حسابات قديمة، حكومة جديدة
بعد الصدمة الإيجابية التي شكّلها تكليف نواف سلام لرئاسة الحكومة، جاء التفاوض على الحصص والحقائب والمناصب ليذكّر الجميع بأنّ البلاد ما زالت محكومة من المنطق ذاته الذي أوصلنا إلى قعر الانهيار. لم يكن أحد يتوقّع أنّ تكليف سلام سيكون كافياً لتغيير المنطق السائد في السياسة، وإن كان من المستحبّ أن يعيد الجميع النظر في مقاربتهم لمسألة الحكم. لكنّ السجالات الدائرة، إن دلّت على شيء، فعلى هذا الأفق المغلق الذي ما زالت القوى السياسية مصمّمة على اجتراره.
ففي مسألة التمثيل، يدور السجال بين من يريد إقصاء «الثنائي الشيعي»، والمنطق الاحتكاري لهذا الثنائي. فإذا كان مرفوضًا الاستمرار بمنطق الابتزاز واحتكار طائفة من خلال ممثّليها، فإنّ منطق الإقصاء يعرّض البلاد لأخطار، هي بالغنى عنه. أمّا في موضوع الاختصاص، فعادت بنا السجالات الراهنة إلى الدائرة المفرغة، بين دعاة تمثيل السياسيين ومن يرى ضرورة حصر التمثيل بأصحاب الكفاءات. لا إصلاح إن عدنا لحكومات التمثيل السياسي، لكن لا ثقة من مجلس ما زالت الأحزاب تسيطر عليه، إن لم يكن هناك تمثيل ما لها.
حكومتان بحكومة
لا مهرب من دمج منطقَيْن في تشكيل الحكومة الجديدة: منطق سياسي تمثيلي، يؤمّن لهذه الحكومة شرعيتها النيابية وغطاءها السياسي، ومنطق إصلاحي، يعتبر أن شرعية هذه الحكومة مرتبطة بقدرتها على مواجهة الملفات الطارئة. تعود هذه الازدواجية لطبيعة اللحظة السياسية، حيث على الحكومة القادمة تأمين هدفين أساسيّين، وهما، من جهة، مواجهة الأزمات الطارئة، من الانهيار المالي إلى إعادة إعمار المناطق المهدّمة، ومن جهة أخرى، التحضير لعملية انتقال سياسي، متمثلة بالانتخابات القادمة، والتي ستشكّل فرصة تاريخية لإعادة إنتاج مجلس على أسس مختلفة.
من هنا، لا بد من حكومة ذات وجهين: وجه إصلاحي وآخر سياسي، تشكّل رافعة للمرحلة الانتقالية التي تشمل الانتخابات النيابية القادمة، وتلحظ «تمثيلاً تشاركياً» للقوى السياسية، أي خارج منطق المحاصصة والتعطيل والإلغاء. وهذا يتطلب مقاربة مختلفة لعملية التشكيل.
برنامج الحكم الغائب
ما زال تشكيل الحكومة يسير حسب منطق الماضي، أي منطق المحاصصة وتوزيع الحقائب حسب الأحجام، رغم تأكيد الرئيس المكلّف بأنّه مش ليبان بوست. لكنّ الخروج من هذا المنطق ليس مرتبطًا بشخصية الرئيس المكلّف أو طريقة توزيع الحقائب. الخروج من هذا المنطق يبدأ مع تحديد برنامج حكم ورؤية سياسية للحكومة القادمة. فحتى الآن، لم نسمع أي كلمة عن مشروع الإصلاح وأولوياته، أو تحديد لأهمّ الملفات التي لا مساومة عليها، أو تصوّر لشكل الإصلاح المالي. خارج هذه الرؤية، مهما كانت عامة بانتظار البيان الوزاري، يبقى منطق التشكيل قائمًا على مفهوم «تمثيلي» رغم اعتراض الرئيس المكلّف عليه. وأهمية هذه الرؤية تكمن بأنّها تشكّل الأرضية للتنازلات، إن كاتن هناك حاجة لها، كما تحدّد ما لا يمكن المساومة عليه.
وزارات إصلاحيّة لا مساومة عليها
وما لا يمكن المساومة عليه في الحكومة القادمة هو الإصلاح المالي والتحقيق في انفجار المرفأ وإصلاح القضاء والانتخابات القادمة. وهذه الملفات تتطلب وجود وزراء إصلاحيين في ثلاث وزارات، هي وزارة المالية ووزارة الداخلية والبلديات ووزارة العدل. فبدل لعبة توزيع الحقائب، على «الثنائي الإصلاحي» الانتقال من فرضية أنّ هناك مناصب لا يمكن المساومة عليها في لعبة التمثيل السياسي، إلى التمسّك بهذه الوزارات كأدوات أساسية لأي مشروع إصلاحي. فمن غير المقبول التنازل، مثلًا، عن وزارة المالية لصالح نبيه برّي، بهدف «تطمين» الثنائي الشيعي، وبالتالي التخلّي عن أي ادعاء إصلاحي إن عادت هذه الحقيبة لمن كان قيّماً عليها في زمن الانهيار.
ثلث معطّل إصلاحي
«تطمين» الأطراف السياسية هدف مشروع، لكنّ ممارسة التطمين أخذت في الماضي شكل «الابتزاز التعطيلي»، أكان في السيطرة على بعض الحقائب أو احتكار تمثيل طائفة أو التمسك بمبدأ «الثلث المعطل». من هنا، إن أراد «الثنائي الإصلاحي» القيام بأي سياسة إصلاحية وعدم إضاعة زمن الحكومة بخلافات داخلية، فيجب رفض هذا المبدأ، وحصر «التطمين» بيد الرئيسين الخارجين عن السياسة الداخلية. إذا كان هناك ثلث معطّل، فهو إصلاحي، هدفه- من جهة- تطمين القوى السياسية بأنّ لا إقصاء أو احتكار ممكناً، والتأكّد- من جهة أخرى أنّ ما من قدرة لأي طرف سياسي بمفرده عرقلة مسيرة الإصلاح.
الرأي العام في وجه المحاصصة
لا يمكن إقصاء أحد من الحكومة القادمة التي تتطلب أوسع تمثيل، كما لا يمكن العودة إلى سياسة «التمثيل النسبي»، أي توزيع الحصص الوزارية حسب الأحجام النيابية من دون القضاء على فكرة السلطة التنفيذية. بين هذين الحدّين، أمام الرئيس المكلّف خيارات تتطلّب، أولّا، إعادة ابتكار حدود الممكن، من خلال طرح تصوّر جديد لتشكيل الحكومة، يقوم على توضيح الرؤية السياسية وتحديد ما لا يمكن المساومة عليه ورفض أي منطق تعطيلي، غير الضمانات الدستورية.
لكنّ هذا يتطلّب، ثانيًا، ثقة بالنفس، قائمة على القناعة بأنّ الإصلاح ليس «هبّة» من قبل القوى السياسية، عليها أن تكافأ على قبولها به. هو الخلاص الوحيد من انهيار تسببت به هذه القوى، والبديل عنه هو الاستمرار بالمنحى الانحداري للبلاد. وفي وجه هذه القوى، هناك رأي عام، قد لا يكون ممثّلًا بالمجلس النيابي، لكنّه فعّال في دعم، لا أشخاصآً بعينهم، بل مبدأ الإصلاح. وإذا قرّرت القوى السياسية تفخيخ هذه الفرصة الأخيرة من خلال تمسّكها بالتعطيل والمحاصصة، فالاستقالة هي دائمًا خيار، وليتحمّل الجميع مسؤولياته.