شاي تقيل وقرفة. فرنش برس. تركي. دبل اسبريسو. لاتيه. شاي أخضر. أميركاني.
سبعة زبائن كلَّ صباح. أتعرّف عليهم يوماً بعد يوم، طلباً تلو طلبٍ، وموقفاً تلو موقفٍ.
وهذه هي القصّة الثامنة من «الزاوية»، مقهًى ما زال قيد الافتتاح.
نهارٌ جديد، زبائن جدد.
اتّفقتُ مع جنى ليلاً أن نبدأ بتقديم أطعمة خفيفة في المقهى. وجدنا أن الأكلَ مربحٌ بقدر القهوة لو اعتمدنا ثلاثة أطباق فقط، واشترينا مكوّناتها يوميّاً. سمّيتها وصفة أبو حسن، وهو مطعم صغير خلف بيت أهلي، بمحاذاة طريق الشام في الجرد. كان سناك أبو حسن يقدّم السندويشات الرخيصة لسائقي الشاحنات الباحثين عن لقمة سريعة ونظيفة.
البعض يرى أن السعر والنوعية مرتبطان ولكن أبو حسن كان خير مثال على عكس ذلك. كان يشتري مكوّنات 300 سندويش من اللحّام جارنا ومحلّات الخضرة في ساحة القرية، يتوجّه إلى السناك عند الثامنة صباحاً، ويقفل عند الثانية عندما تنتهي مؤونته. لا يمكنك الطلب مسبقاً، لا يوجد سندويشات دجاج، وصحن البطاطا مجّاني. في ما يتبقّى من النهار، كان أبو حسن يقضي وقته مع أبنائه السبعة. نصفهم يُساعدونه في السناك قبل الظهر، والنصف الآخر منكبّ على الدراسة. بنى أبو حسن من ربح هذا السناك الصغير ستّة بيوت، واقتنى ما شاء من سيارات.
كلّما سأله أحدٌ ما هو سرّه، أجاب سريعاً: اربح قليل، بيع كتير، سكّر بكّير.
- لكان قهوة بو حسن!
أقنعتني جنى بالفكرة وارتاح بالي من الناحية المالية أوّلاً، ومن الناحية «الريشيّة» ثانياً. لِمَ القلق من المنافسة؟ فريد لم يردها حرباً أصلاً. خطّطنا سريعاً، وغفوت قبل جنى.
فتحنا المقهى صباحاً وأعددتُ إبريقَ أميريكان، وسهوت أخطّط.
- بتعرفي؟ ليش جبنا كراسي مريحين نحنا؟
- شو ليه جبنا كراسي مريحين؟
- انو مثلاً في ناس كتير بترتاح وبتقعد كلّ النهار ع فنجان قهوة واحد.
- ايه وفي ناس بتطلب
- متل؟
- متل هول تبع الـngo. ع فرصة الغدا كل يوم
- هول ما بيقعدوا كل النهار… هول هيك زبونات دوّيمة
- طيّب الدوّيمة، ع شو بتسايرهن هلقد إذا ما عم يطلبو شي؟
- أنا بساير الكلّ مش بس الدوّيمة، مش متلك مكشّ
- ما أنا كمان بساير الكلّ شو مكشّة؟
- ك جنى كلّ الزبونات قادرين يشوفوا قدّيش بتكرهيهم
- كيف؟
- كيف؟ لأن بتزيديها وبتضحكيلهن أوڤر… مبيّنة...
- طيّب… خلّيني استلم الطبخ والأكل وانتَ الزبونات
- مش ضروري هيك
- لأ خلص نفصل. حاجي عاجقين بعض. أنا ببكّلها بالأكل وانت بالحسابات والزبونات، ومنشوف.
تحدٍّ إذاً؟ موافق. الملعونة تعرف مفتاحي. قفزَت خلف البار وبسطَت يديها عليه.
- هيدا البار إلي.
- البار؟
- انو اللي وراه. الحدود هي البار.
- طيّب فينا بس ع الحدود نشتغل سوا؟
- أوقات، حسب إذا في توتّر بالأجواء
قفزتُ خلف البار بدوري، ودفعتُها بخصري إلى أن اتّكأَت على المجلى.
