شاي تقيل وقرفة. فرنش برس. تركي. دبل اسبريسو. لاتيه. شاي أخضر. أميركاني.
سبعة زبائن كلَّ صباح. أتعرّف عليهم يوماً بعد يوم، طلباً تلو طلبٍ، وموقفاً تلو موقفٍ.
وهذه هي القصّة التاسعة من «الزاوية»، مقهًى ما زال قيد الافتتاح.
يوم أمس تسلّلت أفعى إلى شقّتنا وخرجت. عرضتُ احتمالاتي: أهاجمها أم أدعها تمرّ؟ لا يطعمني زياد بما يكفي وجنى تخصم ربع ما يعطيني دوماً. يبرّران ذلك بمحاولات تخفيف وزني، من دون أن يُدركوا أنّ وزنيَ امتياز. أن تموت سميناً في عمر صغير خير من أن تعيش حياة طويلة بين الأزقّة وسلّات القمامة الخضراء. زبالة بيروت، رغم كثرتها، لا تغريني.
ولكنّني بالحقيقة لم أترك الأفعى، ولا كنت في حيرة كما ظنّ زياد. تركتها تسرح حتى وصلت إلى غرفة المونة ثمّ زركتها في الزاوية، أشطر من مين؟ سلّمتها سبع ضربات في نصف ثانية وخدشتُ وجهها حتّى تلَوَّت من الألم وفارقت الحياة. لعقتُ يداي ومسحتُ وجهي قبل أن أعود إلى غرفتي، تاركاً زياد وجنى مندهشَين. يدهشهما أي شيء أفعله. ملل.
للأمانة، أعيش أفضل من معظم القطط التي أعرفها. أعرف ثلاث أو أربع قطط وكلهم يظهر عليهم الإرهاق أو الجوع، علامات واضحة لحياة منزلية غير متّزنة. على الأرجح يأكلون الفضلات الرطبة بدل النواشف الفخمة التي يشتريها لي زياد وجنى.
اعتدتُ قلقَ وكسل زياد وحماسة جنى. ولكن في الفترة الأخيرة يبدو زياد أكثر اندفاعاً وكأنّ شيئاً ما تغيّر. لا أدري. أكلي لم تتغيّر لا كمّيته ولا نوعيّته. ولكن يبدو أن قلقه أخذ يتبدّد. أصبح أكثر حماساً و نشاطاً، خاصّةً مع جنى. يطردونني أكثر من قبل من غرفة النوم وأحياناً يقفلون الباب حتّى. ههه كأنّي سأفتح الباب… بإمكاني الحصول على ما أريد بمواءةٍ أو مواءتين، فلم العذاب؟
في الأيّام الماضية، لم تترك جنى المطبخ، وواظبت على تحضير بعض المكوّنات وتقطيعها على نغمات «فكّروني» للست أم كلثوم. على الأرجح هناك تغيير في منيو المقهى. ولكن أكلي لم تتغيّر لا كميته و لا نوعيّته.
ها هو يستيقظ الآن. يجرّ رجليه جرّاً نحو الغاز، فسبقته مطالباً بوجبتي.
- جنى، قهوة أو شاي؟
- شاي شاي
- شو بسبوس؟ بدك تاكل؟
بدي آكل؟ طبعاً بدي آكل. كل يوم نفس السؤال النكتة. أتت جنى وسكبت لي وجبةً كاملةً من دون خصم فالتهمتها قبل أن تغلي المياه.
- ليكي هيدا الفجعان بدنا ننزله عالقهوة أو كيف؟ انتي بطّلتي بالبيت ما بدّي نتركه لحاله ليكي كيفو مدبرس.
