تحليل دمشق
محمد علي الأتاسي

قبل فوات الأوان 

لا يزال إنقاذ دمشق القديمة ممكنًا

21 تشرين الثاني 2025

يأخذ العديد من مؤيدي العهد الجديد في سوريا على من يكتب وينتقد ويحذّر من مآل الأمور الكارثية على الصعيد العمراني والحياتي والمروري في مدينة دمشق، أننا معشر الكتاب لا نجيد الا النقد والتهويل من دون أن نقدّم أي حلول واقعية للمشاكل والتحديات العمرانية والبيئية والتنظيمية التي تواجهها مدينة دمشق بشكل عام، والمدينة القديمة بشكل خاص، منذ سقوط النظام.

لا أحد يمتلك اليوم عصا سحرية لاجتراح الحلول الناجعة لمشاكل بنيوية متراكمة تتناول الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعمرانية والبيئية لمدينة كدمشق، والتي بات عدد سكانها مع ريفها القريب بحدود 5 ملايين نسمة. فدمشق الخارجة للتو من سنوات طويلة من الاستبداد الأسدي والعقوبات الاقتصادية والنهب الممنهج وسوء التخطيط المديني وهجرة الريف الى المدينة والانفجار السكاني وتغوّل المضاربين والسماسرة والتدمير الوحشي لرئتيها الحيويتين، الغوطتين الشرقية والغربية، تحتاج على مستوى صناعة القرار إلى قيادات سياسية تمتلك التمثيل الشعبي الحقيقي النابع من صندوق الاقتراع، وإلى الكثير من التأني والدراسات المعمقة والمخططات التنظيمية المفصّلة والقوانين الناظمة والكوادر المؤهلة والميزانيات القادرة على إنقاذ المدنية من انهيار بنيتها التحتية وتفكك نسيجها العمراني والاجتماعي.


تاريخ من الجرائم العمرانية

لا شك أن النظام الحالي غير مسؤول مباشرة عن تدهور الأمور ووصولها إلى ما نحن عليه اليوم. فتعود المسؤولية الكبرى إلى نظام الأسد الأب والابن وما ارتكباه من جرائم عمرانية وتنظيمية بحق المدينة وسكانها، لا سيما لجهة فتح الطرقات العريضة داخل سوق ساروجا ومن حول محيط القلعة وترميمها الجائر وصولًا الى فتح الطرقات من حول  الجامع الأموي وتفريغ ساحته الغربية وهدم سوق المسكية والبيوت القائمة من حوله، والترميم الكارثي للجامع نفسه، وحفر اسم الأسد الأب على الكثير من حجارته ورخامه، والسماح للحكومة الإسلامية في إيران بتشييد أبنية ضخمة من الباطون المسلّح مزينة بزخارف فارسية في قلب المدينة التاريخي وفي انتهاك صارخ لتاريخ المدينة. والطامة الكبرى كانت في تحويل مكتب حماية دمشق القديمة، المسؤول المباشر عن وقف التعدّيات على عمران المدينة القديمة، إلى شاهد زور وشريك رئيسي في انتهاك دمشق القديمة وتمرير المشاريع التجارية والفندقية والمطاعم والمحلات التي لا تحترم أياً من قواعد البناء والترميم التي وضعها المكتب نفسه.

جامع وحوزة السيدة فاطمة الزهراء، والذي تمّ تشييده بالباطون المسلّح، برعاية إيرانية في قلب الشام القديمة على الشارع المستقيم. 

طبعاً هذا لا ينفي وجود الكثير من الأخطاء الكارثية والجرائم الكبرى التي ارتكبت بحق المدينة منذ الانتداب الفرنسي والى يومنا هذا، ليس أقلها قصف الفرنسيين للمدينة القديمة بالمدافع ابان الثورة السورية الكبرى في العام 1925 وتدمير أعرق أحيائها السكنية التاريخية، حي سيدي عامود، وتدمير جزء من قصر أسعد باشا العظم، ومن ثم تشييد حيّ حديث مكانه، بمخطط شطرنجي في قلب المدينة القديمة صار اسمه حي الحريقة. ولم يراعِ المخطّط التنظيمي الأول للمدينة الذي وضعه الاخوة دانجيه في العام 1936 بالتعاون مع ايكوشار ومن ثم مخطط ايكوشار نفسه في العام 1968، العلاقة العضوية بالمدينة القديمة، بأسواقها وحماماتها وبيوتها ودور عبادتها، وبالمدينة الحديثة وبمحيطها المباشر في الغوطتين. كما لم يقدموا حلولا مستدامة للحفاظ على المدينة القديمة أو للتعاطي مع توسع المدينة الجديدة والانفجار السكاني ودخول السيارات والمركبات لشوارعها ولتطور وسائل ومواد البناء وللحفاظ على سلامة حوضها المائي والسماح بمرور نهر بردى بفروعه كلها داخل أحياء المدينة التاريخية. 


