تعليق الحرب على لبنان
حسن مبارك

أكثر من حجارة

حين تنقضّ الحرب على الذاكرة

4 حزيران 2025

إذا نظرت إلى بقايا منزلٍ مهدّمٍ، سترى كومة من الحجارة والحديد. لكن ما تنظر إليه حقًا هو ذكريات الناس مرمية على الأرض، كجثة مُثِّل بها. هذه خلاصة جولة قمت بها بعد أيّام من انتهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان، شملت الضاحية الجنوبية لبيروت وجزءًا من الجنوب.


إلى الضاحية دُر

أن ترى الدمار بعينك يختلف تمامًا عن مشاهدته على التلفاز أو الهاتف. منظر غريب للغاية. تقع عينك على مبنى تهدّم بالكامل، ثم تبصر آخر دُمّر نصفه عموديًا، كاشفًا ما كان يستره الجدار. وآخر هُدمت طوابقه العليا، فسلّمت كل طابق إلى الذي تحته. إلى يسارك مبنى شبه مقلوب، حافَظَ على هيكله، ولم تتهاوَ جدرانه. أما المشهد الأبرز، فكان لمبنى انهار جزؤه السفلي، فاستقر الطابق الأخير على الأرض كما هو، ليغدو هو الطابق الأرضي.

وحدها الجرافات ستنهش ما بقي من الأبنية الناجية. ومن المضحك المبكي أن البعض يغبط أصحاب البيوت «نصف المهدّمة»، فقد نجا لهم شيء من الممتلكات.


التمسّك بالأمل

صادفت خلال جولتي عائلةً مجتمعةً أمام ما كان يُسمّى بيتًا لهم. كانوا ينتشلون من تحت الركام بعض ما تبقّى. السيد رضا، أب لأربعة أولاد، اثنان منهم في الخارج، حدّثني بألم رغم تماسكه:

- يا ضيعان… هيدا البيت إجوا إمي وبيي عليه، الله يرحمهم، وكبِروا ولادي فيه. بس شو بدنا نعمل… ليك شو بقي…

وأشار إلى بعض الدمى القديمة، على شكل حيوانات، أنقذها ليغسلها ويحتفظ بها. بعضها بحالة جيدة، وبعضها أصيب بحروق من الدرجة الرابعة.

- هيدا الباندا لمحمد علي، وهوي إبني الكبير. جبنالو ياه بس كان عمره سنتين ولعبوا فيه كل إخواته. صرله عنا فيك تقول... 32 سنة. وهيدا الراديو جبتو معي أيام كنت بالسعودية...

الألعاب، الصور، والأغراض الشخصية ليست مجرد أشياء، بل محفّزات عاطفية تعيد تفعيل الذكريات وتمنح إحساساً بالاستمرارية بعد الصدمة. لذا، يُعتبر الاحتفاظ بها كأحد أشكال «الارتباط الرمزي»، وهي آلية دفاعية نفسية تساعد الفرد على التكيّف مع الخسارة عبر الحفاظ على رابط مادي مع الماضي.

 أما زوجته، السيدة ريما، فكانت تبتسم. علّقَت بعد أن أبديتُ إعجابي بروحها العالية رغم الخسارة:

- شو بدنا نعمل؟ بالحجر ولا بالبشر… ولكن سرعان ما دمعت عيناها واستدركت: يا ريت طلّعنا الغراض قبل القصف، كلها ذكريات. ما توقّعنا يضربوا، ما في شي. أكتر شي مقهورة عليه هو الهارد ديسك، في عليه صور ولادي هني وعم يكبروا. إن شاء الله يطلع، هني وعم يشيلوا الردم.
- على الله يا حجة...

أمل في كومة قشّ

ينتظر الناس موعد رفع الأنقاض، بحثًا عن بقايا أثاث أو مقتنيات رمزية. غالبًا ما تُسلّم الأبنية لمتعهّدٍ يرفع الأنقاض مجانًا مقابل الحديد الذي يجمعه. تصعد الجرافة فوق الركام لتفتيته، غير مكترثة بما تبقّى للناس من أمل، وكأنها تطلق رصاصة الرحمة على الذكريات.

بعض الناس كانوا أوفر حظّاً، فوجدوا كتبًا، ألبومات، ملابس، وأغراضًا شخصية. آخرون لم يجدوا شيئًا، أو حتّى أنّهم اكتفوا بجرّة غاز. لا يتعلّق الأمر بالحظ فقط، بل أيضًا بجودة البناء (الأبنية الحديثة تحافظ على زوايا آمنة)، وطريقة التخزين (الحقائب وفّرت بعض الحماية)، ورحمة سائق الجرافة.

المأسوف على جدرانه

يتعامل الناس مع بيوتهم المدمّرة كأنها فَقيد. كما يحتفظ الناس بتذكارٍ من الراحلين، احتفظ كثيرون بمفاتيح بيوتهم تخليدًا لذكراها. وكما تُنشر صور الشهداء على وسائل التواصل، امتلأت الصفحات بصور البيوت المهدّمة.

