تعليق إدارة الإبادة
خالد صاغيّة

كائنات ما بعد الإبادة

13 تشرين الأول 2025

هذه المرّة، لا تنتهي الحرب كما تنتهي الحروب. لا تنتهي بفرح الخلاص، ولا بدموع الحزن، بل تنتهي الحرب بالخوف. ليس خوفاً ممّا مضى وممّا سوف يأتي، بل خوفٌ من الآن، ممّا أصبحنا عليه، ما أصبح عليه أولئك الذين عاشوا الإبادة من داخلها، وأولئك الذين عاشوا الإبادة من خارجها. وأنا من أولئك الأخيرين الذين يكتبون الآن بيدَيْن مُرّتَيْن، وحلقٍ أجوف. أكتب وأنا أتلمّس أطرافي، وفي ذهني تتردّد عبارةٌ واحدة لإحصاءٍ لم يكن ليخطر في بال أحد: أصبحت غزة موطناً لأكبر مجموعة من الأطفال مبتوري الأطراف في التاريخ الحديث.

طيلة عامَيْن، استسلمتُ لغريزة البقاء، للسؤال عن كيف لا تغيّرني الإبادة. بدأتُ بتدريب عينيّ. أنظر إلى الشاشة، ولا أرى إلا شريط الأخبار في أسفلها. كلّ ما يُعرَض فوق من مشاهد مرعبة لا تسجّلها عيناي. كانت هناك استثناءات طبعاً، كالمؤتمر الصحفي الذي تلا مجزرة المستشفى المعمداني، حين ظهر آباءٌ يحضنون أطفالاً داخل أكياس بيضاء تشبه الأكفان الصغيرة. في لحظاتٍ كهذه، كان لديّ ملجأٌ سرّي أهرب إليه، ملجأٌ مكوّنٌ من صفحة فيسبوكية لأطفالٍ في مخيّمات النزوح يتعلّمون الموسيقى ويغنّون. بين أولئك العازفين الصغار مَن بُترت له ساقٌ أو ذراعٌ، لكنّه استمرّ بالعزف. أنظر إلى عيون الأطفال الذي يغنّون، إلى ملابسهم، وأفكّر بمن خاط على عجلٍ تلك الوردة على قميص المُنشِدة الصغيرة، ومَن صنع لها هذا العقد المزيّن بالألوان كي تحصل على قليل من الفرح. أفكّر، وأنا أراهم يغنّون لداليدا، كيف يسافر الألم، من عناء الوجود إلى التحايل على الإبادة. أفكّر بعبثيّة المشهد: كيف أستنجد أنا الجالس هنا، على الأريكة، بأولئك الأطفال المعرَّضين للموت في كلّ لحظة؟ 

ربّما يستحقّ الأمر اعتذاراً. لكن، كم سيعتذر المرء ليعتذر. فها أنا مشغولٌ الآن باستعادة عينيّ. ذلك أنّ السعي الدؤوب كي لا تغيّرنا الإبادة، قد انتهى. وحانت لحظة المواجهة بالنسبة لكلّ مَن بقي حيّاً، أو هكذا يعتقد. السؤال سياسيّ طبعاً، لكنّه فرديّ أيضاً. سياسيٌّ لأنّ إبادة الفلسطينيين لم تنتهِ. فإذا كانت إبادة اليهود قد انتهت مع سقوط الفاشيات في نهاية الحرب العالمية الثانية، فإنّ النظام المسؤول عن الإبادة في غزّة لم يسقط، وسيستكمل الإبادة، ولو بعدّة أخرى. وهو سؤال فرديّ لأنّ الحداد، في هذا السياق، لا بدّ أن يبدأ لكن لا يمكن له أن يكتمل. الإبادة، في طورها هذا، ليست صفحةً نطويها، بل هي كتاب نفتحُه، ولا، لا نعرف مسبقاً نهايته، ولا ما سيحلّ بنا حين نبلغ تلك النهاية. أتذكّر ما قرأتُه يوماً عن الحداد، عن كونه لحظة استسلام وقبول مُسبَق بالتحوّل الذي سيفرضه علينا. لحظة القبول بأنّنا أصبحنا جزءاً من مجتمع هو مجتمع «كائنات ما بعد الإبادة». لسنا تماماً زومبيز. فنحن لا نعود من الموت. ولسنا، كأهل غزّة، عائدين من الجحيم، بأعدادٍ أقلّ. نحن في منزلةٍ ثالثة، كائنات هائمة ما عادت تتعرّف إلى نفسها، ولا إلى العالم الذي تعيش فيه. منذ هذه اللحظة، سنغرق في حدادٍ عميق، نحن الذين شهدنا من بعيد، وما زال البكاء عصيّاً علينا. 

لن يمكنني أن أفعل كما فعلتُ مع نهاية المقتلة السوريّة. ففي سوريا، جاء الحداد بطيئاً قبل أن يُتوَّج بلحظة السقوط. يومها، انزويتُ في بيتي البعيد عن المدينة. أقفلت الأبواب والنوافذ جيّداً، ووضعت على صوت مرتفع أغنيات عبد الباسط الساروت وفيديوهات مازن الحمادة وهو يحكي عن التعذيب الذي تعرّض له، وكان يوم البكاء الطويل. الآن، لا نزال في مرحلة التعرّف على أنفسنا من جديد، لحظة السؤال عمّا أصبحناه. هذه الأطراف التي لم تُبتَر، هل ما زالت أطرافنا؟ هاتان العينان اللتان داريناهما هل ما زالتا قادرتين على الرؤية؟ هاتان الساقان، هل ما زلنا نستطيع السير بهما؟ وإن سرنا، فهل من مكان نصل إليه؟ تلك المشاهد التي استقرّت عميقاً في مكان ما من أجسادنا التي لم تقصفها المسيّرات، ماذا حلّ بها؟ تلك الساعات التي جلستُ فيها أمام الشاشة طيلة عامَين محاولاً كتابة سطر واحد عن غزّة دون جدوى، أين ذهبت؟ في أيّ زاوية من القلب أو العقل تراكمت؟ وما الذي تنتجه الآن من عوارض؟ مزيد من العزلة؟ مزيد من السينيكيّة؟ مزيد من الغضب؟ طفوح في الجلد؟ أوجاع ناتجة عن حساسيّات جديدة في المعدة الهشّة؟

غداً حين نشاهد زعماء العالم يقفون على المصطبة ليهنّئوا أنفسهم على وقف الإبادة التي صفّقوا لها طويلاً، سنسأل أنفسنا: من نحن، وفي أيّ عالم نعيش؟ سيبدأ كلٌّ منّا في تلاوة اسمه الثلاثيّ ليقول: لم أكن في غزّة، لكنّي رأيت. لم أرَ الكثير. لكنّي رأيت ما لا تستطيع حياةٌ كاملة أن تبصره. ومن منّا لا يزال لسانه طليقاً، سيغنّي «كلمة حلوة كلمتين» مع تلك الطفلة بعقدها البلاستيكيّ الملوّن. وقد تجيبه الطفلة نفسها: «حلوة يا بلدي»، فيعرف أنّ الإبادة مستمرّة، وأنّ الحداد مسارٌ طويلٌ طويل.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً