شاي تقيل وقرفة. فرنش برس. تركي. دبل اسبريسو. لاتيه. شاي أخضر. أميركاني.
سبعة زبائن كلَّ صباح. أتعرّف عليهم يوماً بعد يوم، طلباً تلو طلبٍ، وموقفاً تلو موقفٍ.
وهذه هي القصّة السابعة من «الزاوية»، مقهًى ما زال قيد الافتتاح.
فُتحت أقلام الاقتراع عند السابعة والنصف. كنت أوّل الوافدين. اعترضني مرشّحان وسلّماني لائحتهما. ابتسمتُ للجميع. «تكرم عينك» كان جواب اليوم. وضعتُ كلّ لائحة بجيب ودخلت. وقبل أن أدخل إلى غرفة الاقتراع، صرخ أحد المرشّحَين: «زياد! جيبة اليمين ايه؟» وراك وراك والزمن طويل.
صوّتت. بالكاد غطّست إصبعي بالحبر، وخرجتُ أبحث عن جنى.
لم أجدها. وجدتُ سامي عوضاً عنها، متأبّطاً عددٍ من بوسترات أحد المخاتير. لم أدرِ إن كانت لفريد أو غيره. ناديته بصافرة سريعة فردّ فوراً وغمزني مستفسراً من بعيد. أشّرت له بالاقتراب. تسلّل من بين الجميع كالسحلية ووصل من دون أي عرقلة.
- شو ريّس سامي شو الوضع؟
- كلّه أندر كونترول
وأشعل سيجارته.
- خيّ. شو هول البوسترات معك؟
- هول؟ هول للمختار.
- أيّا؟
- للّي بيطلع… أو إنو بده يطلع.
- شو للّي بيطلع؟ معك صور كلّ المخاتير المرشحين؟
ابتسَم وسحب من سيجارته.
- بعد ما بتعرفني خيي زياد.
- ايه هيك شكلي ههه
رغم تملّقه وكثرة كلامه وقلّة صدقه، أحبّ سامي. أحبّه لأنّه شفّاف، وهو يعرف ذلك، ولا يبالي.
ثم خرجَت جنى.
- خبّرتني منال إنو رح تصير تجي مع رفيقتها كل يوم.
- مين رفيقتها؟
- بطّلت تعرف؟
- شو؟ شو بطّلت أعرف؟ أنجق بعرف منال بدّي أعرف رفيقتها؟ مين يعني اللي إجت معها مرة الماضية؟
- هه شفت ما أحلاك.
- هاها لا مهسترة كتير اليوم، وعيتي هيك؟
- زياد.. ما تتمنيك.
قالتها بحزمٍ شديدٍ أجبرني على السكوت.
- أوك.
أكملنا المشي صامتين. ولكنّني سهوت فلم أجارِها بلعبة المشي.
- بشو عم تفكّر؟
- ما شي. بكلّ شي.
- بدّك نفتح اليوم أو نسكّر ونرخيها بالبيت؟
- تعي نرخيها ونفتح مأخّر.
اتّفقنا. كنت أفكّر بالمقهى والعمل. من أين آتي بكلّ هذا القلق؟ تخبرني جنى عن جارتنا التي أنجبت بنتاً وأصرّت على تسميتها غيلدا.
- يعني صار بيّها أبو جلدة؟
- ايه.
- آن مش مركّزة معي. أبو جلدة أبو جلدة، نحنا وصغار كنّا ننكّتها، يعني مش مطهّر.
- شو؟! هاهاها
- شفتي؟
- وهيي أمّ جلدة!
أردتُ أن أخبرها نكتة «بتسلّم عليكي غيلدا» ولكنّني عدلتُ عن ذلك. عيب. حتّى جنى، أخفي عنها أحياناً هذا الجانب الصبياني. أعشق النكتة البايخة والسّخيفة، وهي تحبّ النكات الذكية والغادرة. كتّر خير الله، لا أحد منّا يحبّ النكت الهادفة.
صعدَت على السلالم قبلي، وتركتُها تسبقني ريثما أستجمع أنفاسي.
- شو تعبان؟ بعد ما طلعنا. رواق؟
- ايه ايه شارد بس.
طرقةُ قلبٍ خفيفة. مستحيل أن تكون جرحة قلبية. مش منملة إيدي. أنا فقط متعبٌ من التفكير. أحتاج إلى ساعتَي نوم، وإلى جنى. الكثير من جنى. جلستُ على الدرج أمسح رقبتي وأتحسّس نبضي. ربّما قلقي مصدره خوفاً من خسارة القهوة، ومن بعدها أخسر جنى. أخذتُ نفساً عميقاً، ونفعني. استعدتُ ما يكفي من النشاط لأصعد باقي الطوابق على مهل، ودخلت كأنّ شيئاً لم يكن.
- منقعد بالصالون أو بالمطبخ
- بالصالون بالصالون، بدّي إتشلقح. تعي.
ما العمل؟ تمنّيتُ ضمنيّاً لو بقي البلد كما كان آخر خمس سنوات. تعوّدت، ولست بصدد تغيير عاداتي للمرّة الرابعة في هذه البقعة الجغرافية الملعونة. لكن أيضاً، «اللي بيشرب البحر ما بيغصّ بالساقية».
هدأَت دقّات قلبي وشعرتُ بسكونٍ للحظة، ثم تعكّر مع مرور سيّارة حزبية مع مكبّرات صوت.
«ع زحلة ما بيفوتو»، ونحن في بيروت. ما أسخف الانتخابات.
دخلت جنى مع فنجانَي يانسون.
- شو نعسان؟
- لا لا بس هيك.
- ايه تمام… ليك مين انتخبت تالت مختار؟
- هيدا الشّب اللي آرماته زرق، حرام هو ما بيطلع بس قلت بشجعه…انتي؟
- انا انتخبت فريد.
بصقتُ بلعة اليانسون، نظرتُ صوبها وغشينا من الضحك.
انزلي نفتح.