الاستشراق في وجه الديموقراطية
1920
في العام 2020، نشرت الأكاديمية والأستاذة الجامعية الأميركية إليزابيث تومبسون كتابها القيّم «كيف سرق الغرب الديموقراطية من العرب: المؤتمر السوري في عام 1920 وتدمير التحالف التاريخي الليبرالي الإسلامي فيه»، والذي تُرجِم إلى العربيّة ونُشر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في العام 2022.
تشرح تومبسون، بالاستناد إلى أبحاث معمقة في أرشيف عدّة دول، كيف تآمرت القوى الاستعمارية في فرنسا وإنكلترا للالتفاف على مبادئ نيلسون وحق الشعوب في تقرير مصيرها ومبادئ عصبة الأمم التأسيسية. أدّى ذلك إلى إجهاض أول تجربة ديمقراطية عربية مع حكومة دمشق والمؤتمر السوري الأول، وإلى فرض نظام الانتداب بالقوة على الدولة الوليدة، بعد أن رفض السوريون قرارات مؤتمر الصلح في باريس.
أظهرت تومبسون في كتابها كيف فبرك المسؤولون والمبعوثون البريطانيون والفرنسيون في تقاريرهم المرفوعة لحكوماتهم ولعصبة الأمم، السردية الاستشراقية عن التطرف العربي والتعصب الإسلامي وعدم جهوزية السوريين لممارسة الديموقراطية وغياب التمدّن والنضج، وبالتالي ضرورة احتلال سوريا وإخضاعها لنظام الانتداب. تؤكّد تومبسون أنّ هذه التجربة الديموقراطية الرائدة بسياسيّيها وكوادرها المؤهّلة، وبما تضمّنته من بناء دولة مدنية نيابية وصياغة أوّل دستور يحمل توافقات جوهرية بين التيارين الليبرالي والإسلامي، لم تفشل في دمشق في العام 1920، بل أنها سُرِقت عمدًا من قبل الغرب الاستعماري.
2025
نعود اليوم، بعد ما يزيد على المئة عام من فرض الانتداب الفرنسي على سوريا وإسقاط حكومة فيصل ودخول الجنرال غورو إلى دمشق، وبعد 15 عامًا على اندلاع الثورة السورية في سياق ثورات الربيع العربي، وبعد عام واحد على دخول قوات «هيئة تحرير الشام» والفصائل المتحالفة معها إلى دمشق وإسقاطها لنظام الأسد، نعود لنجد أنفسنا من جديد أمام سرقة موصوفة لإرادة الشعب السوري، وأمام نفس المنطق التبريري الذي يعيد إنتاج الصور النمطية الكولونيالية عن عدم جهوزية السوريين لممارسة الديموقراطية.
يكفي التمعّن مؤخراً في تصريحات بعض المسؤولين الغربيين والأميركيين، وعلى رأسهم المبعوث الأميركي توم برّاك الذي كرّر في تصريحاته المقولة الاستشراقية عن ضعف الدولة الوطنية في منطقتنا وافتقادها للمشروعية التاريخية، كما شكّك بوجود شعوب وبأهلية النخب والجماعات الوطنية والأحزاب والتيارات السياسية، لصالح وَلَعِه بالعشائر والقبائل والطوائف. بعد أكثر من مئة عام، ما زال هذا المنطق الاستشراقي متجذِّراً في دوائر صنع القرار الغربية.
الاستشراق المستورَد
الطامة الكبرى أنّ هذه التصوّرات والأفكار النمطيّة والنظرة الاستعلائية باتت تجد اليوم صدى وقبولاً وإعادة توظيف نفعي من قبل «هيئة تحرير الشام» ومريديها والمتحالفين معها والمطبِّلين لها للإمعان في التدليس ومصادرة إرادة الشعب السوري الحرّة النابعة من كونه مصدر جميع السلطات، وتبرير حرمانه من حقه في امتلاك نظام ديموقراطي برلماني يكون قادراً فيه على انتخاب ممثليه في السلطة التشريعية وعلى رأس السلطة التنفيذية.
يتمّ كل ذلك من خلال استخدام حجج واهية وأساليب ملتوية، اختصرها شعار «مَن يحرّر يقرّر»، ابتداءً من مشهديّة مؤتمر النصر، المنعقد تحت مظلة ما سمّاه فطاحلة كَتَبَته وأشباه مثقّفيه بـ«الشرعية الثورية»، مروراً بمسرحية المؤتمر الوطني وما تلاه من إعلان دستوري معلّب وما انبثق عنه من حصر السلطات في يد رئيس السلطة الانتقالية، ووصولًا إلى السرقة الموصوفة لأصوات الشعب السوري ومصادرة حقه في اختيار ممثليه في البرلمان، لصالح مجلس معين من قبل السلطة التنفيذية تمّت تسميته بـ«مجلس الشعب» على مجرى عادة النظام السابق في التسميات. وهو مجلس يعيِّن ثلث أعضائه الرئيس الشرع، ويتمّ انتخاب الثلثين الباقيين من قبل عدة آلاف من الناخبين المعيّنين في مجالس انتخابية من قبل لجنة عليا للانتخابات عيّنها الرئيس الشرع نفسه، لتكون النتيجة أن السلطة التنفيذية عينت بشكل مباشر أو غير مباشر أعضاء مجلس الشعب الذي يفترض فيه أن يمثل السلطة التشريعية ويمارس دورها في الرقابة على السلطة التنفيذية.
نتائج انتخابات لا تليق بها حتى كلمة انتخابات
في ظلّ هذا المونتاج الانتخابي القميء المصمَّم لسلب الشعب السوري إرادته الحرّة، لم يكن مستغربًا أن تأتي نتائج الانتخابات/ التعيينات بناءً على المنطق ذاته الذي يتمّ فيها اليوم إدارة الدولة ومؤسساتها، وهو منطق الولاء والمحسوبيات والقرابة والتبعية لمراكز السلطة الحقيقية.