قبل فوات الأوان

رغم هذه الصورة الكارثية والأوضاع المأسوية، بقيت دمشق التاريخية إلى اليوم قائمة على قيد الحياة، بالكثير من أسواقها وخاناتها ودور عبادتها وبيوتها ومعظم نسيجها العمراني والاجتماعي، على عكس ما حلّ بشقيقاتها من المدن الداخلية العريقة، كحماه وحمص وحلب التي نالت منها دبابات وقنابل وبراميل الأسدين الأب والابن. لا بل لا يزال من الممكن اليوم إنقاذ هذه المدينة القديمة وحمايتها وتكريسها كمقصد أول ليس فقط للسياح في سوريا، ولكن لأهل المدينة أنفسهم. لكن يحتاج ذلك الى قرارات عاجلة وخطوات استثنائية تضع حدًّا للتدهور المتسارع في بنيتها العمرانية والأثرية والبيئية والجمالية، وتحاول أن تجد الحلول المستدامة بالتشاور مع أهل المدينة أنفسهم ومع السلطات السياسية والمحلية ومع الخبراء والمختصين الدوليين والمحليين بأمور تخطيط المدن وحمايتها. 

وحتى لا نتّهم بحب النقد من أجل النقد، سنحاول بما يسمح به المجال هنا تقديم بعض الاقتراحات العملية الممكنة والإشارة الى بعض الأخطاء الكارثية التي ارتكبت ولا تزال ترتكب، والتي من الممكن إذا تم تفاديها، تجنيب المدينة مصيراً أسوأ.


إدارة حركة السيارات والدراجات النارية

أوّل هذه الأخطاء وأفدحُها هو السماح للسيارات والدراجات النارية بالدخول الى معظم شوارع وأزقة المدينة القديمة، بحيث بات المشي فيها، هذا إذا سمحت السيارات المركونة بذلك، بمثابة عمل انتحاري جراء سيْر الدراجات النارية المفاجئ والذي لا يراعي أي حق للمشاة في الشوارع. لقد بات من الضروري ان تكون معظم هذه الازقة والشوارع مخصصة للمشاة فقط، كما الحال في معظم المدن التاريخية في العالم، مع وجود بوابات مزودة بكاميرات وسنترال مركزي، تنظم حركة الدخول والخروج إلى المدينة القديمة، سواء لسيارات السكان القاطنين أنفسهم أو لتوريد البضائع للمخازن والخانات والمحلات التجارية والفنادق والمطاعم، أو للسماح لبعض السيارات الكهربائية الصغيرة ووسائل النقل العامة الصغيرة بنقل الزوار ونزلاء الفنادق ومرتادي المقاهي والمطاعم.


منع تحويل المدينة القديمة إلى نقطة عبور

لا بد من إعادة النظر وتنظيم العلاقة بين المدينة القديمة ومحيطها، بحيث يتمّ تجنيب تحوُّل المدينة القديمة ومحيطها إلى محور لحركة مرور السير العابرة من غرب المدينة الحديثة إلى شرقها ومن شمالها لجنوبها. كما يجب فتح مرائب للسيارات في محيط المدينة القديمة بحيث تسمح للقادمين إلى المدينة القديمة ركن سياراتهم بالخارج والانتقال مشياً أو استخدام وسائل النقل المتاح لها دخول المدينة القديمة.


مكتب حماية دمشق القديمة

كما لا بدّ من إعادة النظر بعمل مكتب حماية دمشق القديمة (مكتب عنبر) وأنظمته المرعية وكوادره العاملة، ليس فقط لاستئصال الفساد المستشري منذ أيام النظام السابق، ولكن لإعادة النظر في القوانين الناظمة لحماية الأبنية الأثرية والأسواق والبيوت السكنية. فالكثير من هذه القوانين ورخص الترميم باتت عاجزة عن مواكبة تطور النسيج العمراني وتبدّل وظائف العديد من الأبنية والأماكن العامة وتطوّر أساليب الرفع والترميم ومواد البناء المستخدمة. وبالتالي، بدل أن تكون هذه المؤسسة وسيلة للحفاظ على دمشق القديمة، باتت اليوم مدخلًا لتدمير المدينة القديمة وقوننة المخالفات الفادحة فيها، وتحويلها إلى أمر واقع، إذا لم نقل قاعدة عامة وعرفاً متداولاً.

النفايات المتراكمة جانب المدخل الخلفي لمكتب حماية دمشق القديمة (مكتب عنبر).

حماية الهوية المكانيّة والوظيفيّة

تتطلّب حماية الهوية المكانية والوظيفية للكثير من أحياء وأسواق دمشق القديمة دعم وحماية الكثير من المهن والحرف التقليدية التي تشكل هوية وروح المدينة القديمة. فاندثارها أو انتقالها إلى خارج أسوار المدينة يفقد دمشق الكثير من رونقها وهويتها. من الضروري أن تحافظ بعض الأسواق على تخصصاتها، مثل سوق البزورية وسوق الصاغة وسوق الخياطين والعصرونية وسوق النحاسين، ما يفترض بدوره دعم الحرفيين وتقديم تسهيلات ضريبية لهم وحماية شبكة العلاقات التي تربطهم بعضاً ببعض وبمورديهم وبزبائنهم. كما يفترض هذا إعادة تأهيل البنية التحتية للكثير من الأحياء والأسواق من ترميم واجهات خارجية ورصف طرقات وصرف صحي وإنارة ومياه شرب وجمع نفايات. وهذا بدوره يجب أن يقوم على  دراسة الجانب الوظيفي والاحتياجات لكل حي أو سوق وتخديمه بما يناسبه.

يكفي في هذا السياق أن نتأمل بما حلّ في السنوات العشر الماضية بحي القيمرية وشارعها الرئيسي الوادع، الرابط بين باب جيرون على أعتاب الجامع الأموي وصولًا الى جوار الكنيسة المريمية في شرق المدينة. فهذا الشارع الذي كان موزعًا بين دور العبادة والمدارس والمتاجر التقليدية لبيع الموزاييك الدمشقي ومشاغل ومناشر النجارين ومطعّمي الصدف الدمشقي، تحوّل خلال عدّة سنوات، وبتواطؤ من مكتب حماية دمشق القديمة، إلى شارع مزدحم بالبسطات والبضائع الصينية البلاستيكية ومحلات بيع الساندويش والحلويات والشاورما والمأكولات الشعبية، بحيث صار صعباً على المشاة العبور منه كما صار من المتعذر تخديم كل هذه المحلات بالبضائع والمواد الأولية. وبات من الصعب على البنية التحتية وحاويات القمامة وشبكة المجاري ان تستوعب الكمية الضخمة من النفايات والمياه الملوثة التي تلقي بها هذه المحال على مدار الساعة.


منع تأجير البيوت الأثريّة

يجب منع استخدام وتأجير البيوت الأثرية القديمة والخانات والمتاحف والقلعة التاريخية للأغراض الخاصة، مثل حفلات الزفاف أو تصوير المسلسلات التلفزيونية او البرامج الحوارية. بدأت هذه الممارسات الفاضحة في زمن النظام السابق واستمرت وتفشت في زمن النظام الحالي. وخير مثال على ذلك هو متحف وقصر أسعد باشا العظم، الذي تحول بقدرة قادر الى استديو دائم للبث المباشر وبات يغلق عدة أيام في الشهر في وجه الزوار ويؤجر لبث برامج حوارية تلفزيونية لصالح قناة الجزيرة او تلفزيون سوريا أو غيرهما من القنوات الفضائية. ولكم أن تتخيلوا حال هذا البناء العريق من القرن الثامن عشر عندما تستبيح باحاته وقاعاته منصات البث المباشر وأجهزة الإضاءة والكابلات والمولدات الكهربائية والتقنيون والمصورون والحضور الكريم المدعو لهذه الاستعراضات التلفزيونية. وكل الخوف أن يكون مصير خان أسعد باشا العظم مشابهاً لقصر العظم بعد أن تمّ اغلاق أبوابه للزوار، وبات الغموض يحيط بمصير استخداماته المقبلة.

بوابة قصر العظم المغلق لثلاثة أيام بسبب تصوير برنامج لتلفزيون الجزيرة.

حماية وترميم البيوت القديمة

لبيوتات دمشق القديمة وضع مغاير للعديد من المدن التاريخية العريقة كالقاهرة وبغداد وطرابلس. فالمدينة القديمة حافظت على نسيجها العمراني وبيوت سكانها التقليدية الى جانب أبنيتها الأثرية الكبيرة ودور عبادتها ومدارسها وخاناتها وحماماتها. والكثير من هذه البيوت التي يفوق عددها المئات، يعود إلى القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وتُعتبَر ثروة معمارية وفنية وجمالية لجهة باحاتها وقاعاتها وبحراتها ورخامها وسقوفها الخشبية ورسومها الجدارية. وقد وُضعت على العديد من هذه الأبنية علامات وإشارات اليونيسكو والمديرية العامة للآثار، منعاً للتعدي عليها او اجراء تغييرات جذرية في معمارها. لكن بات وضع الكثير منها مزرياً بسبب الإهمال وغياب الميزانيات المناسبة لترميمها، وكل يوم يمضي يزداد وضع هذه البيوت سوءاً من دون أن ينجح أحد في إنقاذها. 

مدخل بيت رفائيل فارحي/الدحداح مع إشارة الحماية من اليونيسكو.

ولنا في بيت رفائيل فارحي/الدحداح مثال. فهذا البيت الفريد الذي يُعتبر من أجمل وأهم بيوت دمشق اليهودية من القرن الثامن عشر، تمّ إغلاقه وهجره بعد موت صاحبه جورج دحداح، الأمر الذي أدى الى انهيار إحدى القاعات الرئيسية في البيت، والتي كانت من أجمل القاعات الدمشقية المتبقية. 

القاعة الرئيسية المنهارة في بيت فارحي/الدحداح والمعرّضة للعوامل الجوية.

كذلك هو الحال مع بيت لزبونة وبيت شمعايا وبيت نيادو/اسطنبولي في الحي اليهودي، ناهيك عن عشرات البيوت في الحي المسيحي، ومن بينها وأهمها بيت أنطوان شامية وبيت التاج الإسباني وبيت مشاقه وبيت القدسي وبيت شطا، وكذلك الحال مع بيوت القوتلي والنابلسي والجزائري والكزبري والسقا أميني في العمارة الجوانية وبيوت نظام والسباعي والقوتلي في حي الشاغور، وهذه الأخيرة تعهدت ترميمها في مرحلة ما منظمة الأغا خان، من ثم توقف المشروع وأُهملت، قبل أن تؤجر لتصوير المسلسلات التلفزيونية.

تصوير مسلسل تلفزيوني في بيت القوتلي في مئذنة الشحم.

التجربة الناجحة الأفضل في كيفية ترميم هذه البيوت والحفاظ عليها، كانت مع بيت العقاد بعدما وقّعت الحكومة الدنماركية مع الجهات السورية المختصة عقداً بترميم هذا البيت التاريخي العريق العائد الى الفترة المملوكية، واستخدامه في المقابل لفترة زمنية معينة كمركز بحوث وإقامة للباحثين المختصين بالدراسات الشرقية. وجاءت نتيجة الترميم غاية في الإتقان، وأعطت لهذا المكان الساحر عمراً جديداً وسمحت بإعادة استخدامه وبقائه قبلةً للزائرين. وفي ظل غياب الميزانيات التي تسمح بإنقاذ كل هذا العدد من البيوت المهدد بالانهيار، يجب تطوير تجربة بيت العقاد وتعميمها على العديد من البيوت لتأمين الميزانيات اللازمة لترميمها وحمايتها وإعادة استخدامها لغايات ثقافية وجعلها متاحة للزوار.


ضبط البسطات 

تشكل ظاهرة البسطات التي انتشرت في كل أرجاء المدينة القديمة واحدة من أكثر المشكلات المزمنة التي لا تعيق فقط حركة المارة والبضائع، ولكنها تشوه بصرياً وبيئياً العديد من الأمكنة وتعتدي على العديد من فسحات الفضاء العام، لا سيما من حول الأماكن الاثرية وعلى رأسها الجامع الأموي. ورغم محاولات البلدية إزالة هذه التعديات، إلا أنها سرعان ما عادت وبشكل أكثر فداحة وتعديًا على الآثار والاملاك العامة. ويكفي في هذا الإطار التأمل في صور البسطات في جانب بوابة معبد المشتري الشرقية التي تشكل البوابة الرومانية للحرم الخارجي لمعبد جوبيتر/المسجد الأموي، وهي مليئة بالكتابات الرومانية المهملة، والتي توضع عليها البسطات وتُبَخ الدهانات في إساءة فادحة لهذا الصرح الذي يفوق عمره الألفي عام والواقع على بُعد أمتار قليلة من مكتب عنبر المسؤول عن حماية دمشق القديمة وآثارها.     

بوابة معبد المشتري كما بدت في سبعينات القرن المنصرم (الدكتورة دورتيه زاك).

البسطة على حائط معبد المشتري الروماني على امتداد باب جيرون في الجامع الأموي، وتبدو الكتابات الإغريقية الرومانية في الأسفل خلف البائع.

