خلال الأسابيع الأولى التي عدتُ فيها إلى أشرفيّة صحنايا في ريف دمشق، كنت أحاول إعادة بناء هذا المكان في مخيّلتي. أردت أن أرصد كلّ الطرائق التي دمّرت فيها الحربُ هذا الجزء من الريف. كانت قد بقيت بعض المحلّات والأحياء على حالها، لكنّها بدت لي كبلدةٍ مختلفة تماماً. يقول الجميع دائماً أنَّ الحرب قاسية، تدمّر كلّ شيءٍ في طريقها، تزرع الصحراء في كلّ مكان وتوقظ الأشباح النائمة. لم أرد يوماً أن أصدّق هذا الكلام، وكنت أخشى أنَّ العودة إلى بلدٍ مزّقته الحرب ستجعلني أقتنع بذلك غصباً عنّي.
حاولتُ أن أبدأ التخطيط بالأماكن التي أذكرها جيّداً. بعضها لا يزال على حاله، وبعضها مهجور. أنظرُ إلى بعض شرفات البيوت التي كنت أتردّد إليها، معظمها مهجورٌ أيضاً. لكنّ البلدة ليست فارغة. هذا الجزء من الريف ليس هادئاً على الإطلاق. تتلاصق الأبنية بعضها ببعض بطريقةٍ مبالغ فيها، فتجد نفسك وأنتَ في منزلك في منتصف شجارٍ بين جارتين، أو بحفلةٍ لعيد ميلاد، أو بحفل افتتاح مقهى يشبه كل المقاهي التي تجاوره. لا تشعر أبداً أنك تجلس لوحدك، حتّى إذا كنت كذلك. الصوت هنا مشترك، الأحاديث، والأغاني، وزمامير السيارات، وذلك الصوت الفظّ الذي تصدره الدراجات النارية.
لم أجد هنا الكثير من الدمار المادّي كما في باقي مناطق الريف. على بعض الحيطان والأبنية تبدو آثار الحرب والاشتباكات الأخيرة التي وقعت في نيسان. يبدو أنَّ الحرب قد انحسرت بالفعل، لكنّ علاماتها توزّعت في أعين المارّة. هذا الجزء من ريف المدينة مستعدٌ دائماً للتوتّر. كلّما حدثت اشتباكات، بعيدة كانت أم قريبة، تنعكس فوراً على وجوه الناس، تذكّرهم ربّما بكلّ الوقت الذي مرّ. يخيّم جوٌّ من الحذر، لكنّه سرعان ما ينحسر أيضاً، فترى الناس يتوافدون إلى صالونات الحلاقة أو إلى الدكاكين لشراء مشروبٍ بارد أو إلى صفّ انتظار الشاورما. تعود الحياة لتتسلّل دائماً إلى زوايا البلدة.
الشوارع مليئةٌ بأكياس النايلون والقمامة وغبار ورش العمار وتعفّن الزمن. هناك شحٌّ بالمياه والكهرباء وتدهورٌ حادّ بشبكة الاتّصالات. يصبح الشحّ هنا عادياً جداً. ليس غريباً أنَّ أحياءً شاسعة من هذا الجزء من الريف سيّئة التغطية لدرجة أنَّ إجراء أي مكالمة هو عملٌ شاق، يستدعي الوقوف على حافة الكنبة أو اللجوء إلى البلكون، من دون جدوى.
الشمس هنا قويّةٌ جداً، كأنّها وحدها التي تحكم هذه الأرض. في كلّ مرّةٍ تخرج فيها من المنزل، ستعود بأنفٍ أحمر، ولن يساعدك الواقي الشمسي بأيّ شيء.
هذا الريف مليءٌ بالمحلات. محلّات المفروشات والأثاث والسوبرماركات والبنزين الأخضر في غالونات المياه. على أطراف الطريق يجلسُ أطفالٌ مع غنماتهم، أحدهم يضمّ غنمةً صغيرة تكاد تكون بنفس حجمه، كأنّه لا يريد أن يبيعها حقاً، كأنّه يمسك أهمّ ما يملك. بين كلّ عشرين خطوة، هناك كشكٌ صغير يبيع الحلويّات أو ما تيسّر من الفواكه أو الدخّان. محلات الأجبان والألبان هي نفسها. كلّ المطاعم تبيع نفس الوجبات. كل سندويشات الدجاج لديها نفس الطعم، وكلّ الكوكتيلات تشبه بعضها أيضاً. لا أدري إذا كان ذلك إشارةً على اقتصادٍ ميّت، لكنّه بالتأكيد إشارةٌ على رتابةٍ تُعرّف هذا الجزء من الريف. هي رتابةٌ ليست مملّة، بل فيها الكثير من الثبات والطمأنينة والألفة. يتشارك الناس كلّ شيءٍ هنا.
السكّان هنا يحبّون الناس. ينظرون بقدرٍ متساوٍ من الاشمئزاز والترحيب. يحفظون بعضهم بعضاً بسرعة، ويميّزون الناس الجدد بسهولة. يتحدّثون إليك كأنّك تعرفهم منذ سنينٍ طويلة، قبل الحرب حتّى. ينكّتون معك في الباص أو المكرو وكأنّكم ضحكتم على نفس النكت في حياةٍ سابقة. كلّما اشتريتُ شيئاً، أعود بهديةٍ صغيرة، أحياناً تكون علبة طلاء أظافر من محلّ الهدايا، أو بسكوتة من الدكّان، أو قطعة كيك من المخبز. كلّ مرة أذهب فيها لأشتري أغراضاً للبيت، أسمع نفس السؤال، كيف ستحملين هذه الأغراض كلّها؟ وفي كلّ مرّة أجاوب أنّ منزلي قريب، لكنّ ذلك لا يمنع أصحاب المحلّات من أن يسألوني ذات السؤال في كلّ مرّة، وفي كلّ مرّة أجد السؤال لطيفاً.
البكاء صعبٌ هنا. ليس سهلاً أن تجد دموعاً في عينيك، إلا بسبب الغبار طبعاً. هناك شيءٌ جماعيّ يطغى على زوايا الشوارع، مشاعرٌ متساوية من الاستسلام والأمل. كأنّه عالمٌ موازٍ، فهو بعيدٌ عن ازدحام المدينة، لكنّه مزدحمٌ وفوضويّ أيضاً. لا يشبه الوقت هنا الوقت في أيّ مكان، أحياناً يكون أطول بكثير، وأحياناً يمضي بسرعة، كأنَّ الريف يعمل وفقاً لمنظومته الخاصّة من الزمن. ربّما لم تدمّر الحرب كل شيء، وربّما لم يقضِ الوقت على كلّ ما نجا من الحرب. بقيت هذه الزاوية من ريف دمشق كالشاهد المتآكل الذي لم يسقط. بعد كلّ هذا الوقت، يبدو أنّ هناك أمراً ثابتاً: عقدٌ اجتماعي بالتآلف، ربّما تآكل أيضاً ولم يبقَ منه سوى بعض الفتات، لكنّه لا يزال على قيد الحياة.