محلي لطالما نظر إلى القضية الفلسطينية باعتبارها امتدادًا لنضاله الهوياتي والوطني. لكنّ هذا الوجود لم يُرضِ نظام حافظ الأسد الذي رأى في طرابلس معقلاً محتملاً لمعارضة سنّية، سواء عبر البعد الفلسطيني أو من خلال القوى الإسلامية المحلية، لتتحوّل المدينة إلى إحدى ساحات الحرب بين النظام السوري وحركة فتح. 

مع اشتداد الضغط الأسدي على منظمة التحرير، التي كانت تستخدم طرابلس كموقع عمليات وتنظيم سياسي، جاء الحصار العسكري الذي فرضه حافظ الأسد بالتعاون مع مجموعات فلسطينية منشقة كضربة للمدينة وشق صفوفها. لم يكن الهدف السوري يقتصر على إخراج عرفات، بل كان جزءاً من عملية أسدية لهندسة التوازنات داخل المدينة وضرب أي تموضع سياسي أو عسكري خارج نفوذ نظام الأسد الذي وضع يده على المدينة أمنياً. وقد ترافقت هذه العملية مع مواجهات دموية أودت بحياة المئات، وأسهمت في تعميق الجرح بين المدينة والدولة التي ظهرت مرة أخرى كطرف متفرج وعاجز تماماً. وعلى الرغم من انتهاء الحرب، بقيت العلاقة بين طرابلس والدولة اللبنانية هشّة ومشوّشة. فبدل أن تُعامل كمدينة منكوبة تحتاج إلى خطة إنمائية وإعادة إدماج، تُركت لتواجه تداعيات الحرب وحيدة.


الوصاية السوريّة والإعمار الغائب

مع انتهاء الحرب وتسلّط الوصاية السورية، اتّسمت علاقة طرابلس بالدولة اللبنانية بالتعقيد والتوتّر الساكن. وبقيت المدينة على هامش القرار السياسي والإنمائي وتحت رقابة من الأجهزة السورية واللبنانية. دخلت طرابلس مرحلة من التطبيع القسري مع الدولة المركزية الخاضعة للوصاية السورية. وطبّع نظام الحريري مع النظام الأسدي، راسمين معاً المشهد السياسي الطرابلسي الذي عرف جموداً كبيراً ومجحفاً بحق المدينة. وفُرِض على طرابلس تمثيل نيابي يخدم هندسة السياسة الأسدية في لبنان. وفرضت الوصاية السورية نظاماً أمنياً صارماً على المدينة، وكانت فروع المخابرات متداخلة في تفاصيل الحياة اليومية.

وخلال مرحلة إعادة الإعمار، بقيت طرابلس خارج خريطة الاستثمار الجدّي. وبينما شهدت بيروت طفرة في مشاريع البنية التحتية والمرافئ والاتصالات، بقيت طرابلس تحت عناوين إنمائية فضفاضة من دون تنفيذ فعلي. لم يتمّ تشغيل المنطقة الاقتصادية الخاصة، ولم يتمّ تأهيل مرفأ المدينة ليكون رافعة اقتصادية. كانت الدولة تنظر إلى طرابلس على أنها مدينة يجب ضبطها. 


عودة إلى الشائعة

تستند الشائعة المُخادِعة إلى ترويجٍ يسخّف الصراع التاريخيّ المُضني الذي عاشته المدينة مع الكيان اللبناني وأجهزته، ويحصره بفرضية غير واقعية تقول إنّ طرابلس هواها سوريّ وهي تطلب هذا الهوى. فيصبح الانضمام إلى سوريا عودة إلى طبيعة الأمور. وهذا مغلوط ومفبرك. فما هو واقعي هو أن المدينة في محاولاتها الانتفاض على الدولة، كانت تريد أن تبرز نفسها من موقع الاعتراض، لا الخضوع، كي تثبت هويتها الخاصة بها. فهي بخليطها الاجتماعي والديني والثقافي والإثني والتاريخي، وموقعها الاستراتيجي، صارت ما نسميه «المكون الطرابلسي»، الذي هو مزيج لتقاطعات ليست لبنانية تماماً وليست سورية بالكامل وليست تركية عثمانية، ايضاً. وهذا ما لم تقبله الدولة الحديثة التي أرادت التحكم بطرابلس وضمّها، من دون اعتبار لخصوصياتها. فمدينة ذات طبقات عدة، واختلاطات كثيرة، وتجذرات ثقافية خاصة بها، لا يمكن دمجها بكيان حديث من دون النظر إليها، ولاحقاً النظر إلى مطالبها التي صارت، للأسف، مطالب دنيا، تُحجم الدولة اللبنانية عن تقديمها لمدينة، خسرت وتخسر كل يوم نفسها.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
حدث اليوم - الخميس 7 آب 2025
07-08-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 7 آب 2025
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 7/8/2025
طفرة الشرع الاستثماريّة: صفقات مشبوهة وشركات واجهة
07-08-2025
تقرير
طفرة الشرع الاستثماريّة: صفقات مشبوهة وشركات واجهة
عودة جثمان عودة الهذالين بعد 11 يوماً على احتجازه
مسيّرة للجيش اللبناني تقتل مطلوبين: أسئلة من دون جواب
07-08-2025
تقرير
مسيّرة للجيش اللبناني تقتل مطلوبين: أسئلة من دون جواب
إسرائيل قصفت أكثر من 500 مدرسة تأوي نازحين في غزة منذ تشرين الأوّل 2023