فكشن
سلسلة
الزاوية
عمر ليزا وكارن كيروز

16: بالشمع الأحمر

12 تشرين الأول 2025

شاي تقيل وقرفة. فرنش برس. تركي. دبل اسبريسو. لاتيه. شاي أخضر. أميركاني.
سبعة زبائن كلَّ صباح. أتعرّف عليهم يوماً بعد يوم، طلباً تلو طلبٍ، وموقفاً تلو موقفٍ. وهذه هي القصّة السادسة عشرة —والأخيرة— من «الزاوية»، مقهًى ما زال قيد الافتتاح.


حاولتُ مراراً محو الفكرة من رأسي ولم أستطع. مديراً لقهوة الريش بعد كل هذه الأحداث؟ أخبرتُ جنى بعرض فريد. لم تتجاوب. جلَست على ضفّة التخت وربَطت شعرها.

- يعني أنا بستلم لحالي «الزاوية»، وانت بـ«الريش» بـ3,000 دولار؟
- لاه لاه انسيها… منكفّي هون عادي لا مدير ولا ريش…
- والمصاري؟
- بتجي.
- وبتروح.
- بس أنتي برأيك ما بترجع تجي؟
- مبلا…
- تمام
- و بترجع بتروح ع حضرتك
- هههههههه

سمعنا «شي فاشل» الأسبوع الماضي، مسرحية زياد. وجنى لا يمكنها التوقّف عن تقليد السيد نزيه، ولا يمكنني إلا المجاراة.

- بتجي المصاري، فتحنا بالليل… شفتي شكلك مبارح؟
- خلص؟ مضمونة؟ شو عاد قلّك موسى؟ بدنا رخصة أو في شي توليفة؟
- ما بعرف بعد… بس لهلق ما شي…
- مبارح فلّ مبسوط.
- ايه… بس لأن قرط سكرة… انشالله ما يعملنا تليفون بعد شوي بس يصحصح.
- لا لا بتصوّر حَبّ… قضّى كل الليل يحكي عن القورما.
- معقول كيف بلّش ياكل من المرطبان؟ هههههه

رنَّ هاتفي. إنّه فريد. الساعة السابعة صباحًا. خير؟ لن أُجيب. أغلقت الخطّ وتقلّبت قليلًا في الفراش، محاولًا أن أُطيل آخر لحظاتي مع جنى قبل النهوض. أرسل لي فريد رسالة صوتية.

«أول شي مرحبا ريّس زياد. تاني شي ما بعرف إذا وَصّلك الرئيس موسى… بعتقد إيه؟ مبارح كان عندك، لأ؟ المهم، ردّ عليّي خبر بس تاخد قرار… وبعد شغلة، عندكن كهرباء بالقهوة؟ لأنو مقطوعة بكل الحي. الموتور واقف، والزلمة تبع الموتور عمر، ما عم يرد. عكل حال… رد عليّي خبر… كان معك فريد».

«كان معك فريد». متنا من الضحك.

- خلّيني انزل شوف شو قصة الكهربا.
- بيكون عطل من الموتور… إذا ما رح يدور قلّي لإنزل جيب كل شي بده براد لهون. ونزّل المراوح والبطاريات وهيك
- بعدهن عنا؟
- ايه شو دافعين شي ألفين دولار بالأزمة عليهن، منكبّهن؟
- لاه بس كنت ناسي… يلا أنا نازل.

قفزتُ من السرير وارتديتُ ملابسي سريعاً. تركتُ أوّل فنجان قهوة للزاوية. سأدخل إلى الحمام هناك أيضاً. التقيت بعد خروجي بجواد، موظّف البلدية وكلبها الوفي.

- مراحب
- أهلا معلم زياد والله جايي كنت إمرق عالقهوة، عم نزبّط الموتور بس قلّي الريس خطّك ما رح يطوّل، توصّى فيك
- ههه سلّمن
- يلا انشالله ساعتين زمان ماكسيموم بتجي.

أكملتُ سيري ووصلت إلى القهوة وبدأتُ بتفريغ البرّاد وتوضيب اللحوم وكل ما يمكنه أن يتضرّر في أكياس. لا أثق بالريّس موسى ولا بجواد ولا بالدولة كلّها. هاتفتُ جنى أن تُخلي برّاد البيت من الخضار لنفسح المجال.

