شاي تقيل وقرفة. فرنش برس. تركي. دبل اسبريسو. لاتيه. شاي أخضر. أميركاني.
سبعة زبائن كلَّ صباح. أتعرّف عليهم يوماً بعد يوم، طلباً تلو طلبٍ، وموقفاً تلو موقفٍ. وهذه هي القصّة الثانية من «الزاوية»، مقهًى ما زال قيد الافتتاح.
نمنا وصحونا، فسقط بشار الأسد، وانتخبنا رئيسًا وحكومة. لو أطلنا النوم قليلًا، لكنّا لنتفاجأ أكثر. أبلغوني في الجمارك أن قدر الحساء النحاسيّ الذي طلبته لا يزال عالقاً «إلى حين تشكيل الحكومة»
- اعطيها يا يومين تلاتة، يا سنة.
دخلتُ القهوة بطاقةٍ أخفّ من الأسبوع الأوّل، ولحقني زبون الشاي بالقرفة، صامتًا ورافعًا إصبعه.
تبسّمت وأعددت الشاي. يا رب.
فرنش برس
لابتوب، دخّان لفّ، وفرنش برس. بالكاد تكتب، وتشاهد فقط.
تأتي على درّاجة هوائية كلّ يوم عند العاشرة والنصف. تجلس على الكرسي، وتنزلق رويداً رويداً حتّى يختفي وجهها عنّي، فلا أرى سوى علامة الآبل المضيئة وملصقات يصعب عليّ ألّا أحكم عليها.
Don’t talk to me before I’ve had my coffee
(لأ، بدّك تروقي.
كلّنا نحبّ القهوة، أو المنبّهات، بشكلٍ أو بآخر، ولكن أن تصل بنا الأمور إلى أن نُرقّي صورة فنجان قهوة مع عبارة كهذه إلى مُلصقٍ دائم، فذاك موت الإبداع بحدّ ذاته.
مش مهم).
[كولّاج لقلعة بعلبك مع دبّيكة
باللباس اللبناني التقليدي وأحرف فينيقيّة]
للوهلة الأولى، تظنّها ملصقاً يروّج لعرق فقرا أو كسارة.
لا أذكر بالضبط من فعلها، ولكن أذكر دبكةَ التماثيل الفينيقية.
مثلًا، ملصق للعلم اللبناني في هذه الحالة كان ليكون أرحم، وأكثر «غموضاً». لماذا تضع العلم اللبناني؟ هممم... هل تنتمي لمنتخب لبنان في رياضةٍ ما؟ رياضة شرب القهوة مثلًا؟ أم هي فقط وطنيّة؟
أشحتُ وجهي عنها قبل أن تراني أُحلّل. ربما قد بالغت في تحليلي. الملل يدفعني لذلك أحياناً.
لم نركّب السمّاعات الكبيرة بعد. سحبتُ هاتفي والسبيكر الصغير لأكسر صمت القهوة المتقطّع بصوت الزنّانة.
شغّلت السبيكر، وصاح بأسوأ لكنة إنجليزيّة ممكنة بأنّه جاهز للتشبيك. لكنة ألفتُها لكثرة ما اشتريتُ من أغراض صينيّة باب ثالث ورابع.
ثم صاح أبو شاي وقرفة:
- بعد في الصين ما إجت لعنّا ريّس.
تنهَّدَت «فرنش برس» وكأنّها كانت تتوقّع أن تكون القهوة صامتة. حاولتُ حجب صوته عبر تشغيل مايلز ديفيس، على قدر ما تتحمّل سمّاعتي الصينيّة. تنبّه لها الزبون الأول.
- عم نحكي كتير؟
- لا لا رواق ماشي الحال.
مدّ يده مصافحاً.
- سامي ع فكرة.
- هاي سامي، منال.
- أوّل مرة بتجي لهون؟
- ايه
- أنا هيدي تاني أو تالت مرة. لذيذ هالمحلّ لا؟
- مبلا
ثم صمْتٌ مُطبق. رنّ تليفون سامي لينقذ الموقف. سحبَه، ثم قرأ من دون أن يفتحه، وأعاد غلق الشاشة.
- خربانة معلّم. سوري منال ايه؟ أنا إجمالاً ما بحكي كتير، خصوصي بالقهاوي، بس الوضع شوي سوريالي لأ؟
- همم يمكن. بس إنو البلد رايح لمحلّ أحسن.
ابتسم سامي ببطءٍ وهو ينظر نحوي.
- والله؟ كيف عرفتي؟
- انو رئيس جديد، حكومة جديدة… وينك؟ ما عم تحضر أخبار؟
- والله؟ أول مرّة بتشوفي رئيس وحكومة؟
- لأ بس قريت cv نواف سلام؟
- خدلك بقا.
عَرفتُ حينها لماذا انتشر بعد حرب تمّوز شعار «ممنوع التكلّم بالسياسة». أقنعونا أنّه لن ينتج من هذا الحديث سوى الخراب، وهكذا كان من يومها. فبادرت:
- بلا سياسة يا شباب... بشرفكن شو فرقت اذا حدا قنع التاني؟
شعرت أنّني بهذه الطريقة أتفادى شرح موقفي، وأنّ كلمتي سوف تُسمع بصفتي صاحب القهوة.
أخطأت الحساب. قاطَعني سامي مبرّراً:
- لا لا مش عم نحكي سياسة، عم نحكي عن الوضع.
نظرت منال صوبه وأجابَته كأنّه أيقظ شيئاً فيها.
- انشالله مفكّر الوضع مش سياسي.
- ولك مبلا بس عم نحكي بالمجمل، مش عم نتخانق يعني. انت عندك أمل. أنا قاطعه من زمان. صحّ؟
- صح.
- طيب منين جايبة كل هالأمل؟ مش عتلانة هم؟
- شو جاييني من الهم سامي؟ سامي صح؟
- ايه
- ايه شو جاييني؟ كم انهيار الواحد بده ينهار بالسنة؟ أيّا. بالنهار.
- يعني مكمّشة بشو ما كان.
- أيه لأن أكيد أحسن من ما يكون عندي شي إتكمّش فيه.
صمتنا كلّنا لثوانٍ، حتّى مايلز ديفيس. نظر سامي إلى لابتوب منال.
- يعني هلّق رح تزيدي ستيكرز الرئيس ونواف سلام؟
- هاها لاه مش لهالدرجة. أصلاً هيدا لابتوب الـBOSS تبعي. ما بسترجي غيّر شي فيه.
ضحكنا جميعاً، كلٌّ لسببه، وعدنا إلى عملنا كالغرباء.