الجامع الأموي

نأتي إلى حال الجامع الأموي الكبير في يومنا هذا، وهو أهم وأعرق وأقدم بناء في دمشق القديمة وله من الأهمية الرمزية والدينية والتاريخية والمعمارية ما يجعل منه واحداً من أهمّ معالم سوريا، إن لم يكن أهمها على الإطلاق. فهذا البناء الديني العريق الذي كان مخصصاً في العصر الوثني للإله بعل ومن ثم صار معبد الآلهة جوبيتر في العصر اليوناني الروماني ومن ثم تحوّل الى كاتدرائية بيزنطية، قبل أن يتحوّل في بداية القرن الثامن الميلادي على يد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك إلى واحد من أوائل وأكبر مساجد الإسلام.

تعرض البناء على مدى تاريخه الطويل، الممتد لعدة آلاف من السنين لزلازل وكوارث وحرائق عدة كان آخرها في العام 1893 حيث أتى حريق كبير على معظم سقف وقبة قاعة الصلاة، ودمّر الكثير من الفسيفساء الذي يغطي جدرانه ورواقه. نجح أهل دمشق وحرفيّوها بترميم الكثير مما تم تدميره. وجرى التدخل الأخير في بناء الجامع وشكله الخارجي واكسائه، خلال عهد حافظ الأسد الذي أمر بترميم الجامع وتدعيمه تحت إشراف محافظ دمشق آنذاك الدمشقي أيمن أبو الشامات، الذي نفذ الأمر بشكل جائر وكيتشيّ، لا سيما لجهة الواجهة الغربية، كما أنه نقش اسم حافظ الأسد على رخام الجامع في الكثير من المواضع على شكل طره كتب عليها «الرئيس المؤمن حافظ الأسد». وكان أول ما أزاله العهد الجديد هو اسم الرئيس الراحل من على جدران ورخام الجامع، ولا يزال رجاله إلى اليوم يكتشفون أماكن زرع فيها اسم الأسد كما حدث قبل عدة أسابيع في أعلى كرة نحاس مئذنة الجامع الشاهقة.

حاجز صحن الجامع الأموي الحديد.

كنا كشفنا في مقال مبكر عن حقيقة تكليف منظمة إغاثية تركية غير متخصصة، تدعى هاند، بإجراء عمليات الصيانة للمسجد وإدارة شؤونه اليومية وتنظيم آليات الدخول والخروج من بواباته الرئيسية، وأشرنا الى التعديات التي أصابت الجامع خلال العهد الجديد، لا سيما لجهة دخول الجنود مع سلاحهم ودخول سيارات البث التلفزيوني والمولدات الكهربائية الى داخل صحن الجامع، وهي انتهاكات تم ضبطها والتراجع عنها في الشهور الأخيرة، بحيث بات ممنوعا الدخول بالسلاح إلى حرم الجامع، كما منعت السيارات من انتهاك حرمة الجامع بعد تسريب فيديو لشخص يتجول بسيارته داخل الجامع بحجة تحميل نسخ من القرآن الكريم من مستودع يطل على رواق صحن الجامع.


صور لعائلات تفرّقت بسبب حاجز الأموي الحديدي.

لكن ما يبقى معلَّقاً وغريباً هو الاستمرار في فصل النساء المحجبات عن الرجال في صحن الجامع لأول مرة في تاريخ المسجد منذ 13 قرنًا. فلا طبيعة البناء نفسه في علاقته المتداخلة مع باحته الخارجية وبواباته المتعددة، ولا عادات أهل الشام ولا الشرع الإسلامي السائد والمعمول به ولا الممارسات الاجتماعية الدينية خلال كل هذه القرون الـ13 ارتأت مثل هذا الفصل وطبّقته، فلماذا يطبق اليوم وتحت أي حجة وتبرير؟ وهل باحة المسجد الأموي أهم من مناسك الطواف في الحرم المكي؟ إن هذا البناء الديني والتاريخي مع باحته الخارجية، هو قلب المدينة النابض ومركزها الأهم، وفيه وإليه تمضي جموع المصلين والزوار والسياح. ويكفي أن نتأمل اليوم عبثية المشهد عندما تتفرق العوائل الآتية لزيارة المسجد عن بعضها بعضاً لتلتقي في الداخل من على طرفَيْ هذا الحاجز الحديدي الصدئ، والذي تمّ فيه تقسيم الباحة الخارجية إلى جزأَيْن. وإن دلّ هذا على شيء، فعلى جهل وتعصّب وبيروقراطية من اتّخذ مثل هذا القرار البالي، الذي لا ينتمي لا للمكان ولا لتاريخه ولا لحاضره ولا لمستقبله. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً
الطفلة إيّان هُدم منزلها: وين نلعب؟ وين نعيش؟