تعليق سوريا
محمد علي الأتاسي

دفاعا عن سوريا التعدّديّة

لا عن البطريرك يوحنا العاشر

4 تموز 2025
البطريرك يوحنا العاشر في موقع التفجير الانتحاري.

لم تكن الكلمة المرتجلة لغبطة البطريرك يوحنا العاشر يازجي في تأبين شهداء التفجير الانتحاري في كنيسة مار الياس في حيّ الدويلعة في مدينة دمشق، هي الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي يتخذ فيها رأس بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، ومقرّها دمشق، موقفاً عالي النبرة، سياسياً وإنسانياً بشأن الأحداث المصيرية التي تخصّ بلاد الشام عموماً، وسوريا خصوصاً. 
لكنّ هذه الكلمة التي حملت مطالب سياسية واضحة تخصّ إرساء الديموقراطية ودولة المواطنة، وتضمّنت عبارات نقدية حادّة بحق الرئيس أحمد الشرع وحكومته، أثارت عاصفة من ردود الفعل المستنكرة لمضمونها في الأوساط القريبة من الحكومة أو في بعض الأوساط المؤيدة للثورة السورية، تارةً بحجة ضرورة عدم تدخّل رجال الدين بالسياسة، وتارةً اعتراضاً على ماضي البطريرك اليازجي على رأس الكنيسة، والذي تضمن الحفاظ على العلاقات البروتوكولية مع رأس الدولة السورية خلال كل سنوات القتل والمجازر بحق الشعب السوري، وسكوته المديد عن هذه الجرائم المروعة بحق المدنيين العزل، ويقظته السياسية المستجدة عندما طال الإرهاب الأسود رعايا كنيسته أثناء تأديتهم للصلاة في كنيسة مار الياس. 


سنتناول قضية صمت البطريرك اليازجي على جرائم النظام في الجزء الثاني من هذه المقالة. 
أمّا في ما يخص الرأي الذي يقول بضرورة إبقاء رجال الدين بعيدا عن السياسة، فإن هذا الرأي يكون محقاً إذا كان يعني إبقاء رجال الدين بعيداً عن التدخل المباشر في الحقل السياسي وأحزابه وبرامجه وانتخاباته ودهاليزه وضرورة الامتناع عن الانحياز لطرف من الأطراف السياسية المتصارعة، لكن ليس من حق أحد أن يصادر على رجل الدين حقه في أن يكون له رأي سياسي محدّد يعبّر عنه كمواطن في صندوق الاقتراع وفي الفضاء العام. فكيف إذا كان لبعض رجال الدين اعتبارات ومناصب مؤسساتية تفرض عليهم في بعض الأحيان تصدير مواقف واتخاذ قرارات تحمل أبعاداً سياسية واضحة لا يمكن تجاهلها. 

لقد لعب الكرسي البطريركي للروم الأرثوذكس في أنطاكية وسائر المشرق دوراً سياسياً واجتماعياً وروحياً بارزاً منذ نهاية القرن التاسع عشر، تاريخ تعريبه وعودة أبناء المشرق لتبوّؤ سدّة الرئاسة فيه. وهذا لا يعود فقط لكون طائفة الروم الأرثوذكس هي الطائفة المسيحية الأكبر في هذا المشرق، ولكن للدور الرئيس الذي لعبه أبناؤها مع إخوتهم من الروم الكاثوليك في النهضة الفكرية التي شهدتها منطقتنا منذ نهاية القرن التاسع عشر، وخصوصًا مع وصول البطريرك غريغوريوس الرابع حداد لسدة رئاسة الكرسي البطريركي في الفترة الممتدة بين العامين 1906 و1928، حيث كان لهذا البطريرك مواقف إنسانية وسياسية مشهودة، سواء لجهة مساعدة ضحايا المجاعة من مسلمين ومسيحيين في سوريا ولبنان أثناء الحرب العالمية الأولى، أو في وقوفه إلى جانب الأمير فيصل والحكومة العربية في وجه سلطات الانتداب الفرنسي. كما كان لخلفه البطريرك الياس الرابع معوض الذي تبوّأ سدة الكرسي البطريركي بين العامين 1970 و1979، مواقف مشهودة في الدفاع عن عروبة القدس وضرورة إبقائها مدينة مفتوحة لجميع الأديان. 
أما البطريرك أغناطيوس الرابع هزيم، ابن مدينة محردة الذي كانت فترة تبوُّئه الكرسي البطريركي الأطول بين أقرانه وامتدت من العام 1979 الى العام 2012، فقد تميز بجرأته في قول الحق وبثقافته الفلسفية الموسوعية وإطلاعه المعمق على الفكر الإسلامي الكلاسيكي، واعتداده بكنيسته الأرثوذكسية التي كان يعتبرها أمّ الكنائس المشرقية. 

البطريرك هزيم والوكالة السوريّة للإعلام (سانا) 

لقد كان لي أثناء كتابتي في ملحق النهار ونشاطي في فترة ربيع دمشق بداية الألفية الثانية، شرف لقاء البطريرك والتعرّف عن قرب على وطنيته الصادقة واختبار جرأته الفذّة. ولي قصّة معه جديرة بأن تروى هنا. 
ففي أعقاب وفاة الرئيس السوري حافظ الأسد، وفي ذروة مراسم التأليه التي أحاطت بموته وصولاً لتوريث الحكم لابنه، دُعيَ البطريرك هزيم إلى جانب عدد من الضيوف لإلقاء كلمات قصيرة في الحفل التأبيني الذي أقيم في القرداحة في ذكرى الأربعين لرحيل الأسد الأب بتاريخ 22 تموز 2000 وبثه التلفزيون السوري على الهواء مباشرة. تتالى الخطباء على المنبر لتقديم طقوس التبجيل والرياء للرئيس الراحل ولإظهار الولاء الكاذب للرئيس المقبل بشار، ثمّ جاء دور البطريرك هزيم الذي صعد بهدوء إلى المنبر وبدأ كلامه متوجّهاً للرئيس الشاب يومها بالقول: في ظننا أنك تريد أن يعرف المواطنون انك تريد أن تكون الإنسان مع الناس لا المتعالي والمترفّع أو كما يريد البعض المتألِّه.
أما بخصوص الرئيس الراحل الذي لم ينفك أتباعه عن تأليهه، وعلى رأسهم الشيخ البوطي الذي كان حاضراً يومها الحفل، فأهمّ ما قاله البطريرك هزيم بحق الرئيس الراحل هو الآتي: وفي الأخير يقف الانسان أمام خالقه وتقف أعماله بجانبه فيراها وتخاطبه لكي يتعرف إليها ويقر بها أمام من لا يخفى عليه شيء وهي التي تدينه.
وفي اليوم التالي تصدرت صفحات الجرائد السورية كلمات الخطباء كما وزعتها عليهم الوكالة السورية للأنباء، لنكتشف أنه تم التلاعب بنص كلمة البطريرك هزيم. فاختفت عبارة «كما يريد البعض المتأله» من النص، أما كلمة «تدينه»، فقد فهمها محرّر سانا بمعنى الإدانة السلبي وقرر تحويرها لتصبح «وهي التي تديره»!
استشاط البطريرك هزيم غضباً على تجرّؤ وكالة سانا على التلاعب بأقواله، وبعث بنص كلمته كما سمعها ملايين السوريين إلى صديق دراسته الجامعية غسان التويني الذي نشرها كاملةً بعد عدة أيام في جريدة النهار. وكتبتُ مقالاً صغيراً نشرتُه في ملحق النهار بتاريخ 18 آب 2000 بعنوان «بين البطريرك هزيم والوكالة السورية للأنباء»، وضّحت فيه الحادثة وبيّنتُ فيه كل المقاطع التي تم فيها التلاعب بكلام البطريرك.
لم يمضِ عام على هذه الواقعة، حتى تكرّرت من جديد، وعادت الوكالة السورية للأنباء للتلاعب بكلام البطريرك هزيم، محوِّرةً ومبدِّلةً في عظة عيد الفصح التي ألقاها في الكنيسة المريمية في دمشق بتاريخ 16 نيسان 2001. فقد نسبت الوكالة للبطريرك هزيم أقوالا لم تصدر عنه وحذفت أهمّ مقطع في كلمته، وهو الذي احتجّ فيه ضمنياً على حالة الجمود السياسي التي أدخل فيها بشار الأسد البلد بحجة الاستقرار: 

أنا لا أفهم أولئك الذين يتكلمون بالجمود ويتكلمون بالاستقرار بحجة أن ذلك مريح… لا خوف من التبديل، لا خوف من التغيير، لا خوف من أن نرى الأشياء في كل ساعة تتطلب منا عقلا جديداً، فكراً جديداً، تصوراً جديداً، ورؤية جديدة من هذا العالم. لا سمح الله أن نكون في حال استقرار أي في حال جمود. وحدها المقبرة مستقرة...

ومرّةً أخرى، بعث البطريرك نص كلمته الكاملة إلى جريدة النهار، ونشرتُ بدوري مقالاً في ملحق النهار تحت عنوان «بين البطريرك هزيم ووكالة الأنباء السورية، مرة أخرى»، بيّنتُ فيه من جديد المقاطع التي تمّ حذفها من كلمته والعبارات التي أُقحِمت عليها.

في حضرة غبطة البطريرك هزيم

في أعقاب اعتقالات ربيع دمشق، زرت المدينة آتياً من بيروت في العام 2002 وكان جو الصمت والخوف قد بدأ يسود من جديد في أوساط المثقفين والمعارضين السياسيين، ولم أجد سوى الثمانيني الرائع الأستاذ أنطون مقدسي الذي وافق على التحدث بجرأة وعلانية منتقداً الاعتقالات وجو الترهيب الذي حاول بشار الأسد فرضه على المجتمع. وفي أحد الأيام كنت أمشي محبطاً من الجو السياسي الخانق لأجد نفسي أمام الكاتدرائية المريمية في الشارع المستقيم، فطرقت بابها من دون موعد مسبق وطلبت لقاء البطريرك هزيم، الثمانيني الآخر في المدينة الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم، وكان لي ذلك في صباح اليوم التالي لأتفاجأ أنني بحضرة رجل، واسع الثقافة، متّقد الذهن، عزيز النفس، يحمل على كاهله ميراث انطاكية وسائر المشرق الذي يخصّ مسلمي هذه البلاد كما مسيحييها، ويحمل هذا الرجل الكثير من المرارة والغضب على الأسد الأب، كما الابن، لما آلت إليه حال البلاد والعباد. بدأ البطريرك هزيم بالكلام واستأذنت منه أن أدوّن على دفتري بعض رؤوس الأقلام، وافق بشرط تأجيل النشر لمرحلة لاحقة. 
سأسمح لنفسي هنا بإيراد بعض ما دوّنته على لسان البطريرك هزيم، لأن فيه الكثير من العبر والمعاني لما نحن فيه اليوم.

يشير البطريرك هزيم الى ان مشكلتنا هي في الديكتاتوريات، ويضيف قائلا هناك من يقول لك أنهم معصومون. وهذا لا يجوز، بحسب البطريرك، لأنه ليس هناك إلا الله هو المعصوم، يجب أن لا نؤلّه غير الله. الناس اليوم، بحسب البطريرك هزيم، فئتان: فئة إسمها المحكومون، وفئة إسمها الحكام، وهم أنصاف الله من طريقهم يقال الحق والباطل. أما فئة المحكومين وعموم الناس، فطريقهم وحياتهم كلها هي العمل والكدح والركض وراء لقمة العيش.
ويشير غبطة البطريرك إلى أنهم عملوا البلد طبقتين: طبقة تأخذ كل شيء وطبقة تشتغل ولا تفتح فمها، وكأنها بحالة عبودية. ويضيف غبطته أنه بات هناك طبقية وهرمية من نوع معين تشبه منطق السيد والعبد، والعبد يجب أن يلتزم حدوده، وهذا لا يعمل وطناً. لذلك ضعفت فكرة الوطن، بعد أن كان الجميع أخوةً.
ويتساءل البطريرك هزيم لماذا أُحبّ ربَّكم ستالين وأترك ربّي. وربّي لم يعمل سجوناً ولم يقتل أحداً، ويضيف: زادت السجون والمعتقلات ولم تزد المدارس. نحن مع المواطن وليس مع الحكومات. فالحكومات كل يوم شكل، ونحن لا نتغير.
ويشدّد البطريرك أنهم كانوا يقولون لنا: ويلنا إذا تغيّر هذا الحكم، لأنه سيكون هناك حكم الإخوان المسلمين. ويقولون لنا إنّ حكم الأقلية يتضامن مع بقية الأقليات، وإذا جاءت الأكثرية فهي سنّية. ويضيف هذا كله لم يقدر أن يجرفنا ولم نمشِ به على الإطلاق.
ويؤكد البطريرك هزيم: أنا قلت لهم أنا مع البلد، ومع مَن هو مع البلد. نحن لم نكن مع حزب ولا نريد أن نكون حزباً. فالأحزاب هي وسائل وليست غايات. أنا ميّال لشو ما كان ما عدا أن نبقى كما نحن. أنا أريد أن أرى الإنسان حرّاً. يتحرّك ويعبّر عن رأيه بحرية. لأنه بدون الحرية لا يوجد فضيلة ولا يوجد إنسان.

أما بخصوص حال الإسلام في عصرنا الراهن، والبطريرك هزيم كان من الملمّين بالدراسات الإسلامية، فيقول البطريرك: من طفولتي والناس يللي بتقعد مع أبي هم جيراننا المسلمون. أول رفاقي بالحارة في المحردة هم الأولاد المسلمون. أفتقد الإسلام الذي أعرفه، عندما أرى المحطات الإسلامية بما فيها من هجوم وانتقاد وتجييش، وكأن الناس جميعا ليسوا من خلق الله!
ويضيف البطريرك محتجّاً على صعود التيارات الإسلامية المتطرفة: دعونا ننصف الإسلام، اتركوا الإسلام لنا. الإسلام الذي تقدمونه، تدفعون به المسلمين للقتال، بينما الإسلام لم يأتِ ليجعل الناس يتقاتلون. هو يحمل رسالة للإنسان للمشاركة بالحياة.
أما عن حاله وهو المقيم في دمشق وعلاقته بالسلطة الاسدية، فيشير البطريرك إلى انه يجب أن يشعر الإنسان أنه مقبول ومرحب به في وطنه. في لبنان أحس نفسي حرّاً لأني أستطيع أن أحكي، أما في سوريا، فلا أستطيع أن أسمع صوتي في الإذاعات ولا أن أطلع على التلفزيون. في التلفزيون لا ترى صورتي إلا مرّةً أو مرّتين بالسنة عندما يبعث لي القصر وزير شؤون رئاسة الجمهورية للتهنئة في الأعياد، بدلاً من أن يأتي الرئيس بنفسه للتهنئة في هذا الصالون البطريرك الذي استقبل في تاريخه الكثير من الملوك ورؤساء الدول.

ولدى سؤالي البطريرك لماذا لا يدعونك لتحكي وتوصل صوتك إلى السوريين؟ كان جوابه: هذا سؤال لك وليس لي.

البطريرك يوحنا العاشر يازجي والسلطة الأسديّة 

الوزيرة هند قبوات مع البطريرك يوحنا العاشر.

انتُخب البطريرك اليازجي لتبوُّؤ سدّة الكرسي البطريركي الأنطاكي نهاية العام 2012 وتولى مهامه في نيسان 2013  في لحظة مشحونة سياسياً شهدت توحّش النظام في مواجهة الثورة وبيئاتها الحاضنة، كما تم فيها بتاريخ 22 نيسان 2013 اختطاف مطرانَيْ حلب للروم الأرثوذكس والسريان الأرثوذكس من مناطق سيطرة جبهة النصرة شمال حلب، وبينهما شقيقه المطران بولس اليازجي، ولا يزال إلى اليوم مصيرهما مجهولا. وتبع ذلك اختطاف راهبات دير مار تقلا الأرثوذكسي في بلدة معلولا نهاية العام 2013 على يد جبهة النصرة، ليتمّ الإفراج عنهنّ بعد ثلاثة أشهر في صفقة تبادل للأسيرات والرهائن من النساء لدى النظام السوري.

منذ البداية، لم يحد البطريرك يوحنا العاشر عن ميراث أسلافه البطاركة في الحفاظ على العلاقات الرسمية والبروتوكولية مع الدولة السورية التي تستضيف عاصمتُها مقرّ الكرسي البطريركي لأنطاكية وسائر المشرق. لكنه، على عكس البطريرك هزيم الذي- وإن لم ينتقد السلطة السياسية علناً- حرص على حماية استقلالية الكنيسة وعلى التمايز عن السلطة الأسدية والامتناع عن تقديم أي دعم سياسي مباشر لها، ذهب البطريرك يوحنا العاشر إلى الرهان الخاطئ على حماية الدولة السورية، ممثَّلةً بالسلطة الأسدية، للمسيحيين في وجه الأخطار الوجودية التي باتت تهدّدهم، الأمر الذي دفعه إلى اتخاذ مواقف تتلاقى مع الخطاب الرسمي، سواء لجهة رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا ورفض كل أشكال التدخل الأجنبي، إذا لم يأتِ بطلب من الدولة السورية. كما أنه لم يتوانَ في عظاته عن شكر الدولة ورئيسها ومؤسساتها وجيشها في كل مناسبة وطنية أو دينية لدورهم في الحفاظ على وحدة البلاد.
نعم، لقد أخطأ غبطة البطريرك اليازجي في الرهان على حماية الدولة السورية للمسيحيين، في ظل سلطة يتولاها مجرم فاسد من مثل بشار الأسد. لكنه في كل هذا، حافظ على مكانة الكرسي البطريركي وعلى كرامته الشخصية وأبقى على مسافة معينة من النظام وخطابه الإقصائي وممارساته الإبادية، ولم يذهب بعيداً في تمجيد وتبجيل رموز السلطة، ولم يقدّم فروض الطاعة والولاء المذلة لشخص بشار الأسد على جري عادة بعض رجال الدين المسيحيين والمسلمين في سوريا الأسد، من أمثال الشيخ البوطي والمفتي حسون والمطران لوكا الخوري والأب الياس زحلاوي. 
نعم إنّ من حق السوريين اليوم، مسلمين ومسيحيين، أن يُسائلوا البطريرك يوحنا العاشر، ويطلبوا منه توضيحات بشأن مواقفه الملتبسة من النظام الأسدي، لكنّ هذا لا يجعل من غبطة البطريرك شريكاً للنظام في جرائمه بحق الشعب السوري، وهذا لا ينزع بأي شكل من الاشكال المشروعية عن مواقفه الوطنية والسياسية المستجدّة بعد وصول جبهة النصرة إلى الحكم في سوريا.

البطريرك يوحنا العاشر يازجي والسلطة الجديدة 

بعد أيام قليلة من سقوط النظام الأسدي، ألقى البطريرك يوحنا العاشر يازجي بتاريخ 15 كانون الأول 2024، عظة دينية في كنيسة الصليب المقدس في دمشق، ضمّنها مواقف سياسية مستجدة عبّرت بوضوح عن تغيير جذري ومبشِّر في موقف رأس الكنيسة الأرثوذكسية وتبدّل في جدول أولوياته باتجاه الانخراط  بفاعلية أكبر في الحوار الوطني بخصوص هوية البلد ومستقبله السياسي، وضرورة قلب صفحة الماضي التي كان البعض فيها يظن أن الاستبداد هو حامي الأقليات، في حين بات واضحا اليوم أن الديمقراطية ودولة المواطنة هي الضامن الحقيقي لكل فئات المجتمع. 
ففي هذه الكلمة التاريخية بامتياز، أكّد البطريرك اليازجي على أن البلد على أعتاب مرحلة جديدة وأن المسيحيين ليسوا ضيوفا في هذه الأرض، بل هم من أساس تكوينها، وأن سوريا التي يريدها هي سوريا دولة المواطنة وسوريا دولة العيش المشترك والسلم الأهلي وسوريا دولة القانون واحترام الأديان، وسوريا دولة احترام الحريات الجماعية منها والفردية، وسوريا دولة احترام حقوق الإنسان وضمان استقلالية القضاء، وسوريا دولة الديمقراطية: حيث السيادة للشعب، والقانون هو الحَكَم، ويتم تداول السلطة فيها بطرق سلمية. وختم البطريرك عظته بالتأكيد على أن الضامن الأول والأخير لتحقيق كل ما ذُكر هو الدستور، ولذلك يجب أن تكون عملية صياغة الدستور عمليةً وطنيةً شاملةً وجامعة.
للأسف الشديد، فإن هذه الكلمة الوطنية الجامعة لغبطة البطريرك، لم تلقَ من السلطة الجديدة آذاناً صاغية، وكان مصيرها التطنيش والتجاهل، كمصير الكثير من الدعوات والبيانات التي حاولت عبثاً تبنّي ذات المطالب وتنبيه السلطة القائمة بضرورة المشاركة السياسية والمجتمعية في بناء الدولة الجديدة وصياغة الدستور القادم. وكانت النتيجة أن تمّ الاستعاضة عن ذلك بمؤتمرات معلبة ومشروعية ثورية مفترضة ولجان معينة من الأعلى بعيداً عن أي تمثيل شعبي، وصولاً الى إعلان دستوري مطبوخ في الدوائر الضيقة يفتقد الى ألف باء النصوص الدستورية الناظمة للمراحل الانتقالية.
ومع اندلاع أحداث الساحل وارتكاب المجازر بحق المدنيين العزَّل، وفي 8 آذار 2025، أصدر البطاركة الانطاكيون المشرقيون الثلاثة (مقرّهم دمشق)، وهم على التوالي بطاركة الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والسريان الأرثوذكس، بياناً مقتضباً أكدوا فيه: 

أنّ الكنائس المسيحية، إذ تدين بشدة أي تعدٍّ يمسّ السلم الأهلي، تستنكر وترفض المجازر التي تستهدف المواطنين الأبرياء، وتؤكد على ضرورة وضع حدٍّ لهذه الأعمال المروعة التي تتنافى مع كل القيم الإنسانية والأخلاقية. كما تدعو الكنائس إلى الإسراع في توفير الظروف الملائمة لتحقيق المصالحة الوطنية بين أبناء الشعب السوري، والعمل على تأمين مناخ يسمح بالانتقال إلى دولة تحترم جميع مواطنيها، وتؤسّس لمجتمع قائم على المواطنة المتساوية، والشراكة الحقيقية، بعيدًا عن منطق الانتقام والإقصاء. 

كما ناشدوا فيه بكل وضوح الجهات المعنية، داخل سوريا، لتحمل مسؤولياتها في إيقاف دوامة العنف، والسعي نحو حلول سلمية تحفظ كرامة الإنسان وتصون وحدة الوطن.
لكن جرس الإنذار الجديد هذا، ذهب بدوره أدراج الرياح، وذهبنا من مجازر الساحل الى الاقتتال والانتهاكات في جرمانا وأشرفية صحنايا، ومضت السلطة الجديدة في محاولتها الإمساك بزمام الدولة والمجتمع بعيدا عن أي مشاركة أو شفافية أو محاسبة، اللهم الا محاسبة الناس في ملبسهم ومأكلهم ومشربهم والتضييق عليهم في أمور حياتهم الخاصة وحرياتهم الفردية.

البطريرك يوحنا العاشر وتفجير الكنيسة والوكالة السورية للأنباء

كنيسة مار الياس في اعقاب التفجير الانتحاري.

مَن يعتقد أن تفجير الانتحاري لنفسه في كنيسة مار الياس أتى من فراغ؟ يكفي لمن شاهد في الشهور الأخيرة سيارات الدعوة السلفية تجوب المناطق المسيحية، ولمن سمع وشاهد فيديوهات الجهاديين المنتشرين على كامل التراب السوري والتي تتوعد من تسميهم «عبدة الصليب» بالحساب، ولمن عاين بأمّ عينه حال سكان الأحياء المسيحية في المدن السورية وحالة التوجس والقلق التي كانوا يعيشونها في ظل انتشار المظاهر المسلحة غير المنضبطة بين ظهرانيهم، يكفي كل هذا ليدرك أن فاجعة تفجير الكنيسة كان من الممكن تجنّبها، وكان من الممكن قطع الطريق على من يريد زعزعة السلم الأهلي بسوريا، لو تم الاستماع لهواجس المسيحيين وقياداتهم الروحية والمجتمعية.  
من هنا يمكن تفهُّم غضب البطريرك يوحنا العاشر في كلمته المدوّية في كنيسة الصليب المقدس أمام جثامين الشهداء الذي سقطوا في هذا التفجير الإرهابي. 
غضبَ البطريرك لأن السلطة القائمة لم تعِر تحذيراته ومطالبه المحقّة في الشهور السابقة أي اهتمام. 
غضبَ البطريرك لأنّ الجيش يُنشأ والوزارات تُشكَّل والبيان الدستوري يُكتَب والنقابات تُعلَّب ومجلس الشعب يُعيَّن، بعيداً عن أي مشاركة شعبية وبعيداً عن أي تشاور مع الشخصيات السياسية والنقابية والدينية ذات الصفة الاعتبارية في مجتمعنا. 
غضبَ البطريرك لأن دم أبناء طائفته الأبرياء سال بتفجير انتحاري اثناء تأديتهم للصلاة في حضرة الله. 
غضبَ البطريرك لأن الرئاسة السورية في بيان تعزيتها لم تمنّ عليهم حتى بلقب الشهداء. 
غضبَ البطريرك لأن السلطة السورية لم تخصّص يوم حداد واحداً على أرواحهم. 
غضبَ البطريرك لأن السلطة الحالية لم ترسل الى موقع الجريمة سوى الوزيرة المسيحية الوحيدة السيدة هند قبوات التي تفتقد أصلاً لأي صفة تمثيلية او شعبية في بيئتها المسيحية، فكيف في حقيقة تمثيلها للدولة السورية.

نعوة عائلة بشارة التي قضت في التفجير الانتحاري.

المؤسف والمخزي أنّ كلمة غبطة البطريرك يوحنا العاشر الجريئة والغاضبة، لم يتمّ فقط قطع البث المباشر عنها عندما تناولت بالنقد السلطة الحالية، لا بل أن وكالة الأنباء السورية (سانا) عادت لممارساتها الأسدية القديمة مع البطريرك هزيم، وتلاعبت في مضمون الكلمة عند صياغتها للخبر الصحفي بخصوص جناز الشهداء في الكنيسة، مفرِّغةً الكلمة من أي نقد تجاه السلطة ورئيسها ونسبت للبطريرك عبارات كاملة لم يقلها ولم تأتِ على لسانه. فخبر الوكالة السورية للأنباء يشير الى أن البطريرك يوحنا العاشر قال في كلمته، إنّ ما جرى في الدويلعة لا يمثل سوريا ولا ينسجم مع أخلاق أبنائها، واصفاً العمل الإرهابي بأنه مرفوض من جميع الديانات والمبادئ الإنسانية، ومشدداً على أن المسيحيين والمسلمين في سوريا يشكّلون نسيجاً اجتماعياً واحداً لا يمكن تمزيقه. وأضاف: إن هذه الأفعال لن تنال من وحدتنا، وإن وجود الجميع اليوم في هذه الصلاة يحمل رسالة دعم وعزاء لأهالي الضحايا ولكل السوريين، كما دعا إلى الثبات في الإيمان وعدم الخوف، مستشهداً بقول السيد المسيح: أنا في وسط الكنيسة ولن تتزعزع.
طبعاً يستطيع أيّ شخص ان يعود الى تسجيل فيديو كلمة البطريرك الكاملة، والذي بات متاحاً على الإنترنت، ليكتشف أن معظم هذه العبارات التي وردت في خبر وكالة سانا لم ترد أساساً على لسان غبطة البطريرك. أما مخاطبة البطريرك الحقيقية، فهي في كلمته للرئيس الشرع وقوله: 

سيادة الرئيس، تكلمتم البارحة هاتفياً مع سيادة الوكيل البطريركي لتنقلوا لنا عزاءكم. لا يكفينا هذا. أنتم مشكورون على المكالمة الهاتفية. ولكن الجريمة التي تمت هي أكبر وتستحق أكثر من مكالمة. نأمل أن تعمل الحكومة على إنجاح أهداف الثورة التي هي كما قلتم وقال الجميع: الديمقراطية، الحرية، المساواة والقانون. هذا ما ننتظره وما نريده وما نعمل من أجله.

فهذا بالضبط ما لم تورده الوكالة السورية للأنباء، لأن ما ينتظره ويريده ويعمل من أجله أغلب فئات الشعب السوري بعد نصف قرن من الاستبداد هو «الديمقراطية والحرية والمساواة والقانون». وهذا على ما يبدو ما لا تريد أن تراه ولا أن تسمعه ولا أن تعمل من أجله السلطة الحالية ووكالة أنبائها «السوريّة».

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
281 شهيداً بالمجاعة والحصار، 320,000 طفل بحالة سوء تغذية حاد
قطرة الماء الأخيرة (1)
ترامب يدعم احتلال غزّة: سيكون الأسرى بأمان أكثر
وزير خارجية هولندا يستقيل احتجاجاً على سياسات إسرائيل
سوق الطيْبة: يتحدّى الاعتداءات الإسرائيليّة 
23-08-2025
تقرير
سوق الطيْبة: يتحدّى الاعتداءات الإسرائيليّة 
قضية الأسبوع

الصراع على حدود الهزائم

ميغافون ㅤ