ليس الحنين مجرّد إحساس رومانسي فردي يروم استعادة ما مضى. في معناه الشائع، هو شعور بالأسف على أزمنةٍ انقضت وأماكن لم تعد موجودة، في الغالب أزمنة الطفولة وأماكنها، يُعاد استحضارها محمّلة بمعانٍ تُسبَغ عليها بعد حين، ولذّاتٍ يخترعها الفقد بعد فَواتها.
صعود الحنين
لكنّ هذا التعريف لا يكفي لفهم النوستالجيا كما تتبدّى في السياق اللبناني. فمنذ سنوات، يحتلّ الحنين حيّزاً متزايداً في الفضاء العام: في الصور المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، في استعادة الأغاني القديمة، في الفيديوهات المولّدة بالذكاء الاصطناعي التي تعيد إحياء مناظر وأساليب عيش لم تعد موجودة، في برامج البودكاست التي تستضيف وجوهاً فنية وإعلامية من الثمانينات والتسعينات، في التعليقات التي تكرّر لازمة «رزق الله». هنا، يتجاوز الحنين العاطفة الفردية ليصير أسلوباً جماعياً في الوعي بالزمن وآليةً لتنظيم العلاقة به في ظل هشاشة الحاضر وانغلاق المستقبل.
تسارع الحنين
ومع توالي الانهيارات وتسارعها، راحت المسافة تتقلّص بين الحنين وموضوعه، ولم تعد النوستالجيا تتوجّه إلى الماضي البعيد بل إلى زمنٍ لم يكد يصبح بعدُ ماضياً. من الحنين إلى بيروت الستينات، إلى الحنين لسنوات التسعينيات وما بعد الحرب، ثمّ إلى ما قبل الانهيار المالي وانفجار المرفأ، وصولاً إلى ما قبل الحرب الإسرائيلية الأخيرة، حيث بات الجنوبيون اليوم يحنّون إلى ما قبل سنتين لا أبعد، حين كانت دورة الحياة طبيعية وكانوا لا يزالون قادرين ببساطة على قطف زيتونهم. كأن الزمن لا يحتاج إلى أن يمضي كي نغترب عنه، وكأن هذا الشعور بالانفصال عن الحاضر نفسه هو ما يمنح النوستالجيا اللبنانية طابعها الوجودي. فنحن لا نحِنّ إلى ماضٍ محدّد، بل إلى إمكانية حياةٍ لم تعد ممكنة. النوستالجيا أيضاً طريقة لإدارة الكارثة في غياب مشروع سياسي موثوق.
حنين استباقي
ثمة كذلك شكلٌ آخر من الحنين يمكن أن نتلمّسه في فائض صور الطبيعة اللبنانية على فيسبوك أو انستاغرام وتكاثر الصفحات المتخصصة بنشر هذه الصور جبالاً وبساتين وقرىً وغابات أرز وصنوبر وبيوت قرميد وحارات قديمة تُنشر وتُشارَك بكل واسع. أبعد من مجرّد استعادة جمالية، تبدو هذه الصور أقرب إلى حنينٍ استباقيّ، إلى شوقٍ لشيء لا يزالُ موجوداً لكن الشعور بهشاشته وهشاشتنا يجعلنا نخشى فقدانه، فنتعامل معه كذكرى قبل أن يصبح كذلك. كل صورةٍ من هذه الصور تحمل نبوءةً بفقدها وحدساً ضمنياً بأن ما نصوّره في الحاضر قد أصبح ماضياً منذ الآن، وبأن كل هذا «قد كان»، بحسب تعبير رولان بارت في «الغرفة المضيئة». لا تؤرشف هذه الصور الماضي بل الحاضر نفسه، في إقرار لاواعٍ بأنه زائلٌ حتماً. النوستالجيا أيضاً ممارسة جماعية للحداد المسبق.
اقتصاد الحنين
لكن على تنوّع أزمنته وموضوعاته، يمكن أن نميّز في الحنين بشكله اللبناني النوعين اللذين تحدّثت عنهما سفيتلانا بويْم في كتابها المرجعي (The Future of Nostalgia (2001. بحسب بويم، ينبغي التفريق بين نوعين من النوستالجيا: من جهة، هناك الحنين الترميمي (Restorative Nostalgia) الذي يبحث في الماضي عن حقيقة ما، عن أصل مفقود. هذا الحنين ذو نزعة يوتوبية ماضوية ينظر إلى الماضي بوصفه زمن الصفاء والبراءة، وغالباً ما يدور في فلك مشروع سياسي وثقافي محافظ يسعى إلى إعادة بناء الماضي كما لو كان بالإمكان استعادته فعلاً. إنه خطاب «لبنان الحقيقي» الذي وعدتنا به فيروز وظلّ وعداً، لأن «كل اللي راحوا راحوا».
