شاي تقيل وقرفة. فرنش برس. تركي. دبل اسبريسو. لاتيه. شاي أخضر. أميركاني.سبعة زبائن كلَّ صباح. أتعرّف عليهم يوماً بعد يوم، طلباً تلو طلبٍ، وموقفاً تلو موقفٍ.
وهذه هي القصّة العاشرة من «الزاوية»، مقهًى ما زال قيد الافتتاح.
بعد أن قرّرنا الاستثمار بالأكل وحوّلنا المقهى إلى نصف مطعم، ملأت يافطات قهوة الريش الشارع:
«القهوة عليك والترويقة علينا»
أخبرني سامي أن أكلهم ليس ألذّ من أكلنا فصدّقته، ولم أعر الأمر أهميةً. صار لمقهانا زبائن و«صار في إجر». سامي يتنقّل بين دكاكين وقهاوي الحي ليجمع لنا القصص اليومية. منال تُخبرنا عن عملها وعن التناقضات التي لا تُحتمل، وأحمد بالكاد يتكلّم ولكن يطمئنني وجوده. فراس أو فارس، لا أذكر بالضبط، يطلب قهوته مع حليب ويدخّن سيجارته واقفاً كل يوم قبل أن يتجرّع باقي الكوب ويشتم وهو يخرج. يقلقني أحياناً عندما يأتي ويكون مرتاحاً. صديقة منال، صاحبة تاتو السمكة والتنين، اسمها يمنى. تتردّد أكثر من قبل وتتودّد أكثر من قبل. الله يستر. جنى تغار كثيراً ومنال حليفتها. سامي لا يُعتمَد عليه لأنّه يهوى منال وينتظر أي فرصة ليجاملها. الله يساعدني. أجاملها كما أجامل كل الزبائن، وحتّى أقل، لكنّها لا تترك فرصةً إلّا وتورّطني، بينما منال تراقب وتدوّن.
سمعتُ أطراف حديثهما اليوم كما أسمع كلّما يجتمع صديقان في القهوة. صحيح، في الأمر قليل من التطفّل والاستراق، ولكنّ الملل أقوى من الاحترام. تكلَّمَت اليوم عن نومها الثقيل، وعن فساتينها التي بدأت ترى فيها الثقوب بعد تغيير ماركة الملطّف. كابوس، قالت لمنال. ليت كل الكوابيس كهذه. حصَلَت على وظيفة جديدة بعد أن طُردَت من شركة إعلانات ولم توضّح لمنال سبب الطرد بل قالت إنّه حان الوقت. انتقلتُ كي أسترق السمع إلى زبائن آخرين. معظم الأحاديث شخصيّة جدّاً إلى حدّ الملل. صمتَت يمنى لثوانٍ فتدخّلتُ لأُفرغ الطاولة والمنفضة وسألتها عمّا تريد أن تأكل. سألَت منال أيضاً فتحمّست، وسألَتني يمنى: شو عندكن ترويقات طيبة؟
كأنّها تتحدّاني. حان وقت الجَدّ.
- عنا سلطات وسندويشات وحلو
سلطات في تبّولة، فينا نبدّل البرغل بكينوا إذا بدك
في فتّوش فرمة ناعمة
في غريك سالاد مع تويست
وفي سيزر سالاد مع كروتون صاج بدل الافرنجي
ألقت جنى بكوعَيها على البار ونظَرَت صوبي بفخر. الشيف زياد خارج المطبخ هو سايلز مان زياد. محّصت يمنى نظرتها صوبي ثم سألَت:
- وسندويشات شو في؟
- في ليستا طويلة، بدّك تبع الترويقة أو تبع كل النهار؟
- خبّرني أكتر عن تبع الترويقة
- عندك مشكلة مع البيض؟ أو الحليب؟
- ما عندي مشكلة مع شي، إنت؟
- يمنى بدّك كفي شرح المنيو أو خلص؟
- ههه لا لا كفّي سوري.
كتبَت الخيارات أمامها واستشارت منال فيما تطلب.
- طيب رح اترككن شوي تقرّروا و برجع
ما أغربها. لماذا كتبت الخيارات والمنيو مُتاح؟ ربّما أنّها من هذا الصنف الذي يكتب ويرسم رسمات عبثية على قصاصات ورق صغيرة عندما يجري اتّصالاً طويلاً. هكذا كان يفعل أبي. يبدأ بمربّع صغير ويزرع في داخله بتأنٍّ دائرةً صغيرةً، ثم مربّعاً آخر في داخلها، وبعده دائرة أصغر ومربّعاً آخر… يعتقد المرء أنّها رموز ماسونية من بعيد. عندما كبر في السن غيّر عاداته. أصبح يرسم خطوطاً متوازيةً مستقيمةً على طول الصفحة. أعتقد أنه كان يريد امتحان نفسه بعد هذه الكبرة، «ألا تزال خطوطي مستقيمة؟ هل أسطر زياد مستقيمة أكثر من أسطري؟».
كان يمكنني أيضاً تبيان طول المكالمة وحدّيتها من كمّية الأسطر واستقامتها. مقياس ريختر للمكالمات الهاتفيّة. تركتُ منال ويمنى وذهبت إلى جنى.
- شو؟ قرّروا؟
- لأ بعد… ليكي بلّشت تشوّب منيح خلّينا ندوّر الـAC
- بركي تكّت؟
- شو بركي تكّّت؟ آخدين عشرة أمبير، عم ندفع 350 دولار.
- طيب لنجرّب
- أصلاً جرّبنا أوّل ما ركّبناه ومشي
- ايه بس كانت كهربة دولة وقتها
- ايه بس كان معه ساعة عيار وكنّا عم نسحب تسعة أمبير
- طيب هه دوّرناه، لنشوف.
تكّت السّاعة. انقطعت الكهرباء.
- ولك كس اخته حظّي أنا.
- روق وطّي صوتك، الهاوس أوتوماتيك رح طفّي الـAC
- لاه طفّي مكنة القهوة شوي بس للتقليعة
- زياد ما فينا نطفّي مكنة القهوة بتصير طعمة القهوة غير
- ولك مين بعد رح يشرب؟ الساعة 12. ياخدوا أميريكان
- طيب رح طفّي بس احكي عمر تبع الموتور… مش منطق
انتبهت يمنى للحديث.
- شو بعصكن تبع الموتور؟
- شوي
- أنا بشغلي الجديد هيك صار أوّل نهار، بعدين خلص اشتروا موتور لإلهن…ليه ما بتجيبو انتو موتور؟
- ما بيكفّي الصغير
- طيّب جيب كبير
- الله كبير يا يمنى… قرّرتوا شو عبالكن؟
- لأ عم بحكي جدّ، أو بحكي الشّغل عنّا يمدّلكن شريط.
- لاه شو شريط… مندبّرها ما تعتلي همّ.
- طيب عراحتك، يعني ما في AC اليوم؟
- مبلا مبلا
- ممم طيب عطيني اسبريسو دوبيو هلّق ومنشوف شو مناكل
- ممم ما ما في اسبريسو هلّق بدّك أميريكان؟
- آه لأ خلص منشوف.
همَست لمنال. ضبضبَت أغراضها وتوجّهت ببطءٍ نحو البار وهي تكتب على تليفونها. نظرتُ إلى جنى باستغراب وطلبَت منّي الحساب.
- حساب شو؟
- المَي
- ولك خلص روحي يا عمّي
- ليك عنجد إذا حسّيت انو ما ماشي الحال بالكهرباء عنجد بحكي مع شغلي وبيزبطوك.
- ماشي ماشي. قدّيش بده يكون طويل هالشريط؟
- شو طويل؟ هون بآخر الشارع.
- ليه وين بتشتغلي؟
- بقهوة الريش. بس فوق بالماركتينغ.
تظاهرتُ باللامبالاة، ولكنّي شعرت بالغباء. تلاقَت عيناي بعينَي جنى وتصنّعنا ابتسامةً.
غادرَت يمنى القهوة مودّعةً بيسو الذي بادلها ببخّة: كخخخخخخخ.