الفرق بين برّاد بيتي وبرّاد بيت أهلي الذي ترعرعتُ فيه هو المساحة الفارغة. لم يمتلئ برّادي قط، هناك دائماً مساحة لأغراض إضافية، عكس براد أهلي. أتعجّب كيف كان يعمل من دون انقطاع، خدمنا 11 سنة قبل أوّل تصليحة. كانت أمي تضع البنّ والدخان في البراد، وكنت أعتقد أن ذلك يساعد في أن تكون صبحية القهوة أكثر إنعاشاً. برّادي في المطبخ كسائر الناس، ولكن برّاد أهلي في غرفة السفرة خارج المطبخ. كنت أعتقد أيضًا أن هذه الموضة عند جيل أهلي هي للمجاهرة بالبراد، كونه كان اختراعاً حديثاً نسبةً لهم. ولكن اتّضح لي في ما بعد أنّ البيوت القديمة لم تكن تأخذ البرّاد في الحسبان بتصميم المطبخ. كانت طاولة سفرتنا لا تكاد تفرغ من الناس أو الأكل أو القهوة حتّى تمتلئ مجدداً. أشتاق إلى هذه الفترة أحياناً. ولكن أعود وأتذكّر أنني كنت طفلاً، وكانت أمي هي من يطبخ ويمدّ السفرات والقهوة والحلويات لأبي وأصدقائه.

عاشت لأجلنا. من هذا المنطلق تفاديتُ قدر الإمكان أن أكرّر هذا الأمر. في بيتنا، إمّا أرتّب الطاولة أنا وجنى، وإمّا لا نرتّبها من الأساس.

اتّصل بي فريد من جديد.

لم أشرب قهوتي بعد. يمكنه الانتظار. حضّرتُ القهوة وبعد أول رشفة، أقفلتُ باب المقهى وذهبتُ فوراً إلى الحمام. أرسل فريد رسالةً صوتيةً أخرى. سمعتها مع صدى الحمّام ورنين قساطل المياه في الحيطان. كلّ حيطان بيروت رقيقة أو فارغة، لو رآها معلّم جورج من الضيعة لكان ليُبربس ويلعن ويسبّ بيروت وحيطان بيرون الـ من ورق.

تعرّفتُ على الأرق بسبب جدران بيروت. كان نومي خفيفاً جداً. كان يُوقِظني صوتُ قسطل مياه جيران في حائطِ الحمّام، حتى اعتدتُ توقيتَه. كنتُ أعرف متى يمرضون، ومتى يخرجون، ومتى يعودون، من تبدّل وتيرة هذه الأصوات. عندما كانت تزداد، كنتُ أتخيّل جاري يتلوّى في بيته وفِراشه من الإسهال، كما أنا أتلوّى من الأرق، فأرتاح وأغفو. فتحتُ رسالة فريد.

« أبو الزيز… ليك رد عليي بس فيك عن الموتور اذا جايي الكهرباء أو كيف… ماشي؟ وبخصوص تاني موضوع أنا كمان ناطرك والعقد جاهز… بس بدّك ترد ع تيليفونك تصير. ماشي؟ يلا مدير ناطرك بس رد عليي بس تشوف المسج لأن عم تبيّن أونلاين عندي فبلاها هالمنيكات».

ليش معصّب؟ قلت في نفسي. جنى وأنا حافظنا على هدوئنا. أين هدوء فريد الذي أعرفه؟ سأجيبه بعد الظهر. أعود وأفكّر في الـ3,000 دولار. أهذا هو الشيطان الذي يتكلّمون عنه؟ أو هو طمع؟ أو طموح؟ أتتني الفرصة لأرفضها؟ وجنى؟ سوف أجيبه بعد الظهر. خرجتُ من الحمام ورأيتُ جنى مقبلة فأخبرتها عن فريد.

- دخلَك ليش هلقد معصّب وحايص؟
- ما بعرف انو شو أوّل مرة بينقطع من الكهرباء؟
- ليك ايه بركي
- ههه صح
- بركي ما بيعرف يدبّر حاله
- بركي معوّد غيره يدبّرله حاله
- هههه… طيب رح تاخذ هالوظيفة عنده؟

رنّ هاتفي. انه الريس موسى. أجبت بسرعة.

