التوحّش العاري
منذ بدء حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزة، تحوّل فائض العنف المسلّط على المدنيّين إلى العامل الوحيد الذي تتطوّر بموجبه الخطط السياسية وتتحدّد الأهداف الإسرائيلية، وذلك بدعم أميركي تحوّل إلى شراكة كاملة منذ عودة دونالد ترامب الى البيت الأبيض.
بكلام آخر، اعتمدت إسرائيل منذ عام ونصف التوحّش العاري أو المدعّم بالتكنولوجيا و«الذكاء الاصطناعي» كسياسة رسمية للتعامل مع «المسألة الفلسطينية» في غزة.
هكذا تدرّج عنفها من التدمير الممنهج للمساحات الحضرية وبناها التحتية المائية والكهربائية، أو ما يُسمّى بالإنكليزية «أوربيسايد»، إلى التخريب المنظّم تحطيماً ونهباً وحرقاً لما ينجو من القصف من منازل وأملاك خاصة، أو ما يسمّى «دوميسايد»، إلى الاستهداف المباشر والقضاء على الجامعات والثانويات، «إيدوسايد»، وعلى المواقع الأثرية والتاريخية وعلى المتاحف والمكتبات العامة، «كولتوريسايد»، وصولاً إلى التلويث المتعمّد للمياه وآبارها والحرق المتلِف للأراضي والمحاصيل الزراعية وللمساحات الخضراء عبر استخدام أسلحة تحتوي على مواد حارقة مثل الفوسفور، أو ما يسمّى «إيكوسايد».
ومؤخراً استخدمت منظمات حقوقية مصطلحاً جديداً لتوصيف عمليات قتل أو اغتيال العاملين والعاملات في القطاع الطبي وفي القطاع التعليمي وهو «فيوتشوريسايد»، أي «إبادة المستقبل»، إذ لا أفق ولا حياة ممكنة إذا تمّ القضاء على المكوّن البشري القادر على توفير الطبابة والتعليم للناجين من المقتلة، وللجيل الجديد الذي لن يكون بمقدوره بعدَ تدمير المقوّمات المادية والمرافق الحيوية أن يدرس وأن يتخرّج بشهادات تُعين مجتمعه على إكمال الحياة فوق أرضه، ولو كانت أنقاضاً أو خيماً.
كلّ ذلك، معطوفاً على التصريحات وعلى الإعلان المتكرّر من المسؤولين الاسرائيليّين عن النيّة بارتكابه، هو ما يبرّر الحديث قانونياً عن الإبادة الجماعية، «جينوسايد»، وهو ما اعتمدته عدّة لجان أممية ومنظمات مثل «الفدرالية الدولية من أجل حقوق الإنسان» و«منظمة العفو الدولية» و«هيومن رايتس ووتش» ومئات الأكاديميين المختصّين في دراسات العنف والإبادة واللغة الإبادية. وهو بالطبع ما حرّك دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي.
وإذا كانت سياسة الإسرائيليين في غزّة قائمة على ما ذكرنا وتوّاقة للتعامل مع نتائجه الميدانية، فإن السياسة الأميركية تجاه القطاع الفلسطيني المنكوب لم تتخطَّ خلال 14 شهراً من حكم بايدن- هاريس- بلينكن حدود تمويل الإبادة هذه، مع اشتراط وضع سقف زمني لها، للتفاوض من بعده على شكل إدارة نتائجها. ثم صارت منذ شهرين تقريباً من حكم ترامب، شراكة في التنفيذ ودعوة لـ«تطهير عرقي» يستهدف لاحقاً من ينجو من القتل.
سابقة في التاريخ الحديث
ما جرى ويجري هو إذاً، لمجمل الأسباب المذكورة، أمر غير مسبوق في التاريخ الحديث، فلم يسبق أن شهد «نزاع» منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مقدار عنف يماثله، إن لجهة كثافة النيران والقتل في رقعة جغرافية على هذا الصغر، أو لجهة توظيف تكنولوجيا تدميرية على هذا القدر من «التقدّم العلمي». وهو يكرّس بالتالي مفهوماً جديداً في سياق دراسة العنف والسياسة والعلاقات الدولية، يتحالف فيه طرفان، أحدهما هو الأقوى في العالم والآخر هو الأقوى في المنطقة، بهدف إبادة جماعة (أو قسم من الجماعة) في مساحة صغيرة ومحاصرة ومعزولة عن محيطها منذ 16 عاماً سابقة للإبادة (المستمرة بدورها منذ عام ونصف)، ثم تهجير من يبقى على قيد الحياة للاستيلاء على أراضيه.
وهو يكرّس أيضاً في الثقافة السياسية المحلية والكونية، تطبيعاً متدرّجاً وتعايشاً مع العنف المعمّم، ومع صوَره ومشهديّته، ومع إمكانية استمراره لفترة طويلة رغم التغطية الإعلامية لوقائعه من دون أيّ تدخّل يوقفه أو يحدّ منه أو حتى من دون أي عقوبات تحاصر ولو نسبياً مرتكبيه (كما كان الحال خلال الحرب الأسدية في سوريا مثلاً أو كما هي العقوبات اليوم على روسيا بسبب حربها على أوكرانيا). بل على العكس، ثمة في الحالة الاسرائيلية تمويل للجريمة وتجريم أحياناً للمعترضين عليها.
وما جرى ويجري يكرّس كذلك معايير جديدة للتعامل مع الكذب في الدعاية السياسية بوصفه وجهة نظر، ومع القانون الدولي والمواثيق الحقوقية والمؤسسات المنبثقة عنها بوصفها موضع نزاع وتشكيك بالمشروعية، ومع السياسة إذا كان القتل بلا رادع عمادها بوصفها تحايلاً أو تعميةً بلاغيةً على المقتلة.
وكل هذا يفرض أسئلة حول مؤدّيات استفحال الشعور بالعجز أمام استمرار الإبادة، لدى الأفراد أو بعض الجماعات، ولدى العديد من الدول والهيئات الأممية والمؤسسات الدولية، وما يعنيه الأمر من احتمالات عنف مستقبلي تتأسّس ذرائعه على سابقةِ ما يجري منذ عام ونصف أو ارتباطاً به وبحصانة المسؤولين عنه.
إعادة تعريف تكسر مع الماضي
وإذا كانت الأجوبة عن التحدّيات والأسئلة المذكورة متعذّرة الآن أو متطلّبة للمزيد من التفكير الجماعي والحوار المعمّق دولياً بسبب خطورة الموضوع واستثنائيته وعالميّته، فإن اللافت حتى اللحظة هو خفّة التعامل النظري معها عربياً، من قبل كتّابٍ ممانعين أو خصوم لهم. يبدو الأولون مهلّلين للحرب الدائرة بوصفها «ستغذّي شعلة المقاومة»، محوّلين المآسي الى انتصارات وإلى علّة لنشاطهم، في حين يجترّ الثانون نفس المقولات حول نقد الذات ومسؤوليات تخلّف البنى الاجتماعية والسياسية «عندنا» وهشاشة «ثقافتنا» الوطنية، وكأنها سبب صعود نتنياهو وبن غفير وسموتريتش وسائر الإباديين في إسرائيل، أو دونالد ترامب وإيلون ماسك ومن معهما من معتوهين وشعبويين في الولايات المتحدة الأميركية. الأنكى أن الطرفين، الممانع والمعادي له، يستخدمان «نون الجماعة» في إطلاقات توتاليتارية يسقطونها علينا، ادّعاءً لحصرية تمثيلٍ أو تحليلٍ «لشؤوننا» كما يفترضونها، في عنوان مقالٍ هنا أو في افتتاحية صحيفةٍ هناك...
الملحّ اليوم، مقابل الإبادة ومقابل الهوان في التعليق عليها، هو إعادة تعريف علاقات البعض منّا بكلّ ما يجري من حولنا وبأطرافه المختلفة الداخليّة والخارجيّة وبالمعلّقين عليها. والأكثر إلحاحاً، هو أن يتعاون جميع من يُعلون «صوت وقف المعركة»، أي وقف النار ووقف الإبادة التي تشنّها إسرائيل وأميركا على الفلسطينيين وعلى معنى السياسة والقانون والمواثيق الدولية ومؤسّساتها المشيَّدة بعد حربين عالميّتين وحروب كولونيالية، ظنّ المؤرّخون والحقوقيون أنها لن تتكرّر، فإذا بها عادت مؤخراً بأبشع أشكالها ومسوّغاتها.