تعليق طوفان الأقصى
منار شربجي

عامان على الإبادة

حتميّة الطوفان واستحالة السلام

6 تشرين الأول 2025

عامان على 7 أكتوبر

عامان على طوفان الأقصى غداً الثلاثاء. صباح السبت في السابع من أكتوبر، عبرت فصائل المقاومة الجدار، وخرجت إلى الأراضي المحتلّة في لحظةٍ غيّرت وجه العالم كما نعرفه ووجوهنا. بعد عامين على الإبادة، وبعد أكثر من 67,000 شهيد في غزّة، هناك حقيقتان اليوم: حتميّة طوفان الأقصى واستحالة السلام مع إسرائيل.

لم تقبل إسرائيل باتفاقٍ لوقف إطلاق النار إلّا بعدما دمّرت غزّة وسيطرت على أكثر من 80% من مساحتها. ولم تقبل باتفاقٍ إلا بعدما طالت وحشيّتها 7 بلدانٍ في المنطقة. ولم تقبل بالاتفاق إلا تحت الضغط الأميركي الذي أمّن لها كافة مصالحها وأكثر. ولو كانت إسرائيل تريد حقاً تحقيق «السلام الدائم»، كما يروّج دونالد ترامب، لما ارتكبت النكبة، ولما نقضت جميع اتفاقيات السلام، ولما بَنَت المستوطنات على بيوت الفلسطينيين.

عامان على الإبادة، اعترفت عشرات الدول بدولة فلسطين، على هامش الجمعيّة العامة للأمم المتحدة، في محاولةٍ لوضع مسار حلّ الدولتين على السكّة. ورغم رمزيّة هذه الخطوة من جهة النبذ الدولي لإسرائيل، إلّا أنّها غير مجدية على الأرض، والأكثر من ذلك، فهي تروّج لفكرةٍ متوحّشة: تعايش الفلسطينيين مع قتلتهم. خلال التسعينات، بُنيت محاولات تحقيق السلام على وهم المصالحة الفلسطينية - الإسرائيلية السياسية والثقافية، ولو كان ذلك ممكناً قبل 7 أكتوبر، فإنَّ إسرائيل نسفت أيّ أساس للتعايش عبر ارتكاب الإبادة. لا يمكن لشعبٍ أن يتعايش بسلام مع جارٍ يحاول بشتّى الطرق محو أيّ أثرٍ لوجوده. 


الحياة مع القاتل

في كلمتها خلال الدورة الـ80 للجمعيّة العامة للأمم المتحدّة، قالت رئيسة سلوفينيا ناتاشا بيرك موزار، لم نوقف الهولوكوست. ولم نوقف الإبادة في رواندا. ولم نوقف الإبادة في سربرنيتسا. يجب أن نوقف الإبادة في غزّة. لم تكن غزّة الإبادة الأولى في تاريخنا القريب، والأسوأ أنّها لن تكون الأخيرة. والأسوأ من ذلك أيضاً أنَّ الكثير من الشعوب الناجية من الإبادة يُطلب منها، أو تضطر، للتعايش مع قتلتها، كما حدث في إقليم دارفور ومع الشعوب الأصليّة في كندا وأستراليا. إذا أردنا أن نتخيّل بجدية مستقبلاً للتعايش الفلسطيني- الإسرائيلي، سيكون ذلك أشبه بإندونيسيا ما بعد إبادة الشيوعيّين. 

في 1965، ارتكبت الميليشيات الرديفة للسلطة مجازر بحقّ الشيوعيّين، بدعمٍ أميركي طبعاً، وقتلت أكثر من مليون شخص. في فيلميه الوثائقيَّيْن عن المذابح «فعل القتل» (2012) و«نظرة الصمت» (2014)، يصوّر المخرج جوشوا أوبنهايمر استحالة المصالحة بين عائلات ضحايا المجازر ومنفّذيها، واستحالة التعافي والتعايش أيضاً.

في «فعل القتل»، يعيد منفّذو المجازر تمثيل الإعدامات الميدانيّة التي ارتكبوها بحقّ الشيوعيّين، في فيلمٍ خاصّ بهم يتبادلون فيه الأدوار. يتبجّحون بأساليب تعذيبهم لضحاياهم، ويعتبرون جرائمهم انتصاراً للتاريخ. لكنَّ هذه الصورة سرعان ما تتبدّد مع شخصيّة أنور كونغو. يصرف أنور أكثر من ساعتين من الوثائقي وهو يحتفي بأمجاده، لكنّه بعدما يلعب دور أحد ضحاياه في فيلمه، يتسلّل إلى جسده النحيل الرعب الذي شعروا به. في نهاية الفيلم، يبكي أنور للمرّة الأولى. يذهب إلى أحد مسارح جرائمه ويتقيّأ ما خزّن في أحشائه من ذنبٍ ودم. يخسر أنور صراعه مع تأنيب الضمير، وينتصر عليه الاشمئزاز من ماضيه. يشبه ذلك إلى حدٍّ كبير الاضطرابات وحالات الانتحار التي تفشّت بين عناصر جيش الاحتلال الإسرائيلي الذين لا يستطيعون التعايش مع المذابح التي ارتكبوها غزّة. عندما لا يتمكّن القتلة من التعايش مع أنفسهم، فكيف لهم أن يتعايشوا مع ضحاياهم؟ في الحقيقة، لن يستطيع المجتمع الإسرائيلي مستقبلاً أن يحقّق سلاماً مع نفسه حتّى، بعد عقودٍ من التطهير العرقي وتبريره. سيتعفّن هذا المجتمع يوماً من داخله كلّما تذوّق طعم الدم الذي لن يغادر فمه العملاق.

في تجربةٍ معاكسة تحاكي أيضاً الواقع الفلسطيني، ينكر شريك أنور بالقتل آدي ذو القادري أيّ شعور بالذنب. ورغم اعترافه بقساوة المجازر وفظاعة الإعدامات، إلّا أنّ ضميره يبدو مرتاحاً. يسأله أوبنهايمر عن رأيه بتصنيف أفعاله كجرائم حرب، فيردّ ذو القادري بأنَّ الفائزين هم الذين يعرّفون جرائم الحرب، وأنَّ القانون الدولي ليس إلّا تراهات، إذ لم يحاسب أحدٌ الأميركيين على إبادة الهنود. يقول ذو القادري أخيراً هكذا هو التاريخ، لا توجد مصالحة. 

في «نظرة الصمت»، وهو وثائقي أوبنهايمر الثاني عن إبادة الشيوعيّين في إندونيسيا، يفكّك المخرج استحالة تعايش ضحايا المجازر مع القتلة الذين لا يزالون يمسكون بزمام السلطة. هذه المرّة هناك من يشاهد إعادة تمثيل المجازر غيرنا. آدي روكون، طبيب عيون يعيش فاجعة مقتل أخيه الأكبر راملي أثناء المجازر. لم يعرف آدي أخاه الذي قُتل قبل عامين من ولادته، لكنّه يتتبع بحرقة أثره بين قتلته. يتفرّج آدي على المقابلات التي صوّرها أوبنهايمر مع مرتكبي المجازر، ويذهب ليتحدّث إليهم. يحاول آدي أن يعثر على أيّ أثرٍ للندم في عيون قتلة أخيه، لكنّه لا يجد ذلك. ينكر معظمهم تورّطهم في إعدام راملي، ولا يحصل آدي على اعتذارٍ إلّا من ابنة أحد القتلة وزوجة قاتلٍ آخر. في نهاية الفيلم، يقول صديق راملي الذي نجا من المجازر لوالدة آدي وراملي «دعي الأمر يذهب، اتركيه لله»، بعدما لم يعد لديه أي أملٍ بالعدالة غير العدالة الإلهية. يقضي آدي الفيلم وهو يبحث عن طريقٍ للتعايش مع قتلة أخيه، ولا يجده. لا يدرك إلّا أنَّ التعافي مستحيل، وأنَّ التعايش مع جيرانه مرتكبي الإبادة غير ممكن. 


بعد الإبادة

تعيد الإبادة نفسها، هذه المرّة في غزّة، دون نجاة أي خيط للمصالحة. لا تكترث إسرائيل ولا غيرها فعلاً للقانون الدولي، ولن تُحاسَب أبداً على جرائمها بشكلٍ عادل. على العكس، تُحاسب المحاكم الدولية اليوم على ملاحقتها لإسرائيل. لم تعد هناك أصلاً أي عدالة، عندما يقبع 9,000 مفقود تحت الأنقاض.

لا بدّ أنَّ كل من خطّط وشارك بمعارك طوفان الأقصى أدرك أنّه لم يعد هناك أي أملٍ بالسلام مع إسرائيل. وبعد الإبادة، لم يعد هناك سوى الحقد والثأر الطويلين. لم يعد حتّى حلّ الدولتين مبرّراً، خاصّة مع تطبيع فكرة الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح. وفي حال دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، فإنَّ إسرائيل ستعود لتنقضه بشتّى الطرق والمبرّرات، كما تفعل اليوم في لبنان.

بعد عامين على الإبادة في غزّة، كان لا بدّ للسابع من أكتوبر أن يحصل، ليس من باب تمجيد لحظةٍ انتهت، بل اعترافاً بوحشيّة حصارٍ لم يبدأ ذلك اليوم، وامتناناً لطوفانٍ كان آخر ما آمن باستحالة السلام مع من تلّطخ وجودهم بكثيرٍ من الدمّ.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
معركة بابنوسة
14-11-2025
تقرير
معركة بابنوسة
قلب السودان ونفطه
حدث اليوم - الجمعة 14 تشرين الثاني 2025
14-11-2025
أخبار
حدث اليوم - الجمعة 14 تشرين الثاني 2025
عمر أميرالاي في دمشق 
14-11-2025
تقرير
عمر أميرالاي في دمشق 
حزن، زمن، صمت
4,000 متر2 من الأراضي اللبنانية
تحقيقات مغارة جعيتا انتهت: صفر محاسبة
السلطات المصرية منعت علاء عبدالفتّاح من السفر إلى بريطانيا