تعليق فلسطين
صهيب أيّوب

سلاح المجاعة: التحكُّم بزمن الموت البطيء 

24 تموز 2025

تنتزع إسرائيل الزمن من حياة الغزيين. تقتلعه وتعلّقه. تحوّل الدولة المستعمرة، من خلال سياسة التجويع الضارية، ما تبقى من القطاع إلى حيّز مُجمّد في الزمن. الهدف: إعادة إنتاج المعاناة ومضاعفة ثقلها على من لم تقتلهم بعد الصواريخ والقذائف أو تختفي أجسادهم تحت ركام الأنقاض. 


نقطة الجوع الحارقة

الجوع يجمّد الزمن. يخلق حالة انتظار قاسية، ويشعر الجائع بأنه عالق في لحظة لا تنتهي. ممطوطة. طويلة الأمد. تضعف روحه المعنوية ويصاب بالعجز الكلي واليأس المتوحش. يصير الكائن الغزي معزولاً عن تدفّق الحياة، بل يصير مسكوناً في تدفق الموت، ببطء. يتخبّط في مستنقعه ودوائره. ليس في الدم فقط وتعداد ضحاياه والردم المسيطر على حياته ومسالكها، بل داخل مستنقع الزمن الجامد. في نقطة الجوع. الشرسة، الموجعة، المكلومة، والمهينة والحارقة. 


الموت المُقنَّن

يوظَّف التجويع كوسيلة عقاب جماعي تعيد الدولة الاستعمارية من خلالها تشكيل ما تبقى من حياة في القطاع المحاصر والمدمّر على وتيرة الموت المقنَّن. يصير الموت سلطة بيد القاتل. يتحوّل إلى أداة مركزية للتحكم وخطاب تهديد وإخضاع. الجوع سلاح هذه السلطة، وهو شكل من أشكال الموت المُدار بآلة عسكرية ولوجستيات منظمة، حيث لا يُقتل الفرد الناجي من الإبادة بل يُترَك ليذوي ويتحطّم وتجفّ أمعاؤه وأعضاؤه وتذوب جلدته ويصير هيكلاً عظمياً قبل أن يتحول إلى جثة- شبح.


الفناء كقاعدة

تريد سلطة الاحتلال أن تقتل بلا كلفة الصواريخ المباشرة، من خلال التجويع للقضاء على من بقي يتنفس وسط الدشم وفي الخيم. أن تخترع جثثاً شبحية، لا تجد مكاناً لها لتُدفَن ولا كفناً كي تُدثَّر به. وبهذا تعمل دولة الاحتلال من خلال التجويع على وضع نظام لحياة الفلسطيني على قاعدة الفناء. وهي بذلك لا تعود قوة احتلالية وحسب، بل تمسي سلطة وجودية تحدّد بيدها مَن يولد ومَن سيعيش ومتى سيموت، وكيف سيندثر، وبأي ظرف سيلفظ أنفاسه الأخيرة. 


الجسد الغزّيّ وشروط عيشه

تتحول الحياة تحت أدوات التجويع إلى قائمة انتظار: حفنة من أرزّ أو طحين أو فتات خبز ثم موت بأجساد واهنة. فالسلطة الإسرائيلية التي تسيطر على الهواء والماء والبحر والمعابر، لا تتحكم بالجسد الغزّي فقط، بل في شروط وجوده وأحلامه وأمله وحتى ما بعد مقتلته. فالزمن لم يعد زمناً باستثناء الألم نفسه الذي يسحب الوقت وساعاته ويتحكم بها. والمكان لا يعود مكاناً، باستثناء البقعة التي تحدّدها القذيفة والصاروخ. 


مقبرة جماعيّة

بسياسة التجويع تحاول إسرائيل صناعة العزلة. تفصل الغزّيّين عن مصادر وجودهم ومقدرتهم على الاستمرار، وتُضعف بالجوع الروابط الاجتماعية، ممّا يخلق نظاماً من الفصل يجعل سكان غزة يعيشون في حالة من الوجود المعلَّق بين عالمين، وواقعين، وبين حدثين، قبل الجوع وبعده وما بينهما من انتظار ووجع وعذاب. فإماتة السكان بالتجويع متعمَّد. الموت ليس قتلاً بالجسد وحسب، إنه قتل في الحضور وفي الحلم وفي العلاقة مع المكان نفسه، وفي إنتاج فضاء لا يصلح للعيش، بل يتحوّل من سجن ضيّق مُدمَّر إلى مقبرة جماعية، لا يخرج منها إلا عويل الجوعى وبكاؤهم المكلوم. 


أدوات المجاعة

هذه المجاعة المخطط لها تُنفَّذ على مراحل بأدوات الحصار والتقييد اللوجستي والقتل الميداني في نقاط توزيع الغذاء. ويتحوّل الطعام إلى سلاح بيد الإسرائيليين، حيث يتم إغلاق المعابر ومنع دخول المواد الأساسية من الوقود والغذاء والماء، وتهديد حياة مليوني شخص تحت شبح المجاعة، واستهداف البنية التحتية وتدمير الأراضي الزراعية والمخازن ومصانع الأغذية، وعرقلة المساعدات الإنسانية ومنعها وتأخير قوافل الغذاء والقصف المتكرر للمناطق التي تصلها هذه المساعدات، عدا عن إشراف شركات أمنية خاصة إسرائيلية على توزيع الغذاء، مع إطلاق نار على المئات المنتظرين في طوابير الموت. كل ذلك لجعل الزمن جامداً، من روحه، ولسلبه من حياة الغزّيين. 


هندسة سياسيّة

السلطة الإسرائيلية لا تسيطر على الأجساد وحسب، بل على الزمن الذي تعيش فيه وعلى المكان الذي يُسمح لها بالوجود فيه. وبهذا تحوّل الجوع إلى هندسة سياسية، مما يسهّل الاستحواذ على الأرض ويُسهم في تغيير التركيبة السكانية، وهذا جزء من السياسات الاستيطانية التي تقوم عليها أسس دولة الاحتلال، والهدف تقسيم المكان. دفع الغزّيين إلى مناطق الجنوب ثم تجفيف الجنوب من أي شرط من شروط الحياة. يصبح المكان نفسه أداةً لطرد السكان. وتصبح الخريطة مشروع نفي جماعي، وفخّاً للقتل. كل خطوة نزوح تُعيد توزيع السكان وتفرّغ مناطق بأكملها، وتحوّل التاريخ إلى فراغ.


تفكيك الحاضنة الاجتماعيّة

من خلال التجويع، تفكك إسرائيل أيّ «حاضنة اجتماعية» من خلال الحصار والجوع والانتظار الطويل وإخماد الأرواح. والتجويع لا يعود مجرّد وسيلة عسكرية، بل مشروع لنزع الشرعية عن الحياة نفسها، وإعادة ترتيب زمني ومكاني للغياب. المستقبل يُمحى، ليس بالصواريخ وحسب، بل بانعدام الأمل واستشراس اليأس، ما قد يخلق بيئة خاضعة ومسيطراً عليها بمعدّاتها لاحقاً.

تاريخياً، استُخدم التجويع كأداة حرب، في حصار لينينغراد من قبل النازيين، ومجاعة أوكرانيا الكبرى تحت حكم ستالين، وحصار مضايا والزبداني في سوريا تحت حكم نظام بشار الأسد. أما اليوم، وفي ظل الهيمنة الإسرائيلية مع التواطؤ العربي والغربي، والصمت العالمي المريب، لم يعُد التجويع أداة حرب، بل سياسة ممنهجة للقضاء على ما يسمى بالكائن الغزي، وتذويبه ومحوه من الوجود. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً