لو كان سوبرمان موجوداً، فهل كان سينقذ أهل غزّة من الإبادة الإسرائيليّة؟ هذا بالضبط ما يفعله في فيلم «سوبرمان» الجديد– أو هكذا يبدو على الأقل.
في الفيلم، يتدخّل سوبرمان لمنع دولة خياليّة مدجّجة بالسلاح تُدعى «بورافيا» من اجتياح جارتها الأضعف «جارهانبور»، وهي الأخرى خياليّة. «بورافيا» حليفة للولايات المتّحدة وتشتري الأسلحة منها، سكّانها بيض، ويرأسها رجل سلطوي معتوه. أمّا «جارهانبور»، فهي دولة فقيرة، طبيعتها قاحلة شبه صحراوية، سكّانها سمر البشرة، ولا يملكون من السلاح سوى العصي والرفوش والحجارة.
هذه العناصر مُجتمِعةً دفعت بكثيرٍ من المشاهدين إلى اعتبار حبكة الفيلم استعارةً للحرب الإسرائيليّة على غزّة. وطبعاً، تباينت ردود فعلهم تبعاً لمواقفهم السياسيّة. فمن يؤيّدون سكّان غزّة ويرون في ما تفعله إسرائيل حرباً إباديّةً، هلّلوا للفيلم باعتباره نصيراً للقضيّة الفلسطينيّة ومُديناً لوحشيّة الدولة الصهيونيّة، بل رأى فيه بعضهم حدثاً استثنائيّاً، إذ لم يسبق لعمل هوليوودي ضخم أن اتّخذ موقفاً واضحاً كهذا، مؤيّداً الفلسطينيين ومجاهراً بعدائه لإسرائيل بشكل صريح.
أمّا بعض الإسرائيليّين ومؤيّدي الدولة الصهيونيّة، فاستشاطوا غضباً ورأوا الفيلم تحريفاً فجّاً للواقع، وتحريضاً على إسرائيل، ومَسخاً مُتعمَّداً لصورتها. كما اعتبروه أيضاً تشويهاً لصورة سوبرمان، الشخصية التي ابتكرها فنّانان يهوديّان، ويُعتَقد أنّها مستوحاة من قصة النبي موسى. لذلك، وكما هو متوقَّع، اتّهم البعضُ الفيلمَ ومخرجه بمعاداة الساميّة.
لكن هل فعلاً «سوبرمان» استعارةٌ للحرب الإسرائيليّة؟ نفى المخرج جيمس غنّ ذلك، موضحاً أنّه كتب السيناريو قبل السابع من أكتوبر 2023، وأنّ العمل لا يتناول أحداثاً تتعلّق بالشرق الأوسط.
بالرغم من ذلك، فإنّ الكثير من العناصر البصريّة في الفيلم تستدعي، شاء المشاهد أم أبى، الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي إلى الذهن. يظهر ذلك بوضوح صارخ في أحد المشاهد، حيث نرى جيش «بورافيا» المتقدّم تقنيّاً على وشك اجتياح «جارهانبور»، الدولة الفقيرة التي لا تملك جيشاً: فقط مدنيّون معدمون، أغلبهم أطفال ومسنّون، يقفون خلف سياج فاصل، ويستعدّون لمواجهة الغزاة بالعصي والحجارة. من الواضح أنّ لا أمل لهم، وأنّ مصيرهم المحتوم هو الإبادة – لكن فجأة يرفع طفلٌ رايةً عالياً، طالباً النجدة، مُستدعياً معجزة: إنّها راية سوبرمان.
ما إن رأيتُ الطفل يرفع الراية حتّى اقشعرّ بدني– فهذا بالضبط ما تفعله الكليشيهات حين يستسلم المرء لها– وفكّرتُ (من دون أن أكون قد اطّلعت على الجدل الذي أثاره الفيلم): هؤلاء أهل غزّة على وشك أن يُذبحوا، فأيعقل أنّ عملاً هوليووديّاً ضخماً قد تجرّأ فعلاً على تصوير ذلك، ومن دون أي مواربة؟
لا، هذا لا يُعقَل. ففضلاً عن أنّ السيناريو كُتِب قبل السابع من أكتوبر 2023، من المستبعد جدّاً– إن لم يكن مستحيلاً – أن تُجازف استوديوهات هوليوود الكبرى باتّخاذ موقف جريء وصريح كهذا. الأرجح، إذاً، أنّ جميع عناصر التشابه بين حبكة الفيلم والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي ليست سوى محض صدفة، وأنّ «سوبرمان»، مثله مثل معظم أفلام الأبطال الخارقين – حيث الخير والشرّ واضحان وضوح الشمس، لا لبس فيهما ولا تداخل بينهما – يحمل قراءات كثيرة ومتناقضة.
لكن يبقى السؤال مُلحَّاً: لماذا يستحضر الفيلمُ في الذهن مآسي الفلسطينيين بهذه القوّة والوضوح، ما يدفع المشاهد إلى الظنّ– ولو للحظة– بأنّ الأمر مُتعمَّد؟ لعلّ الجواب هو الآتي: ليست حبكة «سوبرمان» هي التي تشبه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، بل إنّ هذا الصراع هو الذي يشبه الحبكة. بمعنى آخر، فإنّ تمييز المعتدي من الضحيّة في هذا الصراع– وخصوصاً بعد الحرب الإباديّة الراهنة– أمرٌ سهلٌ وبسيطٌ وبديهيٌّ لا يحتمل أيّ تردّد أو شكّ، ما يُذكِّر بالكاريكاتوريّة الصارخة التي تُرسَم بها ثنائيّة الخير والشرّ في أفلام الأبطال الخارقين، وفي هذا الفيلم تحديداً.
المُفارقة الكبرى أنّ المشاهدين الإسرائيليين أنفسهم لم يجدوا مناصاً من التعرّف على إسرائيل في «بورافيا» العدائيّة الظالمة، فيما رأوا صورة الفلسطينيين في سكّان «جارهانبور» المظلومين. صحيح أنّ ذلك أغاظهم بشدّة، لكن ألّا يشير شعورهم هذا إلى إدراك ضمنيّ لشناعة الجرائم التي ترتكبها دولتهم؟ وهل يكون سخطهم ردّ فعل دفاعيّ لتجنّب الشعور بالذنب؟