شاي تقيل وقرفة. فرنش برس. تركي. دبل اسبريسو. لاتيه. شاي أخضر. أميركاني.
سبعة زبائن كلَّ صباح. أتعرّف عليهم يوماً بعد يوم، طلباً تلو طلبٍ، وموقفاً تلو موقفٍ.
وهذه هي القصّة الرابعة من «الزاوية»، مقهًى ما زال قيد الافتتاح.
اليوم أوّل صبحيّة مزبوطة مع جنى منذ افتتاحنا المقهى. استيقظتُ قبلها متحمّساً لفطورٍ شهي: البيضة المسلوقة تحوّلت إلى مقلاة بيض، والخيارة صارت جاطاً من الخضار، والزيتون بقي زيتوناً– شيخ الطاولة. سكبتُ لها الشاي ليبرد ريثما تستيقظ. يُسمّي الكتّاب هذه الأفعال بـ«الساعة المتكتكة» ticking clock، أي أنّ الفعلَ يضع توقيتاً لفعلٍ آخر. هناك نافذة عشر دقائق فقط لشرب الشاي، بعد أن يهدأ غليانه ولكن قبل أن يبرد. خارج هذه النافذة يفقد الشاي ما يميّزه. كذلك الأمر بالنسبة للبيرة ورقاقات الجبنة المقليّة.
استيقظَت جنى.
- صباحو
- صباح النور
- شو عامل ترويقة… من وين هالنشاط؟
- ساقبت.
تبادلنا قبلةً وأكلنا وسبقتني إلى السرير مجدّداً.
- جنى هاها لأ بشرفك.
- تعا يلا بتتأخّر لتفتح شوي وين المشكل؟
سرتُ خلفها، ثم تمدّدتُ إلى جانبها.
- كان بدّي خبّرك قبل شوي ونسيت
- شو؟
- مبارح اجا تبع محلّ العدة
- اللي ع الزاوية؟
- ايه
- ايه شو بدّو؟
- قال خلص بدّه يسكّر
- يه ليه؟ ما بيضل عنده ناس انو محلّ عدة…
- ايه ما هيدا اللي بدّي خبّرك ياه. قال في محل متل ستاربكس أو شي بدّه يفتح محلّه، استأجر ع 3 سنين.
رتّبت جنى جلستها واستقامت، شهقت شهقةً توحي بصدمة، وبدأت تُطلق أسئلتها، ثم صمتَتْ.
هذا ما جعلني أستيقظ قبلها أساساً. أقلقني الموضوع يوم أمس، وبعد أن أقفلتُ القهوة لم أرجع إلى البيت إلّا متأخّراً.
- بس ما تعتلي همّ نحن غير شي، وأصلاً أرخص نحن لو كيف ما كان.
- ايه شو يعني؟ منيح؟
- ايه منيح جنى، مش كرمال هيك كان عبالك نفتح قهوة؟
لم تُجب ولكنّها تمدَّدت مجدّداً وتأمّلنا السقف سويّاً.
- رح إنزل معك اليوم.
قصدنا القهوة متأخّرين، لنجد سامي بانتظارنا هناك.
- عجبَك جار؟ شكله في مشروع راكب بكلّ الحيّ.
- مشروع شو؟
- قهوة ومحلّات شي أربع خمس أبواب محلّ هول الدكاكين وتبع البراويز.
نظرتُ إلى جنى بطرف عيني – رأيتها تنظر إليّ.
رفعنا الباب الجرّار ودخلنا. أخبرَنا سامي أنّ المشروع الجديد هو بمبادرة من أحد أثرياء أفريقيا ولكنّني لا أصدّقه. بدأتُ أستبق كذباته بعد أن أصغيتُ له لساعات في الأسبوع الماضي عبثاً. مبادرة؟ ببلاش؟ في لبنان؟ المنافسة الشريفة مشروعة، ولكن الوضع مريب. أربع خمس محلّات؟ مشروع؟ دخلتُ خلف البار وسكبتُ لنفسي قهوةً باردة من أمس. جلس سامي في زاويته.
- متل العادة؟
- متل العادة.
أعرف أنه يحبّ أن أسأله هذا السؤال. يشعره بالانتماء نوعاً ما. المرحلة الثانية هي حين أقدّم له شايه من دون أن يطلب حتّى. أنا أتحكّم بموازين هذه العلاقة.
دخَلت منال مع سمّاعاتها فتبادلنا التحية بالإشارة. ناولتُها الفرنش برس من دون أن تطلب حتّى، وأعطيتُ سامي الشاي بالقرفة بعد أن غلى.
أين جنى؟
خرجتُ أبحث عنها فوجدتها تعود.
- شو؟ شفتي حدا؟ حكيتي حدا بالحي؟
- حكيت حدا؟ لأ بس في حركة غريبة بالحي
- حلو صرتي من هول تبع «في غربية بالحي» وووو
- هاها ولك لأ بس انو ناس جداد وفي واحد حاطت كيلو جيل عراسه
- آن هيك؟
ردّ سامي من الداخل عالياً:
- أنا شو قلتلّك؟ راجعين ع التسعينات! بعد ناطر وائل كفوري يعمل ألبوم عن الجيش.
أضافت منال:
- أو الوسوف لأحمد الشرع بيسمّيها «حبّيت إرمي السلاح».
ضحكنا جميعاً ودخلتُ خلف جنى مستمعاً إلى باقي القصّة. أخبرَتنا أنه عرّف عن نفسه كـ«مصمّم عقاري».
كما تفترض تسمية «مصمّم الشعر»، لا يكتفي المصمّم العقاري ببيع العقار وفرزه وتقطيعه وإعادة دمجه، بل يذهب حتى إلى تصميم دفعاته، وقبض مستحقاته، وتنتيف شعراته. ع الناشف. وفيما غرقت جنى بوصفه، بتفاصيل التفاصيل، ظهر أمامنا في الخارج، ودخل إلى المقهى:
- صباحو
- أهلا
- عندكن ماتشا؟
- ماتشا ؟ لأ بعد. قريباً بس.
- بتاخد شي تاني؟ متّة؟ شاي؟ قهوة…
- لا لا مش نفس الشي، بركي ليموناضة إذا في.
- يوجد، تفضّل.
رمقتُ جنى بنظرةٍ ساخرة. أعرف هذه النبرة منها جيّداً، تشبه نبرة أبي حين كنت طفلاً أخترع مشروعاً من العدم وأحاول إقناعه: «كفّي كفّي عم بسمعك».
أكملَت جنى حديثها معه من دون أن تشعره بنبرتها.
- شو جديد بالحي أو مارق؟
(غمزَتنا من دون أن يراها).
- جديد بالحي ايه، بس مش مارق بس.
- باقي؟ استأجرت؟
ناولَتْه جنى الليموناضة أكملنا استراق السمع.
- لا اشتريت، استأجرت بس كم محلّ.
قاطعه سامي:
- بس كم محلّ؟! الله يوفّق هاها.
ابتسم وكرع نصف كوبه.
- مم طيبة هالليموناضة… حلو هالمحلّ…
وقف في وسط المقهى يفكّك إمكاناتها التجارية. رأيتُ في عينيه رغبةً بتحويلنا إلى زاوية تجارية أخرى. فشر، قالت عيناي.
- يلّا يزبط وضع البلد ع الآخر، وهالحيّ كلّه بيرجع أحسن من قبل.
رمى خمسة دولارات على البار وكرع ما تبقّى.
- منشوفكن.
خرج وبقي عطره يوتّر أجواء القهوة.
- زياد: أحسن من قبل أيه؟ ليش هلّق شو بو الحي يا أيري؟
- جنى: مين مفكر حاله؟
- سامر: خيي حدا بيقلّك معه مصاري؟
- منال: مين أصلاً بعد بيحطّ جيل؟