تحليل سوريا
وعد قاسم

عشوائيات دمشق

تجسيدٌ للصراع على السلطة

14 تشرين الأول 2025

المظالم العقاريّة

تعاني العشوائيات ذات الغالبية العلوية في دمشق من حملات ترحيل ومداهمات، تأتي في إطار حملة استعادة الأملاك التي صادرها نظام الأسد سابقاً من معارضيه. وتمثّل هذه العمليات تكراراً لسلوك مشابه حدث خلال أحداث الثورة السورية، عندما تعرّضت عشوائيات الغالبية السنية لهجمات ذات دوافع طائفية، انتهت بتدميرها وترحيل سكانها بالكامل.

فبعد هروب بشار الأسد، برزت إلى الواجهة قضية المظالم العقارية، والتي تمثّلت في مصادرة ممتلكات المغيبين قسراً والتوسع من خلال إقامة ثكنات عسكرية داخل الأحياء السكنية وتعزيز وجود الموالين للسلطة. ولم تكن هذه الممارسات مترافقة مع الحرب السورية الأخيرة وحسب، بل هي امتداد لسياسات قديمة تسارعت وتيرتها بشكل ملحوظ في السنوات الماضية. ففي محيط دمشق، نشأت عدة مناطق سكنية مخصّصة للضباط والتابعية الأمنية، وارتبط مع هذا النشوء بروز تكتلات ذات صبغة طائفية محسوبة على نظام الأسد مثل مزّة 86 والسومرية وغيرها.

بعد سيطرة هيئة تحرير الشام، شهدت بعض المناطق عمليات استعادة فردية للممتلكات المصادرة عبر المحاكم، بينما انتشرت إخطارات إخلاء جماعية في أماكن أخرى. تضاعفت هذه الإنذارات واختلطت بين المظالم العقارية المستحقة وبين العداء للطائفة العلوية المحسوبة على نظام الأسد، ونتج عن هذا الخلط توترات عنيفة في الأحياء ذات الغالبية العلوية، مثل حي السومرية، وهجمات متفرقة في أرجاء دمشق وسوريا على حدّ سواء. 

في خضمّ  ذلك، برزت دعوات إلى تغيّرات ديموغرافية جديدة، لم تكن الأولى من نوعها في دمشق، تدعو إلى ترحيل العلويين، متجاهلةً الأسباب الرئيسية التي دفعت أعدادًا كبيرة من جميع الطوائف والمكونات السورية إلى الهجرة من الريف نحو أطراف العاصمة، لتمثل جميعها طوقاً من العشوائيات التي كانت وما زالت مساحات للصراعات. فعمليّات الترحيل والمداهمات تنطلق من التباس تاريخي، يخلط بين اعتبار وجود العلويين في العاصمة ناتجاً عن تملّك غير قانوني، وبين كونه نتاجاً لظاهرة اجتماعية طبيعية جمعت أبناء الريف السوري على اختلاف انتماءاتهم في أحياء دمشق العشوائية، أي ظاهرة «الهجرة من الريف إلى المدينة». 

هكذا تظل العشوائيات في دمشق تجسيداً للصراعات على السلطة والهوية في سوريا، وانعكاساً لتقلبات السياسة وتأثيرها على حياة الناس وتوزيعهم الجغرافي.


عشوائيّات الأغلبيّة السنّية

لطالما نشأ التمرّد من العشوائيات، حيث عمل تمركز أبناء الأرياف المحرومين من متطلّباتهم على نشوء محرّك دائم في أطراف المدينة. على سبيل المثال، كانت أحياء الأكراد في جبل قاسيون تشهد توترات أمنية عند أيّ تحرّك للأسد ضدّ عموم الأكراد، كذلك اشتدّ الطوق الأمني في منطقة جرمانا عند الخلاف مع دروز السويداء، بينما لعب تمرّد أحياء جنوب دمشق العشوائية ذات الغالبية السنية دوراً حاسماً في الثورة السورية، فجاء ردّ بشار الأسد عليها بالقصف والتدمير وتهجير سكانها واستملاك ما تبقى عنوةً.