ومن جهة أخرى، هناك ما سمّته الحنين التأمّلي (Reflective Nostalgia) الذي، على العكس، لا يطمح إلى استعادة الماضي بل إلى الإقرار بالمسافة معه، والاعتراف بالفقد كجزء من التجربة الإنسانية. هذا الحنين لا يقدّم أجوبة، بل يطرح أسئلة: ماذا خسرنا؟ وما الذي يبقى ممكناً؟ إنه وعي نقدي بالذاكرة، ومقاومة ضدّ النسيان الذي هو رهان كل سلطة لتثبيت هيمنتها، وليس مشروعاً لإعادة بناء أسطورة. الحنين هنا ليس إنكاراً للفقد، بل وعيٌ به وربما طريقة لاحتماله.
على هذا التقاطع بين الحنين التأمّلي والحنين الترميمي، تتشكّل اليوم في المشهد اللبناني بنية رمزية أوسع يمكن تسميتها اقتصاد الحنين، وهي منظومة عاطفية وثقافية تعيد الجماعة، أو الجماعات، من خلالها تنظيم علاقتها بالزمن والماضي والهوية.
اقتصاد الحنين هذا ليس إذن مجرّد مجموع أفرادٍ يستعيدون لحظاتٍ من أزمنةٍ مضت (كثيرٌ منها لم يعيشوه فعليّاً بل ورثوه بالتواتر). ما يحدث هنا هو أن الجماعة تُعيد صناعة ذاكرتها الجماعية لتسكين قلقها. فالذاكرة لا تُستدعى كما كانت، بل تُعاد صياغتها بما يخدم حاجة الحاضر إلى المعنى والاستمرارية. مع كل انهيار جديد، وبعد كل كارثة، تُنتَج سرديّة جديدة تعيد ترتيب الماضي وتشكيله وانتقاء لحظاته المضيئة بما يتناسب مع الحاضر. بهذا المعنى، تصبح الذاكرة نفسها بنية رمزية تحفظ الجماعة من التفتّت، وتحوّل الفقد إلى سردية قابلة للاحتمال. إنها لا تحافظ على الماضي بقدر ما تعيد كتابته، فتُخضعه لشروط اللحظة الراهنة.
هكذا قد تتحوّل الذاكرة المدموغة بالحنين إلى مشروعٍ لإعادة بناء وطنٍ خياليّ، لا يسعى لحفظ الماضي وتأمّله بقدر ما يقدّم صورةً عنه تُهدّئ الخوف وتعيد تعريف الذات. في هذه اللحظة السياسية الدقيقة، يلتقي هذا النزوع العام مع ما يسمّيه فيليب فورست «إيديولوجيا إعادة البناء»، أي الرغبة في إغلاق المعنى بسرعة بعد انهيار السرديات القديمة، وصياغة يقينٍ جديدٍ يُسكّن القلق الجماعي.
فالفراغ السياسي والرمزي الناتج من انهيار مشروع الممانعة صعب الاحتمال، سواء على أنصاره أو خصومه. والطبيعة لا تحبّ الفراغ، لذا يظهر الحنين أشبه ما يكون بآلية دفاع جماعية في وجه الانهيارات المتلاحقة. لكنه يغدو إشكالياً عندما يستدعى الماضي لملء هذا الفراغ من دون عملٍ نقديّ، أي حين يتحوّل إلى أسطورة مريحة تخدّر القلق الجماعي. فبين نزوع عدميّ نافٍ للسياسة ومتستّر بخطاب المقاومة من أجل المقاومة مهما كانت النتائج، من جهة، ومحاولات أسطرة الماضي اللبناني على طريقة «الزمن الجميل» والدعوة إلى إعادة إحياء هوية لبنانية أصيلة سابقة لمشروع المقاومة الإسلامية لتسكين القلق الحالي، من جهة أخرى، ينفتح الباب لنزعاتٍ لا تخلو من طابع ماضوي محافظ لن تفعل إلا معالجة الكارثة بالكارثة.