لم تكن تلك المرة الأولى التي يسألني فيها إسرائيلي– يُفترض أن يكون واعيًا ومطلعًا ومنفتحًا بما يكفي، خاصة منذ بداية حرب الإبادة: لماذا صَمَتُّم، أنتم المثقّفون الفلسطينيون في الداخل، عن مذابح بشار الأسد ضد شعبه وضد أبناء شعبكم في مخيمات اللاجئين، وتتّهمون إسرائيل وحدها بالإبادة في غزة؟
لم أرغب في إهانته أو الردّ عليه بأنه ببساطة لم يسمع عن موقفنا وعن تأثير الثورة السورية على الفلسطينيين داخل إسرائيل. السبب بسيط: إنه جاهل. يستمع فقط لما يقال في الإعلام الإسرائيلي وما يُنشر في «يديعوت أحرونوت» و«يسرائيل هيوم». لكنني شعرت بأنه سلب مني أكثر من عشر سنوات من حياتي. عشر سنوات كانت فيها الثورة السورية، ومذابح النظام، وبقية الكوارث التي تلتها، جزءًا من حياتي اليومية، ومن همومي العامة واهتماماتي الأدبية.
إنّ تأثير الصراع الدموي في سوريا على الفلسطينيين هو في كل مكان، ووصل بشكل مباشر إلى حدّ المواجهات العنيفة بين المتظاهرين ضد جرائم نظام الأسد وبين المدافعين عنه بحجة أنه يدافع عن الكرامة القومية العربية في مواجهة إسرائيل وأميركا. وصل الأمر أحيانًا إلى خلافات داخل الأسرة الواحدة، بلغت حدّ المقاطعة والانقسامات الحادّة في الساحة الثقافية العربية، خاصة وأنّ اليسار العربي التقليدي اتخذ موقفًا غريبًا ودعم نظام الأسد. في تلك الفترة، وخاصّةً بعد الهجوم الكيميائي على غوطة دمشق، ومنذ معركة حلب والتهجير من المدينة، وصلت الأمور إلى قطيعة بين أصدقاء قدامى وانقسامات اجتماعية غير مسبوقة.
الحقيقة هي أنّ المثقفين الفلسطينيين لم يصمتوا ولم يتجاهلوا جرائم الأسد. والحقيقة الثانية هي أن من ادّعى أمامي أنني من الصامتين عن جرائم الأسد (بينما هو لم ينم الليل بسبب تلك الفظائع) هو جاهل ومُنغلق، لأنه ببساطة، حتى لو ادعى أنه ينتقد الإعلام العبري لبلاده باستمرار، فقد تبنى في النهاية تغطية الإعلام الإسرائيلي للحرب في سوريا، والتي اختُزلت في إبراز «التمايز» الأخلاقي لإسرائيل في المنطقة والاحتجاج على انتقاد العالم لها بشأن المذابح الأولى في غزة قبل 7 أكتوبر، بينما يصمت العالم (وهذا لم يكن صحيحًا) أمام بشار الأسد الذي يذبح شعبه .
إذا تعلّمنا شيئًا كعرب فلسطينيين في الداخل خلال سنوات الربيع العربي، وخاصة أثناء الحرب في سوريا، فهو عدم الثقة المطلقة بالإعلام الرسمي لأي دولة كانت، بما في ذلك الإعلام الإسرائيلي (خلافًا لما علّمونا إياه عندما كنّا أطفالًا)، ومحاولة المناورة بين مصادر المعلومات مع فهم الدوافع والمصالح ومصادر التمويل لكل وسيلة إعلامية، وبالتالي خلق فضاء ثالث من المعلومات والسرديات والحقائق. أمّا المستهلك الإسرائيلي، فوقع ضحية لعملية هندسة وعي غير مسبوقة في العقود الأخيرة، وذلك في إطار وسائل إعلام تبلورت بشكل مذهل حول الإجماع القومي بعد 7 أكتوبر، باستثناء تفاصيل صغيرة تتعلق باليهود في ما بينهم فقط وتخصّ النظام القضائي والحكم والحريات الشخصية. نجا المواطن العربي في إسرائيل من فخّ هندسة الوعي هذا. وهكذا لم يفهم زملاؤه اليهود في العمل وفي مقاعد الدراسة (أو لم يرغبوا في الفهم) عن أيّ إبادة جماعية يتحدّث .
هندسة وعي غير مسبوقة
حرب الإبادة في غزة، كأي صراع عنيف، لا تحدث فقط في ساحة المعركة، ولكن أيضًا في فضاء الوعي العام . الطريقة التي يتم بها تمثيلها في الإعلام تصمّم بعمق إدراك الجمهور للواقع وتؤثر على مواقفه وتزيد من الاستقطاب أو، على العكس، تخفف منه. في إسرائيل، يتعرّض الجمهور اليهودي بشكل أساسي للقنوات 11 و12 و13 و14، بينما يستهلك الجمهور العربي الفلسطيني في إسرائيل، وكذلك الجمهور العربي الأوسع، الإعلام العربي العابر للحدود (البان-عربي) أيضًا .