- مرحبا ريس
- مراحب أبو الزيز… ليك مفروض تجي الكهرباء عندك هلق… شفلي، إجت؟

(تكَّت ساعة الكهرباء وبدأ أنين البرّاد وماكينة القهوة)

- ايه إجت هلّق 
- ايه تمام مشي الحال
- آه خلص؟
- لاه بس عندك وعند كم حدا… الباقي لبكرا… بتعرف… الموتور ما فيك دغري تحمّله. بدّك شوي شوي.
- آه أوك طيب… ميرسي كتير ريس
- ولو. تكرم عينك. رح إمرق عليك هاليوميين.
- يا أهلا وسهلا.

عدّى النهار من دون أن أردّ على فريد وتخيّلتُ نفسي موظّفاً في «الريش» بعد كلّ هذا العناء. أفرغتُ برّاد البيت وأعدت الحليب واللحوم والأجبان إلى «الزّاوية»، قبل أن نقلبها إلى بار. انتهى أيلول وبدأت الشمس تغيب باكراً. أوّل خريف في قهوة الزاوية. امتلأت القهوة عند المغيب باللون البرتقالي لخمس دقائق قبل أن تغيب كلّياً. مرّ الوقت بسرعة شديدة والتهيت بجنى وشعرها ونظّاراتها في الشمس، كأنّني أراها للمرة الأولى. فتحت التليفون لأصوّرها فراسلني سامي.

دخلت إلى تيكتوك: مستحيل، وجدت الأمر نفسه. فيديوهات تُطالب بإغلاق «الريش» ومُطالبات بالتوضيح. ترَكت جنى المقهى وخرجت تركض نحو «الريش». مستحيل. لهذا لم يتّصل بي مجدّداً فريد. عادت جنى بعد دقيقة.

- زياد ما في حدا! مسكّر! ولا دومري!
- مسكّر مسكّر؟
- مقفّل منزّل البواب. ليك صوّرتلّك
- أوف ليك مفوّت الآرمة كمان 
- أو آخدها معه…
- يه يه يه

وقفت خلف البار أتخيّل الريّس موسى يدخّن السيغار في صالونه وفريد فاقداً أعصابه في سيّارته، يبحث عن أي محامٍ يمكنه تجنيبه بعض الغرامات، لأنّ «قهوة الريش»… انتهت.

دخلَت جنى وراء البار، وتبِعها سامي ومنال وبعض الزبائن الليليين الجدد.

أخذني سامي على جنب وهمس لي:

- بكرا بده يجي بعد أسوأ من فريد… الانتخابات سنة الجاي والريس موسى منَيشن.

ضحكت له، وقبّلت جنى.

- بدّك تتركني كان وتصير مدير ايه؟
- حدا بيصرله يشتغل معك بيشتغل ضدّك؟
- شو بهلة انت عنجد هاهاها
- هاهاها

سلسلة

الزاوية

شاي تقيل وقرفة. فرنش برس. تركي. دبل اسبريسو. لاتيه. شاي أخضر. أميركاني.
سبعة زبائن كلَّ صباح. أتعرّف عليهم يوماً بعد يوم، طلباً تلو طلبٍ، وموقفاً تلو موقفٍ.
هذه قصص «الزاوية»، يوميات مقهى ما زال قيد الافتتاح.

5: ليش هوّ مش نحن؟ | فكشن
4: مصمّم عقاري | فكشن
3: بطل السلم وبطل الحرب | فكشن
6: قهوة الريش | فكشن
1: بوتين اله مصلحة | فكشن
2: ممنوع التكلّم بالسياسة | فكشن
9: بسين في زمن النووي | فكشن
8: زياد يحسم: «يا راسي يا راسه» | فكشن
10: حين أصابَ السهمُ قلبي لم أمُت لكنّي متُّ حين رأيتُ مَن رماه | فكشن
7: جنى وأنا | فكشن
11: ريحة حشيش | فكشن
13: ملك الحي | فكشن
12: مَن هو الخائن بيننا؟ | فكشن
15: رحلتي من «قهوة الزاوية» إلى «بار الزاوية» | فكشن
14: كلّه أندر كونترول | فكشن

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً