فكشن
سلسلة
الزاوية
عمر ليزا وكارن كيروز

11: ريحة حشيش

3 آب 2025
شاي تقيل وقرفة. فرنش برس. تركي. دبل اسبريسو. لاتيه. شاي أخضر. أميركاني.
سبعة زبائن كلَّ صباح. أتعرّف عليهم يوماً بعد يوم، طلباً تلو طلبٍ، وموقفاً تلو موقفٍ.
وهذه هي القصّة الحادية عشرة من «الزاوية»، مقهًى ما زال قيد الافتتاح.

كنت جالساً على كرسي المرحاض عندما وصلتني رسالة نصّية من صاحب الملك:
- ريحة حشيش طالعة من شقّتكم والجيران بدهم يحكو الدرك.

هبط قلبي بين رجليّ. بالكاد ندخّن جنى وأنا، فقلق الحشيش أكبر من سردته أحياناً. وحتّى لو، أبوابنا معزولة وموصدة بإحكام. أنا متأكّد لأننا لم نحسّ ببرودة المكيّف إلا بعد أن أغلقنا كلّ منافذ أبوابنا بالإسفنج والمردّات المطّاطية. من المستحيل أن نكون مصدر الرائحة. ناقصني هلّق؟

خرجتُ أدقُّ الباب على جاري فشممت الرائحة في البهو. ارتحت نسبيّاً. طبعاً لسنا مصدر الرائحة. طرقتُ باب جيراني جميعهم، يعني خمستهم، ولكن أربعة فقط خرجوا.
- مرحبا جيران، عفواً ع الإزعاج، بس شامّين الريحة؟ هيّاه بابي مفتوح، فوتوا تمشّوا… من وين جايي هالريحة؟

الغريب بالموضوع أنّ الرائحة أقرب إلى البخّور من الحشيش. أعواد البخّور بالتحديد، والتي راجت آخر عشرين سنة، حين سافر معظم أصدقائي إلى الهند وبالي ليجدوا «أنفسهم»، ولم يجدوا سوى أحقاد دفينة على بعضهم بعضاً وبضعة أعواد الإنسانس. حاوَلَت إحداهنَّ إقناعي بعد عودتها أنّ كلمة «إنسان» أصلها «إنسانس» وأنّنا لسنا سوى رائحة عابرة في هذا الكوكب. فهمتُ الفكرة رغم غبائها، ووافقتُ حينها.

ولكن لماذا استنفر الجيران؟ ومَن هو الجار الذي اخترعَ هذا الموضوع؟ مَن هو الجار الذي لا يرغب بي؟ رَدَّتني الرائحة عشر سنوات في الزمن، عند لقائي جنى للمرّة الأولى في مخيّمٍ للموسيقى في الجبل. كنتُ في الثالثة والعشرين من عمري، مندفعاً، شاباً، أربط شعري وأرخي لحيتي. بوهيميٌّ من قريتي، ومن بيروت، الملجأ آنذاك. رأيتُها جالسة تراقب من بعيد. جلستُ بقربها وتحدّثنا عن الموسيقى. طال الحديث وانسحبنا ببطءٍ نحو خيمتنا حيث وصلنا الليل بالنهار. لم نفترق منذئدٍ. أكثر ما وطّد علاقتنا كان الحديث عن شبابِنا الضائع في هذه البلاد. شبابٌ يحلمُ بالمستحيل، ورغم ذلك، نمضي. «عنزة ولو طارت». سمّينا الطموحَ والإصرارَ عناداً وتَيَّسْنة، وقرّرنا ألّا نفترق.

سحبتُ هاتفي كي أُطلعها على المستجدّات، وأقنعتُ الجيران بالنزول إلى مقهى «الزاوية» كي نتكلّم، وبالأحرى، تفادياً لوقوع مشكلةٍ أكبر. وافق الجميع. اتّصلتُ بجنى:
- نازلين الجيران يشربوا قهوة عنا. خلّينا نعمل شي ضيافة… بجبلك شي معي؟
 - الجيران الجيران؟ تبع البناية؟ في كايك.
 - إيه، هلّق بخبرك بس أنزل.
- ما تحرقصني.
- بعتّلك سكرينشوت، شوفيه… يلا، جايين.

رافقتُ كمال، أوّل جار، فيما استأذن البقية ليلحقوا بنا بعد أن يلبسوا. كمال وأنا نزلنا بثياب البيت. هو في الأربعين من عمره، يكره الموسيقى الصاخبة، لكنّه لا ينزعج، كل أحد، من موسيقى شانتال الآتية من الشقّة المقابلة.
- شانتال حلوة كتير يا زلمة.
- شو؟
- شانتال، جارتنا.
- آه، إيه إيه، شو؟ بتعجبك؟
- إيه، بس لو ما مجوّزة…
- شو خيي كمال، من قلّة النسوان؟ جارتك المجوّزة؟
- صح صح، معك حق.

وصلنا إلى القهوة. وجدنا شانتال وبقيّة الجيران هناك.
- جينا بسيارتي، تما نعرق.
تنهّد كمال ببطءٍ ظاهرٍ، وبالطبع، تمنّى لو أتت شانتال بعرقها.
دخل الجميع تحت نظرات سامي ومنال المستغربة، واستقبلتهم جنى.
- يا أهلا بالجيران، اتفضّلوا.

أقعدتُ كمال أبعد ما يمكن عن شانتال، وحضّرتُ القهوة بالنيابة عن جنى. 
- لكان… من وين قولكن الريحة؟
- أنا بشكّ بالمنوَر، في ريحة عم تطلع من تحت أو شي.
- بس ليش ع مَيلة وحدة مش كلّ الطابق؟
- صح في فسحة الزبالة بالمنور ع اليمين وع الشمال… ليش بس ميلة الشمال الريحة؟
- بدكن نركّب كاميرا لنطمّن راسنا؟ وننطر كم يوم…
- ليش لأ

انتهت الجلسة بشكلٍ أبسط ممّا توقّعت. قدّمت القهوة للجميع، وخرج سامي لتدخين سيجارة على طاولة الرّصيف. هيدا دوّيم؟ سألَني كمال بفضول.
- ايه
وهيدي؟ مشيراً نحو منال.
- كمان
همهم وهزّ برأسه. منيح… في إجر يعني…
قدَّمَت جنى الكايك للجميع واستقبَلت المديح على طعمه المميّز.
- مممم! شو طيّب ولو؟!
- الحلو بدّه نَفَس.
 (اشتريناه البارحة بأربعة دولارات من السوبرماركت).

سمعتُ سامي يتجادل مع أحد المارّة ونظرتُ صوبه فرأيت عروق رقبته تكاد تنفجر وهو يدخل إلى المقهى.
- زياد بتجي شوي؟
نظرتُ إلى جنى بابتسامةٍ خجولة واستأذنت من الجيران مع أنّهم كانوا قد استرسلوا بالكلام ولم يأبهوا. خرجت لأجد رجلاً قصير القامة يرتدي بزّة شبه عسكرية وحذاء رسمي لا يليق أبداً بزيّه.
- مرحبا
- أهلا أؤمرنا؟ شو في صاير شي؟ انت جيش أو…
- أنا شرطة بلديّة.
- آه أهلا… قلّي في شي؟
- في قصّة الطاولة ع الرّصيف… ما فيك ممنوعة
- شو ممنوعة؟
- ممنوعة.
- ما كل مار مخايل هيك، الجميزة، مرحبا رصيف… شو باك يا زلمة… تاني شي أنا مقفّي وطاولة وحدة
- ايه بس بالقانون ما فيك… مين قلّك ما بياخدوا ظبوطة بمار مخايل؟
- ايه وبيضلّوا يعملو هيك؟
- ما دام عم يدفعوا الظبط، ما في مشكل.
- حلو كتير… طيب شو الحل؟
- فوّت الطاولة
- يا عمي شو فوّت الطاولة؟ أنا مين عم ضايق؟ ليك قهوة الريش ستّ طاولات عندن
- وفاليه، أضاف سامي.
- صحّ وفاليه…
- ايه بس كافيه الريش بالرخصة معه حقّ استثمار بالرصيف
- شو؟! ما فيه منّا هيدي.
- آه عم تشارعني بالقانون؟
- لأ عم تستهبلني؟
- بتعرف شو؟ رح أعملك مخالفة، وبتدفعها بالبلديّة. تمام؟
سحب دفتر الغرامات وبدأ بالكتابة. تأفّفت وضحكت ساخراً مع سامي.
- بتعرف شو؟ بدفع الظبط، يسواني ما يسوى مار مخايل.

ناوَلني محضر الضبط وركب موتوسيكله مبتعداً. قرأتُ الغرامة وفهمتُ جدّية الموقف. لم تكن غرامة عابرة يمكن إلغاؤها بخصم 90 بالمئة بعد أن تتكدّس لسنوات. كانت غرامة بـ300 دولار على أن تُدفع في غضون عشرة أيام.

لماذا استثناني؟
300 دولار كسرة.
من دزّه علَيّ؟ 
أكان يمكنني تفادي كلّ هذا؟
شعرتُ بالقلق يتسلّل لأطرافي مجدّداً. ناقصني أنا؟ حشيش وبوليس وضبط وجيران لا يؤتمن لهم. كان المخطّط أن نبدأ بالربح هذا الشهر. الطاولة الخارجية كانت تجذب بعض السواح والآن ستكلّفني غالياً.
كيف يفعلها كافيه الريش؟

سلسلة

الزاوية

شاي تقيل وقرفة. فرنش برس. تركي. دبل اسبريسو. لاتيه. شاي أخضر. أميركاني.
سبعة زبائن كلَّ صباح. أتعرّف عليهم يوماً بعد يوم، طلباً تلو طلبٍ، وموقفاً تلو موقفٍ.
هذه قصص «الزاوية»، يوميات مقهى ما زال قيد الافتتاح.

5: ليش هوّ مش نحن؟ | فكشن
4: مصمّم عقاري | فكشن
3: بطل السلم وبطل الحرب | فكشن
6: قهوة الريش | فكشن
1: بوتين اله مصلحة | فكشن
2: ممنوع التكلّم بالسياسة | فكشن
9: بسين في زمن النووي | فكشن
8: زياد يحسم: «يا راسي يا راسه» | فكشن
10: حين أصابَ السهمُ قلبي لم أمُت لكنّي متُّ حين رأيتُ مَن رماه | فكشن
7: جنى وأنا | فكشن
13: ملك الحي | فكشن
12: مَن هو الخائن بيننا؟ | فكشن
16: بالشمع الأحمر | فكشن
15: رحلتي من «قهوة الزاوية» إلى «بار الزاوية» | فكشن
14: كلّه أندر كونترول | فكشن

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً