فكشن
سلسلة
الزاوية
عمر ليزا وكارن كيروز

بوتين اله مصلحة

27 نيسان 2025

شاي تقيل وقرفة. فرنش برس. تركي. دبل اسبريسو. لاتيه. شاي أخضر. أميركاني.
سبعة زبائن كلَّ صباح. أتعرّف عليهم يوماً بعد يوم، طلباً تلو طلبٍ، وموقفاً تلو موقفٍ. وهذه هي القصّة الأولى من «الزاوية»، مقهًى ما زال قيد الافتتاح.

شاي تقيل وقرفة. كانت هذه الطلبيّة الأولى لليوم، كلّ يوم، منذ أن افتتحنا القهوة.
باعت جنى سيارتها ووضعتُ أنا كلّ مدّخراتي، وفي شارعٍ ضيّقٍ من شوارع بيروت، وجدنا كاراجاً مهجوراً فرمّمناه. اشترينا الكراسي من مطعمٍ كان سيقفل قريباً، وتوفّقنا بكرسي الحمّام والمغسلة من الأوزاعي. «لقطة وحياتي ما الك عين تستعملهن. أنا إلي شهرين بتفرّج عليهن. يلّا طلعوا من نصيبك».

أمّا ما تبقّى من ماكينات وعدّة القهوة، فطلبناه قبل الحرب من تركيا ووصل قبل بضعة أسابيع عبر البرّ، بعد أن فُتحَت الحدود. استلمتُ الدوام الصباحي فيما فضّلت جنى دوام بعد الظهر.


شاي تقيل وقرفة

أتى في اليوم الأوّل صوب الساعة العاشرة وطرق باب القهوة.
- صباحو، فاتحين جديد؟
- ايه تفضّل.

تفضَّلَ وجال في المكان وهو يدندن أحد مقاطع «إسوارة العروس» لفيروز. عرفتها فوراً لرواجها مجدّداً بعد الحرب. جلس على يمين البار، على طاولة لشخصٍ واحد، وراقبته يبحث عن الوضعيّة المناسبة كي يقضي صباحه. أخذ مخدةً صغيرةً ووضعها خلف ظهره وبرم الكرسي بحيث يكون ظهره نحو الحائط، وجهه نحو البار، ويمناه على الطاولة.نقر بأصابعه على سطح الطاولة، مرّتين، ثلاث مرّات، وكأنّه محتار في ما سيطلب، ولكنّه يعرف بالضبط: شاي ثقيل وقرفة.
- عودان قرفة إيه؟ مش كياس.
- أكيد.

لحسن الحظ كانت لدينا العيدان. أعددتُ الشاي، وضعته أمامه، وعدت إلى البار. سكب وزاد ملعقة سكّر وبدأ يحرّك.
- شو قولك؟ عم يقولوا بوتين رح ياخد شقفة من سوريا، وتركيا شقفة، وإسرائيل شقفة والسوريين بيقسّموا - الباقي ع بعض…قولك مزبوط؟

أردت ضبط نفسي ولكنّني لم أستطع:
- بوتين ما إله مصلحة.
لكنّه لم يضحك.
- ولك كيف ما إله مصلحة؟
الصبح لك والمجد لك يا ربّ.
- ما إله مصلحة بيقلّي… وبوّابة الشرق الأوسط؟ لمين بيتركها؟ للأميركان؟ ولك بس ياعمّي أنا عم قلّك، إله مصلحة ونصّ. مبارح كنت بالحمرا. حديث موثوق عم قلّك.

لو كان الحديث موثوقاً بالفعل لما كان ليأخذ برأيي. 
- كلّه سانن سنانه ما تخلّي حدا يلعبلك بعقلك… ليه الجولاني؟ هيّن الجولاني؟
- وأيّا.

وأيّا. أفضل إجابة لكلّ حديث غير مرغوب به. لم أكن أريد المشاركة في حديث أساساً، توقّعته أن يضحك على «بوتين ما إله مصلحة» ولكنّ الظاهر أنّ رأيه جاهز سلفاً وليس بحاجة للحديث. عال. تركته يرتشف شايه الصباحي وانصرفت إلى قهوتي التركية وراء البار. حدّقت بالركوة النحاسية وشردت، ولكنّني لم أتحمّل السكوت.