فقدان المنزل يمكن أن يؤثّر على الدماغ بطريقة تشبه كثيرًا فقدان أحد أفراد العائلة المقرّبين. فكلاهما ينشّط مناطق في الدماغ مسؤولة عن التعامل مع الألم العاطفي والمشاعر الاجتماعية، مثل اللوزة الدماغية (Amygdala) والقشرة الحزامية الأمامية (Anterior Cingulate Cortex). هذا يمكن أن يؤدّي إلى حزن شديد وصعوبة في التحكم بالمشاعر.

غريبة هي الحروب، تكشف كم نحن متعلّقون بفكرة «البيت». يتجمّع الناس حول بيوتهم المدمّرة وكأنهم في مأتم. يخيّم صمتٌ مهيب، كمن يزور قديسًا أو مقامًا روحيًا. لا تدري مَن يواسي مَن: أهو البيت يخفّف عن أهله؟ أم هم من يواسونه؟ أهو يقول لهم: «سامحوني، حاولت أن أبقى»؟ أم هم يقولون: «ليتنا فعلنا أكثر»؟

كثيرة هي الأشياء التي نفقدها، لكن قليلة تلك التي تفقدنا.
هذه البيوت واحدة منها. تنتظر أهلها، وكأنها لا تعلم أن أحدًا لن يعود. لم تشفع لها خصوصية الذكريات التي احتضنتها، ولا السنوات التي كبر فيها أصحابها تحت سقفها. الذكريات وحدها تصمد في وجه الصاروخ.

فوق ركام أحد الأبنية المهدّمة، تعلّقت صدريّة سوداء بشريط كهربائي، تتدلّى في صمتٍ مروّع. لم تنجُ من القصف، لكنها بقيت شاهدة، كأنها تسخر من كل شيء. من معنى الإنسان حين يُقتلع من بيته، ومن القدر الذي يمرّ فوق أحلامنا دون أن يلتفت. بيتٌ تهدّم، وحلمٌ تلاشى، وما تبقّى سوى قطعة قماش تُلوّح كأنها تسأل: أين ذهب كل شيء؟ 

في مجتمعنا، خصوصًا بين كبار السن، تكثر الأسئلة عند اللقاء: «كيفك؟ كيف الأهل؟ كيف الشغل؟». سلسلة لا تنتهي. لكن في الجنوب والضاحية والبقاع، ساد سؤال جديد بعد الحرب: «كيف البيت؟ إن شاء الله ما صار له شي»؟

القرية المنكوبة

بعد الضاحية، اتّجهت إلى بلدة الطيبة الحدودية التي شهدت اشتباكات عنيفة خلال الحرب. أعرف الطيبة جيدًا، فهي قريتي. غريب هذا الخليط: جمال الجنوب الساحر، وسواد الحرب الذي جعل القرية كأنها عصف مأكول.

أين الساحة التي كان يجتمع فيها الناس؟ أين البيوت الوادعة؟ أين القصور المهيبة؟ حتى البيوت التي نجت من القصف، لم تسلم من الحرق المتعمّد على يد الجيش الإسرائيلي. بعض الطرقات جُرفت عمدًا لإلحاق الأذى. منزل جدي، حيث عاش والدي طفولته، تهدّم جزئيًا. ووجدنا فيه مقذوفين من مخلفات الحرب. أما بيوت أقاربنا، فهُدمت بالكامل. حتى الحسينيات، دُمّرت. زرت قبر جدّتي، لأجد أنّ المقبرة قد طالتها يد الحرب. أزلت الركام عن شاهد قبرها، رميتُ نظرةً، ومشيت.


إذا التقيتَ يومًا بمن فقد بيته، عانقه. ما خسره ليس مجرّد بناء. فالركام الملقى على الأرض أكثر من حجارة، إنه شظايا ذكريات، ماضٍ ومستقبل. وإن أُعيد إعمار البيت، فمن يُعيد الذكريات التي كانت في كل زاوية؟ قاسية هي الحروب، قاسية بحق. ليت الزمن توقّف قبل الحرب. هذه أمنيتي، وربما أمنية كثيرين.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
عائلة أبو صامد تحيي ذكرى تغييبه
04-07-2025
تقرير
عائلة أبو صامد تحيي ذكرى تغييبه
غانم ومرقص:
04-07-2025
تقرير
غانم ومرقص:
الإعلام المُضلِّل ووزيرُه
حدث اليوم - الجمعة 4 تمّوز 2025
04-07-2025
أخبار
حدث اليوم - الجمعة 4 تمّوز 2025
ريف اللاذقية يحترق
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 7/4/2025
المساعدات الإسرائيلية الأميركية لغزّة: طحين ممزوج بالتراب