القنوات الإسرائيلية– «كان 11» و«كيشيت 12» و«ريشيت 13» و«الآن 14»– تركز جميعها، كل منها بطريقته وبكثافة متفاوتة، على السردية الأمنية الإسرائيلية. يتمّ التركيز على تبرير العمليات العسكرية وعلى الدفاع عن النفس في مواجهة تهديد «الإرهاب»، وعلى معاناة سكان غلاف غزة ومتضرّري الصواريخ، وعلى بطولة جنود الجيش الإسرائيلي. تغطية القتلى الفلسطينيين والمذابح اليومية، إن وجدت أصلاً، تُعرَض عادةً كنتيجة مشروعة للنشاط العسكري ضد المنظمات الإرهابية أو مصحوبة بادعاء استخدام حماس للسكان المدنيين كدروع بشرية. تميل التحليلات والتعليقات إلى تعزيز الإجماع القومي حول أهداف الحرب، حتى لو كان هناك بعض النقد لسلوك الحكومة أو الجيش. قناة 14، بخطّها المتشدد والأكثر يمينية، تعزز هذه السردية بشكل واضح مع استخدام متكرر لمصطلحات «الانتقام» و«القضاء» و«النصر الساحق»، وبتركيز أقل على الجوانب الإنسانية المتعلقة بوضع الفلسطينيين. أمّا القنوات التجارية 12 و13، إلى جانب «كان 11»، فتحاول أحيانًا تنويع الخطاب أكثر، لكنها تظل ضمن حدود السردية الإسرائيلية المركزية.
هندسة الوعي المستترة: الإعلام الإسرائيلي السائد وتصميم الوعي العام
يحمل مصطلح «هندسة الوعي» أحيانًا دلالات سلبية للبروباغندا الفجة والديكتاتورية. ولكن، في العالم الديمقراطي الحديث، وخاصة في فترات الحرب والصراع، تتم هندسة الوعي بشكل أكثر تعقيدًا ودقة، وغالبًا بشكل غير واعٍ، حتى في القنوات الإعلامية التي تعتبر «سائدة» و«موضوعية». في إسرائيل، يلعب هذا الدور من خلال تقنيات عدّة.
الإجماع الأمني كنقطة انطلاق: نقطة انطلاق معظم الصحافيين والمنظومات في القنوات المركزية في إسرائيل هي الإجماع الأمني الواسع . هذا الإجماع يرى أن إسرائيل في صراع بقاء ضد تهديدات وجودية، وأن عمليات الجيش تهدف إلى حماية مواطنيها. هذا التصور، العميق والمتجذّر في المجتمع الإسرائيلي، يُستخدَم كعدسة يتم من خلالها تصفية وتحليل المعلومات. عندما يكون هذا الإجماع هو البديهية الأساسية، فإنّ أيّ انحراف عنه يُعتبر شذوذًا، ونتيجة لذلك، يتأثر أسلوب التغطية بذلك.
التأطير (Framing) واختيار المصطلحات: تمّ تأطير الحرب في غزة باستمرار على أنها «عملية» و«دفاع» و«حرب ضد الإرهاب» و«حرب لا خيار فيها». هذه المصطلحات توجه الجمهور لفهم العمليات العسكرية على أنها ضرورية ومبرّرة. في المقابل، فإنّ مصطلحات مثل «احتلال» أو «حصار» أو «هجوم»، ناهيك عن «إبادة» أو «جينوسايد»، تكاد لا تُسمع في السياق الإسرائيلي، وغالبًا ما تُنسب فقط للتقارير «المعادية» من الجانب الفلسطيني أو الدولي. اختيار الكلمات ليس بريئًا. عندما نتحدث عن «مخرِّبين» مقابل «مقاتلين من أجل الحرية» أو عن «بنى تحتية إرهابية» مقابل «مبانٍ سكنية» أو عن «تصفية موجهة» مقابل «قتل مدنيين»، فإن الصورة التي تتشكل في ذهن المشاهد تتغير بشكل دراماتيكي .
التركيز والإغفال: «ما يُرى وما لا يُرى»، يميل الإعلام السائد إلى التركيز بشكل منهجي على جوانب معينة من الحرب وإغفال، أو التقليل بشكل كبير، من جوانب أخرى .
التركيز على الضحية الإسرائيلية: وجوه وقصص الضحايا الإسرائيليين– سكان غلاف غزة، جنود الجيش الإسرائيلي، عائلات المخطوفين– تحصل على حجم هائل في البث. العمق العاطفي والتماهي مع معاناتهم ضروريان لفهم الحرب، ولكن عندما يتم عرضهم بشكل شبه حصري، فإنهم يخلقون شعوراً بالضحية أحادية الجانب .
تصوير «العدوّ» كأحاديّ البُعد: يتمّ تصوير حماس بشكل شبه حصري كمنظمة إرهابية قاسية وقاتلة، دون أي محاولة لفهم الدوافع الأوسع، أو السياق التاريخي، إضافة إلى تضخيم حجم الدعم الذي تحظى به بين شرائح من السكان الفلسطينيين (حتى لو كان ذلك نابعًا من اليأس). هذا نوع من «نزع الأنسنة» عن الشعب الفلسطيني في غزة، مما يسهل تبرير عمليات القتل ضده، بحجّة أنّ لا أبرياء في غزة.
تقليص تمثيل معاناة السكان المدنيّين في غزّة: بينما لا يوجد تجاهل تامّ للقتلى الفلسطينيين، فإن التقارير حول معاناتهم وعدد القتلى المدنيين وتدمير البنى التحتية المدنية والأزمة الإنسانية في غزة تُقدَّم غالبًا بشكل جافّ ورقمي، وغالبًا ما تكون مصحوبة بتبريرات مثل «استخدام حماس غير المسؤول للسكان» أو «مسؤولية حماس عن الوضع». الصور القاسية من غزة تكاد لا تُبَثّ، على عكس القنوات العربية تمامًا (على تناقضاتها). غياب التعرّض للفظائع في الجانب الآخر يقلل من التعاطف ويعزز الشعور بالصواب الذاتي. هناك أيضًا ميل عامّ لبثّ صور تظهر حياة «طبيعية» في غزة مثل المقاهي المفتوحة والعاملة (قبل أن يتم تدمير آخرها وهو الباقة)، أو صور بيع الشاورما في الشوارع، مما يزيل عن المشاهد الإسرائيلي مشاعر الذنب (إن وجدت أصلاً)، أو يرفع أي مسؤولية أخلاقية جماعية بجملة على غرار «هم جلبوا هذا على أنفسهم».
اختيار الضيوف والمعلقين: يميل الإعلام الإسرائيلي إلى تقديم نطاق ضيق نسبيًا من الضيوف والمعلقين في المجالين الأمني والسياسي. الذين يمثلون الإجماع الأمني، كما يحصر الحوار بضباط الجيش الكبار في الاحتياط والأكاديميين ذوي التوجه المماثل. الأصوات الشاذة، أو نشطاء اليسار الراديكالي، أو نشطاء حقوق الإنسان المنتقدون للسياسة الإسرائيلية، أو المثقفون الفلسطينيون، نادرًا ما يتم استضافتهم (باستثناء يوسف حداد الذي يرابط في الاستوديوهات)، إن تم عرضهم أصلاً، وغالبًا بطريقة موجهة للنقد أو نزع الشرعية عنهم ما يخلق انطباعًا بوجود إجماع و«حقيقة واحدة» بين الخبراء.
التأثير على وعي الجمهور: نتيجة «هندسة الوعي» الدقيقة والمعقدة هذه، هي جمهور تستند معرفته بالحرب إلى سردية أحادية الجانب. قد يؤمن الجمهور بصدق أن عمليات إسرائيل مبررة تمامًا، وأنه لا توجد طريقة أخرى للتعامل مع التهديد، وأن المعاناة في الجانب الآخر هي نتيجة مباشرة لأعمال «الإرهاب» التي تقوم بها حماس. يعزز هذا التماسك الاجتماعي حول الحرب، ولكنه في الوقت نفسه يصعّب أي نقاش نقدي حقيقي، أو التشكيك في السياسات، أو الاعتراف بمعاناة الآخر. كما يصعّب على الجمهور فهم الزاوية الدولية والنقدية تجاه إسرائيل، ويؤدي غالبًا إلى شعور بـ«كل العالم ضدنا»- أو أن الجميع «معادون للسامية».
لا يتعلق الأمر بالضرورة بمؤامرة واعية من قبل الصحافيين لتضليل الجمهور. في كثير من الأحيان، يكون ذلك نتيجة للتماهي العميق مع السردية القومية، والضغوط المهنية والاجتماعية، والانغلاق التامّ. ومع ذلك، فإن النتيجة الفعلية هي تصميم الوعي العامّ بطريقة معيّنة، ترسّخ المواقف وتعمّق الهوّة بين جماهير مختلفة، وتؤدّي إلى الصمت والإسكات من قبل من يحملون البنادق والـM-16 في الشوارع وعلى شواطئ البحر.
أدّت هندسة الوعي إلى خلق وعي زائف لدى شرائح من الجمهور اليهودي الإسرائيلي، حيث يعتقد الكثيرون في الجمهور الإسرائيلي أنّ معظم القتلى الفلسطينيين في غزّة هم من نشطاء حماس أو مرتبطون بهم، على الرغم من التقديرات الأخرى والبيانات المتناقضة. هذه رؤية تخدم تبرير عمليات الجيش وتقلل من الشعور بالمسؤولية الأخلاقية .