- ليك ما فهمت عليك.
- شو اللي ما فهمتو؟
- انت مع مين يعني؟
- مع مين؟… أنا... مع الحق تقبرني ما بعرف… بركي فهمتني غلط.
- حبّ شو باك ما في غيرنا بالقهوة، شو مع الحق يعني؟ هلّق مزبوطة زلمة داعش يحكم سوريا؟
- لا مش مزبوطة، بس شو يعني بيضلّ بشّار؟
- شو يا طخّه يا اكسرله مخّه؟ وليك كمان بشّار كان وكانت رايقة آخر كم سنة.
- ايه رايقة تمام… بتعرف ليه رايقة؟ لأن ما كان عم يعمل شي، لا دولة لا اقتصاد لا جيش ولك كلمة كل هالسنة ما حكي عن اسرائيل. كلمة. ما عم قلّك يضرب صواريخ منيح؟ بس احكي يا زلمة…
- إيه عأساس الي إجا بعده رح يضرب… يحّو شال إيده من أوّل نهار…
- مين باله فينا يا عمّي…
- انشالله خير شو بيعرّفني

نظرت الى الخارج و أدرت ظهري. لم أكن مستعدّاً لهذا الكم من الحماس.

هل استعجلنا بافتتاح القهوة؟
أمس انتهت حرب لبنان من دون أن تنتهي. وسقط النظام في سوريا. لم يتسنَّ لنا حتى الحداد على شهدائنا، وسقوط بشّار «خطف وهج» حرب لبنان. لم يتسنَّ لنا استيعاب ما يجري. تناوبنا أنا وجنى على نوبات القلق لمدّة ثلاث أشهر بينما كان الجميع يتهافت على تحليل السياسة والدمّ وتصفية الحسابات هنا وهناك. لم نرتح بعدها.

هل استعجلنا بافتتاح القهوة؟
شربت بقية الفنجان. غسلته ووضعته بالمقلوب على ماكينة الإسبريسو. سحبت جوّالي لأشاهد فيديوهات المحرَّرين من السجون السورية. صور وقصص تقشعرّ لها الأبدان بينما بعض إعلاميّي النظام السابق يتهافتون للتكويع:
«كنّا عارفين نظام الأسد قاسي، بس مو هالقد وبهالوحشيّة».

أوك ماشي حبيبي.


نسيت للحظة أنّ القهوة ليست فارغة.
ربع ساعة مرّت من دون أن يسحب جوّاله. يشرب الشاي بصمت بينما يراقب الشارع ويهزّ رأسه إيجاباً ويضحك بمفرده. خطر لي أن أمازحه و لكنّني تذكّرت بوتين. ما الي مصلحة امزح معه. سبقني وسأل قبل أن ينظر نحوي: 
- كنّا عم نفكّر بإعادة الإعمار قال. صار بدّن يعطوا المصاري لسوريا… وبيقولولك كيف بيخوت الواحد.

قالها وضحك ضحكة غيّرت بعضاً من حكمي عليه. سحب ثلاث ورقات مئة ألف ووضعها على الطاولة قبل أن يرفع سرواله ويتّجه نحو الباب.
- يلّا عال شو بدّن يلحّقوا الأوروبيّي ليلحّقوا؟

خرج وهو يقهقه قبل أن أسأله عن أسمه.

سلسلة

الزاوية

شاي تقيل وقرفة. فرنش برس. تركي. دبل اسبريسو. لاتيه. شاي أخضر. أميركاني.
سبعة زبائن كلَّ صباح. أتعرّف عليهم يوماً بعد يوم، طلباً تلو طلبٍ، وموقفاً تلو موقفٍ.
هذه قصص «الزاوية»، يوميات مقهى ما زال قيد الافتتاح.

مصمّم عقاري | فكشن
ممنوع التكلّم بالسياسة | فكشن
بطل السلم وبطل الحرب | فكشن

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
جوليان أسانج يحمل أطفال غزّة إلى مهرجان كان 
باريس تستضيف حفل مغنّي الإبادة 
طلاب كولومبيا يقاطعون رئيسة جامعتهم: الحرية لمحمود خليل
الاحتلال يُرهب 25 دبلوماسياً على مدخل مخيّم جنين 
وزير الخارجية الأميركي: التواصل مع الشرع أو الحرب الأهليّة
البرلمان الإسباني يحظر تجارة الأسلحة مع إسرائيل