اعتمد الأسد الاستملاك الطاغي كعقاب جماعي لمعارضيه، إمّا من خلال مصادرة الأملاك بشكل مباشر وإعادة توزيعها على مؤيديه، أو من خلال تزوير السجلات العقارية والقيود المدنية للمعتقلين وعائلاتهم، بالإضافة لإحداث قوانين وتشريعات عديدة تسمح له بالسيطرة على الملكية العقارية، ولعلّ أبرزها القانون رقم 10 لعام 2018، والذي اعتبرت هيومن رايتس ووتش أنه يمكّن الحكومة من وضع يدها على الملكيات الخاصة دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة أو التعويض المناسب في مناطق إعادة الإعمار. أضف إلى ذلك استغلال القانون رقم (15) للعام 2008 الذي يسمح باستملاك أملاك الغائبين في المناطق العشوائية، حيث ينص على تسليم سكن بديل لشاغلي العقارات وليس لمالكيه، وبالتالي فإنّ أصحاب الملكيات الذين أُشغِلت بيوتهم من جماعات موالية للنظام السابق لن يستفيدوا من حقوق الملكية. 

اتبع الأسد سياسات ممنهجة لاستملاك الأراضي والعقارات، كعقاب جماعي لمعارضيه في الأحياء العشوائية ذات الغالبية السنية وكمكافأة لمواليه، مما أدى إلى تغيرات في التركيبة السكانية في المدينة وإشكاليات عقارية لا تزال عواقبها ماثلةً إلى اليوم.


تجمّعات العلويّين

على غرار الأنظمة الشمولية، عمل الأسد على إنشاء مساكن تضمّ عوائل الضباط والعاملين في السلك الأمني. وانتشرت هذه الأحياء، مثل مساكن الحرس الجمهوري التي قد تتجاوز المئة بين دمّر وقدسيا، ومزة 86 وحي الوورد وعش الورور وغيرها، في أطراف المدن، لتشكّل في بادئ الأمر نقاطاً أمنية للأسد ثمّ تتوسّع على الحامل المجتمعي. هذا بالإضافة للاستملاك غير المشروع لبعض الأراضي الزراعية وتحويلها لمناطق نفوذه، مثل مزارع اللبان في امتداد قطنا، والتي تعرف باسم السومرية حاليًا نسبة لسومر ابن رفعت الأسد. أنتجت هذه السياسة الاستملاكية الالتباس بين استرجاع الحق المنزوع من أصحابه من قبل نظام الأسد وبين مطالبات ترحيل أبناء الطائفة العلوية القادمين إثر الأزمة الخانقة في الريف السوري.

فقد شهدت السومرية في أواخر شهر آب مداهمات وأوامر إخلاء من قبل قائد فصيل يدعى أبو حذيفة، رفض بعض وثائق الملكية العائدة لحكم الأسد وعمل على وسم البيوت المحسوبة على النظام السابق بحسب اعتقاده، مما نشر حالة من الذعر بين الأهالي وتسبّب بنزوح أكثر من 19 ألف نسمة في غضون أسبوع. وعلى الرغم من توضيحات محافظ دمشق بمعالجة قضايا الملكية بدون تهجير وطرد قسري، إلا أن الإخطارات استمرت وامتدت لبعض الحالات الفردية في أرجاء دمشق. لم تتطور هذه الممارسات بعد إلى تهجير طائفي مُعلَن، وإنما مثّلت مؤشرات لتغيّرات قادمة في التوزّع السكاني.