فمن بين 119 عضوًا منتخَبًا/ معيَّنًا الذين نُشرت أسماؤهم، غابت الشخصيات السياسية العامة أو ذات الصفات الاعتبارية، كما غابت كل التيارات والأحزاب السياسية المعارضة أو حتى الموالية للسلطة الحالية، ما عدا الأشخاص المحسوبين على «هيئة تحرير الشام» وهيئتها السياسية. كما غاب ممثّلو المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة الحالية في الشمال الشرقي وفي السويداء، وعدد كراسيهم 21. وجاء تمثيل المرأة مُعيباً ومُخجلاً، بحيث لم يتجاوز عدد النساء المنتخبات/ المعيَّنات الـ6 من أصل 119، بنسبة لا تزيد عن 5٪.
أمّا التمثيل على أساس ديني ومذهبي، فجاء هو الآخر مجحفًا ومجافيًا لحقيقة التنوع الديني في المجتمع السوري، حيث اقتصر تمثيل المسيحيين على مقعد واحد ووحيد، عن مدينة صافيتا في محافظة طرطوس بنسبة تقل عن الـ1٪، وغاب تمثيل المسيحيين بالكامل في مدن كبيرة ورئيسية مثل دمشق وحلب وحمص، تضمّ مقارّ أهمّ البطريركيات والمطرانيات لمسيحيّي المشرق. كما غاب تمثيل الدروز بالكامل عن المجلس، واقتصر عدد المنتمين للطائفة العلوية على 3 أعضاء فقط، يمثلون نسبة 2.5٪. أما تمثيل الأكراد، فبلغ 4 أعضاء بنسبة 3.5٪ في حين وصلت نسبة العرب السنّة إلى 93٪.
سيعمد الرئيس الشرع إلى استكمال عدد أعضاء المجلس من خلال التعيين المباشر لـ70 عضوًا، أي بنسبة الثلث، ليكون العدد النهائي للمجلس 210 أعضاء. ومن المفترض أن يحاول الشرع تدارك الخلل في تمثيل أغلب الفئات المجتمعية، والذي نجم عن خيارات اللجنة العليا للانتخابات وآلية عملها وطريقة تشكيلها. لكن من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تدارك الأخطاء الفادحة والخلل البنيوي القائم على تجميع الصلاحيات بيد القائد الفرد، والناجم عن فهم قاصر وأحادي الجانب لمعنى المشاركة السياسية والمجالس المنتخبة والديموقراطية التمثيلية وفصل السلطات وبناء دولة العدل والقانون.
حججٌ واهية
عندما يُسأل مسؤولو النظام الجديد وكَتَبته ومؤثِّروه ومطبِّلوه عن الهدف من وراء الامتناع عن الاحتكام إلى الشعب وأخذ المشروعية منه بعد سقوط الديكتاتورية، يأتيك الجواب جاهزاً وقاطعاً أنّ البلاد تعبر مرحلة انتقالية مدّتها خمس سنوات، وهي خارجة من حرب أهلية ومقطعة الأوصال، كما أنّ هناك ملايين اللاجئين في مخيمات اللجوء في الداخل السوري وفي بلدان الجوار، وهناك غياب لقانون انتخابات عادل، ونقصٌ وتلاعبٌ في السجلات المدنية، وبالتالي هناك صعوبة بالغة في تحديد الناس المؤهَّلين للترشّح وللتصويت.
لكنّ السؤال الذي يتوارد إلى الذهن أمام منطق تبريريّ كهذا، هو لماذا لا يتمّ الدعوة إلى مؤتمر وطني حقيقي تشارك فيه كل القوى السياسية والمجتمعية، بحثًا عن المصالحة الوطنية والمخارج التوافقية والدستورية التي تضع البلاد على المسار الصحيح وتسمح بإحقاق العدل وبمحاسبة المجرمين والمتورّطين في دماء الشعب السوري؟ ولماذا لا يتمّ الاستفادة من هذه المرحلة الانتقالية لتدارك النواقص الموضوعية والتحضير لانتخابات نيابية يمكن لها أن تجري بعد سنة أو سنتين؟ ولماذا لم يتمّ، خلال المرحلة الانتقالية، تفعيل دستور العام 1950، بما فيه القانون الانتخابي القديم وقانون الأحزاب لخلق استمرارية مؤسساتية ولبناء مشروعية ثورية ودستورية حقيقية تستند إلى الميراث الديموقراطي للجمهورية السورية وتعيد وصل ما انقطع مع تجارب الماضي؟ ولماذا الإتيان بإعلان دستوري هجين وقاصر تمّ طبخه في الغرف المغلقة ومن قبل أشخاص غير مؤهَّلين قانونيًا ومعرفيًا لهذه المهمّة؟
ومن ثمّ، والأهمّ من كل هذا وذاك، أليس من الجائر والكارثي أن تحاول السلطة الحالية، في ظل غياب أي رقابة شعبية أو برلمانية حقيقية، الاستناد إلى هذا المجلس، المعيّن والفاقد للصفة التمثيلية، لكتابة دستور جديد للبلاد مفصّل على مقاسها، يؤسّس لديكتاتورية جديدة ويعيدنا إلى نقطة الصفر؟ أغلب الظن أنها ستحاول ذلك، وهي إذا نجحت في تمرير مشروع كهذا ولم تواجَه بمعارضة حقيقية وفاعلة، فعندها لن يتمّ فقط سرقة أصوات الشعب السوري وحقوقه المشروعة في اختيار ممثليه، ولكن سيتم كذلك سرقة حاضره ومستقبله.