أنا مدبرس؟ أنا؟ إسقاط تلو الآخر. آخ ع زياد. لا أريد الذهاب إلى القهوة أساساً! من أين تأتي بهذه الأفكار
- بعتل هَم إذا نزّلناه يفلت
- ايه بيرجع، عادي، معيّشينه ملك
- صحّ
- وأصلاً صيفية، الباب مسكّر معظم النهار
- صحّ… شو بيسو؟ مين بدّه ينزل عالقهوة اليوم؟ مين؟
اتُّخذ القرار إذاً. يعرفونني جيداً. ودّعتُ كل الغرف والكنبات والزوايا و لكن لم أبكِ. رفضتُ أن أعطيهم نصراً عليّ. أوهمتهم أنّني جاهزٌ فحملتني جنى وانطلقا.
شو هيدا؟
لم أصدّق ما أرى.
اعتدتُ رؤية الشارع من الشبّاك ولكن لم أعره يوماً اهتماماً كافياً. العصافير أكثر هنا ويمكنني أن أصطادها فعلاً. وبعض القطط جميلة أيضاً.
دخلنا إلى المقهى وشممتُ رائحة البيت مجدّداً. تركتني جنى وأغلقَت الباب. تمخترتُ بالداخل وتفحّصتُ زواياها حتّى وجدتُ كرسيّاً أريح من غيره وجلست.
- شفتي؟ ريّح دغري
- ليك رح حط ستوري انو نحنا فتحنا وصوره
- ايه ايه
- بيسو قول هايي
التقطت جنى بعض الصور لي ودخل زبون.
- صباحو
- أهلا سامي كيفك
- ماشي ماشي، شو لمين هالبسين؟
- لإلنا
- دغري اجا و قرطلي محلّي؟ قوم حبيي قوم.
مَن هذا؟ ولماذا يناديني بسين؟ مين البسين؟ أعتبر هذه الكلمة مهينةً، تعادل الجبان أو الخانع. طردني وجلس مكاني.
- بتعملّي شاي خيي زياد قبل ما نموت كلنا بالنووي؟
- عجبك؟
- شفت الصواريخ مبارح؟ أنا أوّل ما عرفت مشيوا من ايران طلعت عالسطح مع كاميرا.
- ايه شفت من البلكون.
- شو قولك رح يصير؟
- عندك الجواب خيي سامي
- والله ولا مرة قاطع عليي حرب نووية لأعرف
- والله عشنا وشفنا سامي ما بيعرف.
- يا زلمي مين كان بيقول إيران رح ترد؟
- ههه الكل سامي، الكلّ.
غفَوت لساعةٍ أو ساعتين في الشمس وصحَوت على صفيق طاولة بجانبي. يبدو أنّهم زبائن جدد أيضاً. تثاءبت وتجذّبت وذهبت خلف البار إلى جنى، علّها تشفق علَي وتطعمني، ولكنّها كانت منهمكة بتحضير الأكل للطاولة في الخلف.
- زياد تعا شوي
- ايه
- ليك بدك تطعمي بيسو؟
- في دراي فود هون؟
- لأ نسينا نجيب
- طيب… طون سردين أي شي فضلات
- طيب هلق بعمله شي
- انتي ماشي الحال بدك ساعدك؟
- لا لا خلص ضهّر بيسو طعميه، جبله طون من الدكّان وافتحها برّا وضلّ حده
- روقي بتصوّر تارك علبة هون ورا
أخذ زياد علبة تونة مجهولة الماركة والمصدر والتاريخ، حمَلني وخرج بي إلى الزقاق الخلفي المقرف. فتح لي علبة التونة ورماها على الأرض أمامي، على مرأى عشرات القطط. أردتُ رفضها ولكن الجوع غلبني. التهمتها بسرعة قبل أن تتحلّق حولي قطط الزقاق أو تلحظ تردّدي.
خرجتُ محني الرأس، ولكن شبعان. راحت أيامك يا بيسو. جلستُ على الكرسي العالي أراقب حياتي الجديدة أفكّر: شو يعني نووي؟ شي خصّه فيي؟ في بسينات بتنوي وبسينات بتنووي؟