في فيلمها الوثائقي «نحن في الداخل»، تروي فرح قاسم الأيام الأخيرة في حياة والدها، الشاعر مصطفى قاسم، وهو في عقده الثامن. تعود فرح إلى طرابلس بعد قرابة خمسة عشر عاماً قضتها خارجها، لتعيش تلك المرحلة مع والدها. توثّقها بكاميرتها من داخل البيت الواقع في أوّل شارع المئتين، وتستعين بالشعر كوسيلة للتواصل والتقارب معه ومع بيئته التي باتت بعيدة عنها، لتضيء على علاقتها به وتفتح نافذة على المجتمع الطرابلسي.
بدايةٌ مع الشعر
في أحد الأيام التي تمضيها مع والدها في البيت، تقرّر فرح أن تكتب أبياتاً من الشعر. تجلس بقربه وتبدأ بإلقاء ما كتبت لكنه لا يدعها تُكمل، ويقاطعها ليصحّح لفظًا أو معنى. تعترض هي وتبتسم، ونراه هو يضحك بدوره ثم ينصحها ممازحاً بأن تبقى خلف الكاميرا وألا تُكرّر محاولة كتابة الشعر. تردّ عليه مازحة بأنه محطّم أحلام.
هكذا تبدأ فرح بإخبارنا عن علاقتها بأبيها، علاقة يسودها الودّ والصداقة، وإن كان الأب يبدو في ظاهر الأمر قاسياً أو غير مشجّع.
رغم تعليقه، تثابر فرح على اهتمامها بالشعر. فتزور أحد زملاء والدها، وهو رجل في الثمانين يَقبل بأن يعلّمها الشعر. فيصحّح كلماتها ويقترح بدائل أكثر تماسكاً وإيقاعاً. في تلك الجلسة، يحكي لها عن تاريخ طرابلس، عن كاباريهات الستينات، وعن حبّه لامرأة كانت «مومس»، كما وصفها. عندما تعترض على الكلمة، يبدّلها (بعفوية لا تخلو من مفارقة) بـ«ساقطة». وكأنّ المخرجة هنا، بخفّة دم وسخرية رقيقة، تكشف لنا الفجوة اللغوية والثقافية بين جيلها وجيله، ذاك الجيل الذي قد يكون هو نفسه جيل معظم الحاضرين في صالة متروبوليس في بيروت، حيث عُرض الفيلم. ضحكة فرح الناعمة في هذا المشهد، تطمئن هذا الجيل الذي لم يعُد يستخدم تلك الكلمات، لكنه على الأرجح يجد في هذا التباعد اللغوي لحظة صادقة.
تصرّ فرح على الاستمرار في تعلّم الشعر، فترافق والدها، أبو أحمد، إلى نادي الشعراء، حيث يجتمع رجال يكبرونها سنّاً، أصغرهم في الخمسين، وهي لم تتجاوز عقدها الثالث. تجلس معهم وهم يقرأون الشعر كما يتلون القرآن، بلا تناقض. فحتى لو عبّر أبو فرح في لحظة عن عدم راحته حين تلاقى الدينُ مع شعره، فمن الواضح أنه تجاوزها عندما قرأ في المنتدى الثقافي في معرض الكتاب في طرابلس: فسمّي باسم ربّك واشربيني. في هذه الجلسة، وبين هؤلاء الرجال، تجد فرح شجاعتها. تلقي الأبيات نفسها التي سخر منها والدها. لكنّها، هذه المرّة، تلقى إعجاب الحاضرين. يظلّ هو صامتًا وفخورًا بخجل. إنّها «بنت أبيها»، كما يقولون. في هذين المشهدين، تُخبرنا فرح عن ماضي مدينة لا نعرفه وتُسلّط الضوء على علاقة الشاعر بالدين وعلى الشعر كتراث حيّ، ينتقل عبر الأجيال، بالرغم من الاختلافات الثقافية.
برقّة وأناقة، تأخذنا فرح إلى ما يشغل بال أعضاء منتدى الشعر: نقاشات تمتدّ من العلاقة المعقّدة بين الشعر والدين، إلى علاقة الأديب العربي بالغرب، وبين الترجمة والتأثّر بالغرب، والتعلّم منه ومساءلته. تتشعّب الحوارات إلى دور اللغة وغاية الشعر، وموقع الشاعر في مجتمعه، وصولاً الى العلاقة بين الدين وعلم الفلك. تلتقط فرح هذه الأسئلة الوجودية والثقافية بعدسة حساسة، وتختار من العبارة المكتوبة على باب المنتدى «نحن في الداخل»عنوانًا لفيلمها، وكأنها تعبر منها إلى قلب ذاك المجتمع، لا كمراقبة من الخارج، بل كمن تنتمي إليه بوعيٍ جديد.
طرابلس كما نراها
يوسّع الفيلم عدسته عندما تأخذنا فرح إلى خارج عالم الشعر عبر زيارتين لشخصيّتين من المدينة: طبيب أُذن وطبيب جرّاح. مشاهد لا تخلو من الغرابة، خاصة عند الطبيب الجرّاح الذي يحتفل بالمرضى عند «تخرّجهم» من العيادة بعد شفائهم، في طقس طريف يكشف علاقة غير تقليدية بين الطبيب ومرضاه. تنتهي الزيارة بإلقاء الطبيب أبياتاً من الشعر تطرب اذنَيْ أبو أحمد. هنا تدخلنا فرح الى فئة مختلفة من النسيج الطرابلسي حيث نلتقي جيلًا درس في الخارج، قبل أن يعود ليعيش في مدينته لربما بقدر من الغربة الفكرية والانفصال الثقافي عنها. في هذه اللحظات، يتحوّل الفيلم إلى تأمل هادئ في المسافة بين المألوف والغريب، بين ما ننتمي إليه وما لم نعد نفهمه.
يرصد الفيلم كيف يعيش جيل أكبر من فرح، في عالم يتغيّر بسرعة. وتنقل لنا شعور الخوف من عالم جديد ما عادوا يفهمونه، لا سيما مع انطلاق احتجاجات تشرين 2019 في طرابلس التي تلتقطها بعدستها. وكما يقولها أبو أحمد في لحظة تأمّل، بات زمن اليوم مختلفاً عن الماضي وما إلنا غير الشعر. تنزل فرح الى الشارع لتشارك في المظاهرات، كما تقول لطبيب الأذن الذي يكشف لها سبب طنّة أذنها: الصوت العالي في الثورة. بلقطة طويلة وشاعرية تصوّر لنا المدينة ليلاً. من الأزقة القديمة حتى ساحة النور، تعيد إلينا جمالها المهمل، قبل أن نراها «عروسة الثورة» كما سمّيت، في مشهدٍ صاخب بالحياة والأمل. تستحضر فرح هنا لحظة نادرة لجيلٍ راوده الأمل في أن يكون المستقبل أقل ظلماً على المدينة، وإن بقي الخوف ساكناً في نفوس من سبقوه. لا يأخذنا الفيلم إلى عوالم الماضي وحسب، بل يدعونا أيضاً إلى مواجهة خيبتنا، وإلى التساؤل عمّا إذا كنّا، في نهاية المطاف، قد خذلنا تلك المدينة.
عن حبّ الأب والفقدان
لكنّ «نحن في الداخل» ليس فيلماً عن طرابلس فحسب. هو أيضاً فيلم عن فرح نفسها، وعن علاقتها بوالدها وعن الحبّ الذي يجمعهما، كما في المشهد الذي تلقي فيه للمرّة الأولى شعراً كتبتْه أمامه، أو في اللحظة العابرة التي تصرخ فيها على أحد السائقين أثناء القيادة، فيوبّخها والدها، ليس غضبًا، بل ربّما خوفاً عليها: ما فيني إحميكي إذا كبر المشكل. في الحالتين، لا نراه معارضاً لتحدّيها، بل محبّاً بطريقته الخاصة. هكذا ترصد فرح حبّ والدها لها وضعفه خلف صلابته. تلتقط تلك اللحظات الحميمة الصغيرة التي تُظهر جوهر العلاقة بينهما: تقصّ له شعره وهي تعلّمه تمارين التنفّس، تجلس بجانبه أمام التلفاز لترتّب له أدويته، وتمازحه عبر الهاتف من الغرفة نفسها. ترسم لنا الأب التقليدي المحبّ والفخور، ذاك الذي نعرفه جيداً. تتسامح معه، تماماً كما نتسامح مع أهلنا، لأنها تدرك تماماً أن العالم الذي ينتمي إليه الأب هو العالم ذاته التي غادرته قبل خمسة عشر عاماً.
مع تقدُّم المرض، يغدو أبو أحمد غير قادر على ارتياد نادي الشعر. فتذهب فرح مكانه. تجلس بين أصدقائه، تخبرهم عن صحته، وتُكمل ما بدأه لتدخل السلسلة الحيّة لحب الشعر، وكأنها وريثة. تصوّره في غرفته بمستشفى الجامعة الأميركية في بيروت وهو يلقي الشعر للممرّضين ليحوّل المكان إلى حلقة زجل صغيرة. الموت يقترب. في لحظة مؤثرة، تسأله عما يراه سبباً لقيامها بتصوير هذا الفيلم، فيجيبها بأنه عن علاقة بنت بوالدها. تجلس فرح بقربه على السرير، وتعبّر عن خشيتها من نسيانه بعد رحيله، فيقول لها: ما في شي بيبقى ثابت... الصورة بتبهت شوي شوي. صدق أبو أحمد، غير أنّ ابنته- وبرقّة مرهفة- خلّدت ذكراه.
يموت أبو أحمد في نومه. تخبرنا بذلك نانا، المرأة السريلانكية التي عاشت معهم منذ وفاة والدة فرح. يصمت الفيلم. ثم نسمع آخر أبيات كتبها له رفيقه أبو جميل. لحظة تؤثر بفرح كما تؤثر فينا نحن المشاهدين.
لكن لا ينتهي الفيلم هنا، بل بمقطع فيديو مصوّر من التسعينات، عندما كان والدها أستاذ مدرسة. مشهد احتفال يبدو فيه أبو احمد شاباً جميلاً مليئاً بالحياة، وكأنها هكذا أرادت أن تتذكره. ثم نسمع رسالةً كان قد كتبها هو لأبيه بعد صدور ديوانه الأول. وهنا يكمن مغزى الفيلم، إذ يبدو وكأنها تضعه بأكمله كرسالة تهديها لوالدها، لتجد من خلاله طريق العودة، وبراحة مطلقة، إلى تلك السلسة العابرة للأجيال التي تنتمي إليها. في هذه الرسالة إلى والدها، تأخذنا فرح إلى ذلك اللقاء الصامت بين جيلين، حيث تعود إلى طفولتها وتعيد رسم ملامح العلاقة بين الابنة وأبيها. لعلّها تملك من الجرأة ما لم نملكه نحن، بنات الآباء، لتقول ما عجزنا عن قوله: إننا نحبهم، رغم كل الاختلافات، ورغم كل المسافات. ولعلّها تمتلك الجرأة أيضاً لفعل ما لم نجرؤ نحن، أبناء المنافي، على فعله منذ أن غادرنا المدينة قبل ثلاثة عقود: العودة اليها.
تملك فرح شجاعة مواجهة الفقدان، تبدأها بتقبّل الإرث كما هو: بثقله وحنينه، بما فيه من حضورٍ وغياب.