- هلّق. سكّر الباب. ما بتسترجي.
صحّ، ما بسترجي. تعرفني جيداً. حياتنا الجنسيّة لم تعد على حالها بعد الحرب. تغيّر شيءٌ ما. أفكّر أحياناً أنّ الخوف من أجواء القصف والحرب هو أقوى من النشوة الجنسية. أعني بذلك أنّ الشعور قويٌ لدرجة استحالة تخطّيه، حتّى بالجنس… لا أدري… ربما هذه حجّة أخرى لأبرّر نفسي.
«دايماً ما إلك جلادة»، تقول جنى، ولكنّها تبالغ. إمّا نائم، وإمّا متعب، وإمّا بعد الأكل وإمّا قلِق. عدا عن ذلك، أكون جاهزاً.
دخل سامي وتبِعته منال. سلّما على عجل و جلسا سويّاً. غريب. استغلّت جنى الفرصة وانسحبت نحوهما.
- رح نبلّش نعمل أكل عالخفيف وسلطات، فإذا بدكن شي، رح نكتب كل يوم هون ع الحيط شو عاملين.
- لازم تعملو ديليفري.
- سامي حبيبي روق علينا شوي
- ايه عنجد تاني شي بتعرف قدّيش بياخدو apps الديليفري؟ نصب.
- ايه عادي. هيدا البيزنس.
سامي يا سامي. لا يرتَد ولا يُناقش. ضحكَت منال فانتعش سامي. أخلت جنى المجال لهما وخرجت لتدخين سيجارة. صوَّرَت المقهى من أكثر من زاوية، وأرسلتهم لي مع رسالة «نزّلهم مع المنيو ع إنستاغرام يلا». ابتسمتُ وفتحتُ موبايلي، فباغتنا زبونٌ جديد. اقتحم المكان وكأنّه يبحث عن شيءٍ ما. دخلَت جنى خلفه بسرعة.
- مرحبا عندكن حمّام؟
- أكيد تفضّل
أنقذتُ حياته. شرايين رقبته كانت على وشك الانفجار. أغلقَ البار وراءه بعنف وأقفله بسرعة قياسية. أعرف هذه الحركة جيّداً. استبقته ورفعتُ صوت الموسيقى وعاد كلٌّ إلى قهوته. خرجَ بعد خمس دقائق مختلف الملامح، شكرني وطلب شاياً أخضر، فلبّيته. جلس في زاوية المحلّ بمواجهة سامي ومنال محاولاً التلصّص على الحديث من دون أن ينجح. عاد إلَيّ وجلس على كرسي البار.
- شو معلّم سمعتوا الضربة عالضاحية ع العيد؟
- شوي ايه.
- شو قولك رح ترجع الحرب؟
- والله ما بعرف شريك… بدّك سكَّر؟
- لا شكراً… أنا بقول ما رح ترجع.
- انشالله خير.
- شو… ما عبالك تحكي؟
- لا بس حديث الحرب صار متكرّر كتير وآكلين خرا بكلّ الأحوال.
- وأيّا… ليك طب شو رأيك بترامب؟
- طيبين الشايات؟
- شكلك ما بتحبّ ترامب.
لن يرتدّ.
- هاها لأ مش هيك… ترامب كزلمي أو كرئيس؟
- التنين.
- خرا.
- همم… طب بتعرف شو عامل الزلمي قبل ما تحكي هيك عنّه؟ مين غيره بيعمل اللي عم يصير؟
تنهّدتُ وابتسمت.
- آن ما رح تردّ؟ لأ بلا أخلاق بالمرّة انت.
نظرتُ إلى جنى التي كانت تفتح عينَيها بما معناه ألّا أردّ. فأجبته متجاهلاً ما قاله للتو.
- ع بالك أكل أو شي؟ رح نبلّش نعمل أكل شوف المنيو ع الحيط.
رمقني بنظرة فوقيّة. رمى خمسة دولارات على البار متأفّفاً، وخرج وهو يتمتم.
- أيري بهالمحلّ، رح روح ع كافيه الريش. ع القليلة في AC و شطّافة.