لكنّ نمو الأحياء ذات الغالبية العلوية لم ينتج من سياسات النظام السابق في العاصمة وحسب، بل أسهمت أيضاً هجرة الريف إلى المدينة في تركّز العديد من العلويين في أطراف المدن، على غرار ما حصل مع باقي سكان الريف السوري. نشأت العشوائيّات إثر السياسات الجائرة للنظام السابق، حيث انفجرت ظاهرة الهجرة من الريف للمدينة من خلال سياسات إصلاح زراعية قائمة على تجزئة الممتلكات، تبعها إهمالٌ توافقَ مع تكريس ترييف المدن، وذلك في سياق استغلال المناطق المهمشة لتعزيز السطوة الأمنية للسلطة ومصالحها مع الطبقة البرجوازية بدلاً من وضع خطط إصلاحية تعالج المشكلة من جذورها. فبحسب تصريح لوزير الإسكان السوري، في جريدة الوطن عام 2018، شكلت ظاهرة السكن العشوائي في سوريا بين 40٪ و50٪ من مجموع السكن الكلي، مع تقديرات بزيادة السكن في دمشق لوحدها إلى 67٪ بين الثمانينات والتسعينات. كما أدّت إجراءات «ترييف المدن» ومشاكل الاستملاك الجائر والفساد العقاري إلى تعقيد الأوضاع وعدم وضوح سجلات الملكيات. تبدو اليوم الأحياء ذات الغالبية العلوية، التي نشأت بفعل السياسات الأمنية والعقارية السابقة، في مواجهة مصير معقد يهدد بإحداث تغيير سكاني، مما يستدعي معالجات قانونية عادلة تحفظ حقوق السكن والتملك للجميع، وتقطع الطريق أمام أي توظيف طائفي للأزمة.


عشوائيات دمشق

لقد شكلت العشوائيات في دمشق مسرحاً للصراعات السلطوية. وفي ظل استغلال هشاشة بنيتها الاجتماعية والاقتصادية، تم توظيف الانقسامات الطائفية والطبقية (ريف ومدينة) لاستهداف مختلف المجتمعات على حدّ سواء، العلوية والسنّية وغيرها، ما يعني تحولاً في الخريطة السكانية تبعاً لموازين قوى السلطة المتغيّرة.

لقد توزّعت العشوائيات في أطراف دمشق على نحو يعكس انتماءات سكانها الطائفية والأصول الجغرافية التي قدموا منها. ففي الأطراف الجنوبية، بدأت هذه الأحياء بالانتشار إثر النزوح القسري لأهالي الجولان المحتل والفلسطينيين. أمّا في أقصى شمال المدينة، فتستقرّ على سفوح جبل قاسيون تجمّعاتٌ سكنيّة للعلويّين والأكراد القادمين من مناطق مثل عفرين وقامشلو وغيرها. أما في الجنوب الشرقي، فتتركز مجتمعات مسيحيي درعا في دويلعة وبساتين القصاع، كما يقيم الدروز القادمون من السويداء في منطقة جرمانا، ويمتدّون إلى صحنايا في الغوطة الغربية. أمّا في مركزية دمشق، حيث ترتفع أسعار العقارات، فلا مكان للمهجرين قسراً أو لأبناء الريف إلا في طرفية جيب المدينة. فترى مساكن تحت مسمى «ملكيات على شيوع» بنيت على عجل من دون تراخيص رسمية، غالباً في أراضٍ زراعية، وهي تعاني من سوء البنية التحتية والخدمات المعيشية.


تُشكّل العشوائيات في أطراف دمشق نتاجاً متراكماً لسياسات التهميش الطويلة وموجات الهجرة الريفية، ما جعلها أسيرة للتوترات الاجتماعية والسياسية ومحرّكاً لمصالح أي سلطة. ودعوات الترحيل اليوم ليست إلّا  خلطاً بين الوجود العلوي المحسوب على النظام السابق وبين أحقية التواجد إثر هجرة الريف القاسية، والتي جمعت كلّ المكوّنات السورية. فدعوات الترحيل اليوم هي تكرار للممارسات التي تعرضت لها العشوائيات ذات الغالبية السنية سابقاً، ما يدلّ بدوره على أن هذه الأحياء هشّة أمام تقلّبات السياسة وتأثيرِها على التوزع الديموغرافي، ما يجعل دمشق في طرفيتها ممثلاً للصراعات السورية. 

الكسر مع النظام السابق يبدأ بتغيير التعاطي مع العشوائيات، وإلّا فنكون نكرّر النفَس الإقصائي ذاته.  

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً
الطفلة إيّان هُدم منزلها: وين نلعب؟ وين نعيش؟