لعلّ أحدَ العوامل الرئيسية التي أوقفت حرب الإبادة في غزّة رغبةُ ترامب في الفوز بجائزة نوبل للسلام. بالطبع هناك عوامل أخرى: ضغط الرأي العام الغربي، واستياء كثر من القادة الأوروبيين من استمرار الحرب، وغضب جزء من جمهور ترامب من دعمه المطلق لإسرائيل. غير أنّه لا يمكن إنكار دور هوس الرئيس الأميركي بتلك الجائزة، هوس ربّما مردّه أنّ «عدوّه» باراك أوباما فاز بها سابقاً.
كثر من الكتاب والمحلّلين ذكروا هذا العامل، إلّا أنّهم مرّوا عليه مرور الكرام كأنّه أمر طبيعي أو عادي. كأنّ لا شيء غريبٌ فيه يستحقّ التوقّف والتأمّل. لنُعِد إذاً شرح ما حصل بصيغة أخرى:
ما أوقف إبادةً مستمرّة منذ سنتَين، راح ضحيّتها ما لا يقلّ عن 67 ألف قتيل (أي حوالي 3 بالمئة من إجمالي سكّان غزّة)، وتسبّبت بتهجير حوالي 90 بالمئة من سكّان القطاع، وتدمير حوالي 90 بالمئة من الوحدات السكنية أو تضرّرها، ما أوقف هذه الإبادة التي استُخدم فيها سلاح التجويع، لم يقتصر على العوامل الجيوسياسيّة والاعتبارات الأخلاقيّة والقانونيّة، بل شمل أيضاً نزوةً طفوليّة لرجل نرجسيّ.
لولا هذه النزوة، ولولا اقتراب موعد الإعلان عن الجائزة، لكان يمكن أن تستمرّ الإبادة شهوراً إضافيّة، أو ربّما أكثر.
بكلمات أخرى:
لولا هذه النزوة، ولولا اقتراب موعد الإعلان عن الجائزة، لكان يمكن لألوف إضافية من الغزّيين أن يموتوا قصفاً أو جوعاً أو مرضاً.
أي أنّ الناس، في عالمنا، تحيا وتموت لأتفه الأسباب. كأنّنا نعيش في نكتة عبثيّة سوداء. هكذا انتهت المجازر التي شاهدناها يوميّاً: بنكتة عبثيّة. ولعلّ هذا هو التتويج «الأنسب» لمسار مستمرّ منذ سنتَين: تتفيه الإبادة.
عندما تحدّثت حنة آرنت عن «تفاهة الشرّ»، لم تكن تقصد إطلاقاً أنّ المحرقة اليهوديّة كانت عاديّة أو تافهة. على العكس، كانت ترى أنّها فعلٌ مهولٌ وبربريٌّ، إلّا أنّ بعضاً من مرتكبيها، مثل أدولف أيخمان، كانوا أشخاصاً عاديين وتافهين، يفتقرون إلى التفكير النقدي والضمير الأخلاقي، ويمتثلون للأوامر البيروقراطية على نحو شبه أعمى، ومن دون أن تحرّكهم لا الكراهية ولا نوازع وحشيّة أو شريرة. الفعل نفسه كان مروِّعاً، وقد سبّب اكتشافُه صدمةً للوعي الغربي. بيد أنّ بعض الفاعلين كانوا تافهين.
لكن خلال حرب الإبادة الإسرائيلية، باتت التفاهة سمةً للفعل نفسه. فعلى خلاف المحرقة اليهودية التي ارتكبها النازيون في معسكرات نائية وغرف غاز سريّة، شكّلت الإبادة في غزّة نوعاً من العرض أو الفرجة، بحيث أصبح بإمكان أي شخص، أينما كان، مشاهدة صورها شبه المباشرة. يكفي لذلك الدخول إلى إحدى منصات التواصل الاجتماعي.
لم نعد نحتاج إلى كاتب مثل بريمو ليفي ليشهد على «ما استطاع الإنسان، في أوشفيتز، أن يفعله بإنسان آخر». فأوشفيتز صار اليوم معسكر إبادة مفتوحاً للجمهور، يمكن لكلّ من يرغب أن يتفرّج على ما يجري داخله. بالرغم من هذه العلانيّة، استمرّت المجازر لسنتَين، وكان من الممكن، نظريّاً، أنّ تستمرّ لسنوات إضافية.
ربّما للمرّة الأولى منذ مطلع القرن العشرين، صار يمكن ارتكاب إبادةٍ في العلن. وبهذا المعنى، باتت تافهة. أي أنّها أصبحت مِن الأمور العادية التي قد تحصل في عالمنا. مِن الأمور المحتمل وقوعها، والتي يقبل بها البشر. لذلك لم تعد المسألة محاولةَ فهم ما الذي قد يدفع أشخاصاً عاديين، مثل أدولف أيخمان، إلى ارتكاب أشنع الأفعال وأفظعها، بل السعي إلى تعقّل واقع أصبحت فيه البشريّة برمّتها أشبه بأيخمان نفسه. أي أنّ التفاهة لم تعد مجرّد انعدام التفكير لدى بعض الأفراد وامتثالهم الأعمى للأوامر، بل أضحت منظومةً أخلاقيّة جديدة تحكم العالم– ولعلّ أبلغ تجسيد لهذه المنظومة هو الدافع الذي حرّك ترامب لإيقاف الإبادة.