أجرى رئيس مجلس النوّاب اللبناني نبيه برّي اتّصالاً دولياً ليبارك للشابّ الأميركي اللبناني الأصل، مو بيضون، الذي فاز برئاسة بلدية ديربورن هايتس في ولاية ميشيغان الأميركية. كان يمكن لهذا الاتصال أن يبدو عادياً، من باب المجاملة أو توطيد العلاقات مع مغتربين ما زالوا يحتفظون ربّما بالجنسيّة اللبنانية، خصوصاً وأنّ أصواتهم قد تنفع في الانتخابات النيابية المقبلة. لكنّ برّي ليس من النوع الذي يتوقّف عند هذا الحدّ.
فبعد «المبروك» مباشرةً، أضاف برّي للمرشّح الفائز: الله يبيّض وجكن. وهذه عبارة لا يمكن فهمها ما لم يُضَف إليها نصفها الثاني المُضمَر: «الله يبيّض وجكن متل ما بيّضتولي وجّي». أراد برّي، إذاً، أن يقول لمو بيضون الفائز بالعُموديّة إنّه واحد من رعاياه في ديربورن هايتس. وما نجاحه هناك إلا نجاح لنبيه برّي ولما يمثّله. هكذا، وبعبارة واحدة باتصال هاتفي مسجّل، صادر نبيه برّي نجاح أحد الشباب المغتربين ووضعه في رصيده.
من جهته، بدا العمدة الفائز مو بيضون حائراً بما يفعله باتصال كهذا. أجاب بتهذيب، بعبارات مختلطة بين العربية والإنكليزية، واكتفى بالشكر والترحيب ببرّي إن شاء زيارة ديربورن هايتس يوماً ما. غير أنّ رجلاً عرّف عن نفسه بحسن بزّي (أبو نادر)، كان واقفاً إلى جانب بيضون، ويبدو أنّه لعب دور وساطة لحدوث هذا الاتصال، فهمَ ما يقصده برّي، وتدخّل ملمِّحاً لبيضون إنّ هذا الحدّ من التهذيب لا يفي بالغرض في السياق اللبناني. فسارع إلى التأكيد لبرّي: نحنا منتغطّى بعبايتك. أمّا عمدة ديربون هايتس، فسمّاه السيّد بزي ابنك مو بيضون حتى يعود المغترب اللبناني الذي بات عمدة مدينة أميركية «ابناً» بارّاً لزعيم الطائفة. ويبدو أنّ السيّد بزي نفسه يعاني من قسوة الغربة، فطلب من برّي: بدنا رضاك ودير بالك علينا باغترابنا، ليفتح بذلك باب المقايضة الاعتيادية بين أبناء الطوائف وزعيمهم، ولاءً ومصالحَ. مقايضة أكد أنّ الحدود لن تقوى على محوها.
إزاء تأدية فروض الطاعة والولاء هذه، أدرك برّي فعلاً أنّ الحدود أشدّ وهناً ممّا كان يعتقد، وشعر بامتدادات زعامته، فما عاد يكتفي بالمباركة لابن بيضون وابن بزّي، بل فردَ عباءته نحو الساحل الشرقيّ للولايات المتحدة قائلاً: مبروك إلكن ولنيويورك كمان، ليضمّ تحت جناحه عمدة نيويورك الجديد زهران ممداني، الاشتراكي الأميركي الأوغاندي الذي لم يفُت برّي أنّه مسلم من الطائفة الشيعية أيضاً.
إذاً، في الوقت الذي يحارب فيه نبيه برّي حقّ المغتربين بانتخاب 128 نائباً، ها هو يلاحقهم إلى بلدان اغترابهم لتذكيرهم بزعامته، وليختزل الصراعات السياسية التي يخوضونها بولاءاتهم الطائفية. فلا فرق بين اشتراكيّ وديموقراطيّ وجمهوريّ ولاحزبيّ ما داموا ينتمون للطائفة التي يشكّل نبيه برّي «أستاذها» في لبنان وبلدان الاغتراب أيضاً.
قبل اتصال برّي بأيّام، بعث حزب الله برسالة سياسيّة مفتوحة إلى الرؤساء الثلاثة. الحزب الذي يواجه معارضةً داخليةً لسلاحه، والذي فقدَ غطاءه العابر للطوائف الذي كان يؤمّنه له الحلفاء، والمتّهم من خصومه بولائه لإيران، أراد أن يجدّد شرعيّته من باب انتمائه للبنان الوطن، فلم يتورّع عن تضمين رسالته العبارة التالية: بصفتنا مكوّن مؤسِّس للبنان الذي التزمناه وطناً نهائياً لجميع أبنائه، نؤكد حقنا المشروع في مقاومة الاحتلال.
وضع حزب الله، المولود في الثمانينات، نفسَه في موقع «المكوّن المؤسِّس للبنان»، خالطاً بين نفسه وبين الطائفة الشيعيّة. وهو، بذلك، تفوّق على نبيه برّي، زميله في الثنائي الشيعي. فإذا كان برّي قد اعتبر زعامته الشيعيّة عابرةً لبلدان الاغتراب، وتتخطّى لبنان إلى الولايات المتحدة فأوغندا، فإنّ حزب الله تجاوز مسألة تمثيل الطائفة، ليتماهى معها، حتى يصبحا جسداً واحداً لا عابراً للقارّات وحسب، بل للزمن أيضاً. فيحلّ حزب الله مكان الطائفة في زمن تأسيس لبنان الكبير، ليؤكّد من خلال هذا التماهي حقّه بالدفاع عن السيادة الوطنية.
على بُعد أشهر من الانتخابات النيابية، يخوض حزب الله وحركة أمل معركة احتكار تمثيل الطائفة، كما لو أنّ كسر هذا الاحتكار سيشكّل هزيمةً لهما، حتى لو احتفظا بالأكثرية الساحقة من المقاعد. يظهر ذلك بوضوح من خلال التمسّك بحرمان المغتربين من حقّ اقتراع 128 نائباً، لكنّه بدأ يظهر أيضاً من خلال مبالغاتٍ وتوتّرات في السلوك والتصاريح والتبريرات. يسافر برّي في الجغرافيا ويعبر الثقافات. أمّا حزب الله، فيسافر بالزمن ليثبت أنّه ليس حزباً يمثّل طائفة، بل حزب تتجسّد فيه روح الطائفة عبر التاريخ.
عسى ألا يطول عناء السفر، وينكسر احتكار كلّ الطوائف حتّى تعود اللعبة السياسيّة إلى بلد الطوائف.
