العهد المحاصر جنوبيًا
بعد أقلّ من شهر على انتخابه، واجه جوزاف عون أوّل تحدٍّ له كرئيس جمهورية ما بعد الحرب، أظهر حدود العهد ومكامن ضعفه.
قبل بضعة أيام من انتهاء مهلة الستّين يومًا لاتفاق وقف إطلاق النار، بدأت تسريبات صحفية عدّة تؤكّد أنّ الجيش الإسرائيلي لن ينسحب من الجنوب في الموعد المحدّد. وجاء تصريح مكتب نتنياهو يوم الجمعة ليحسم الأمر، معلنًا بقاء الجيش الإسرائيلي في عدّة نقاط داخل الشريط الحدودي. في ظلّ صمت سياسي حيال هذا القرار، قرّر الأهالي العودة إلى قراهم، رغم المنع الإسرائيلي، حيث سقط 22 شهيدًا جرّاء الرصاص الإسرائيلي.
رغم محاولة الجيش مواكبة الأهالي، في ظل استنفار إسرائيلي واستغلال حزب اللهي، كان العهد غائبًا عن هذا المشهد، خارج بعض التغريدات. ربّما لا تشكّل هذه الحادثة خطأ مميتاً للعهد الجديد، لكنّ لها دلالات عن موازين القوى التي تحيط بالعهد وحدود عمله.
قام العهد الجديد على تقاطع رغبة إصلاحية خارجية وتهركُل سياسي داخلي، سمح باختراقين لجدار الشلل الذي يحيط بالحياة السياسية. لكن خارج بناء مشروع سياسي يحيط بهذا العهد، سيبقى الرئيسان رهينة التقلبّات الخارجية والمحاصصات الداخلية.
تشريح الحادثة
وقف الأهالي والجيش وحدهم في مواجهة دبابات العدو. الطرف الأوّل المعني بالموضوع لكونه المحتلّ، قرّر البقاء ببعض البلدات وتمديد مرحلة وقف إطلاق النار. أمّا العهد الآتي على ظهر التزامات غربية داعمة لوقف إطلاق النار والانسحاب الإسرائيلي، فوجد نفسه متروكًا لوحده في وجه التعدّي الإسرائيلي وحكومته التوسّعية. في المقابل، رأى الطرف الثاني، أي حزب الله، في هذه المسيرات مناسبة للهروب من مأزقه المتمثّل بهزيمته العسكرية، وتحويلها إلى أداة ضغط في الداخل اللبناني، أخذت شكل مسيرات ليلة استفزازية.
بين تخلّي راعي الاتفاق الدولي واستغلال الطرف الداخلي، ظهر العهد الجديد كمشاهد في أحداث لا دور له فيها. لم يُضِع العهد فرصته الأولى لبناء الثقة مع أهالي الجنوب وتكريس معادلة «الشعب، الجيش، الدولة» وحسب، بل ظهر أيضاً كطرف لا رؤية سياسية له أو قدرة على المبادرة ضمن حدود الممكن. في غياب رؤية وقدرة سياسية، تحوّل العهد في أحسن الأحوال إلى ساعي بريد بين أطراف متخاصمة. أمّا في أسوئها، فقد خرج العهد من السياق السياسي وتحوّل إلى فولكلور مؤسستي من دون أي فعالية سياسية.
الحكومة المحاصرة داخليًا
بعد المسيرات الليلية، ومع المراوحة في تشكيل الحكومة، بات واضحًا أنّ العهد محاصر أيضًا في الداخل. فبعد أسبوعين على تكليفه، ما زال نواف سلام يحاول إيجاد صيغة تتناسب مع مصالح شتّى الأطراف السياسية، وعلى رأسها الثنائي الشيعي ومطلبه المتمثّل بوزارة المالية. حتى الآن، لا يبدو أنّ هناك أي «تسهيل» لعمل الرئيس الإصلاحي الجديد، بل تكرار لنفس لعبة المحاصصة التي أوصلت البلاد إلى الانهيار. وهذا ما ينذر بصعوبات مستقبلية، حتى بعد تشكيل الحكومة- إن تمّ تشكيلها- في ظل استمرار منطق العرقلة هذا.
فلنكُنْ واضحين، لا أحد يريد نجاح حكومة نواف سلام. فمَن عارض سلام أصلًا، كالثنائي الشيعي، يرى في حكومته خطرًا عليه وامتدادًا موسّستياً لهزيمته العسكرية. أمّا مَن دعمه، وغالبًا على مضض، فيرى فيه منافسًا، وفي «الإصلاحيين» مشروع مزاحمة انتخابية. فلا أحد في الطبقة السياسية الحالية يريد خوض الانتخابات المقبلة مع حكومة إصلاحية «ناجحة»، قد تفضح مدى فشلهم ومسؤوليتهم حيال ما جرى. فبعدما تغنّى الجميع بزمن الإصلاح الجديد، عادوا اليوم إلى الجدّ، أي التحضير للانتخابات المقبلة من خلال المحاصصة والعرقلة.
الإصلاح يبحث عن مشروعه السياسي
ما أظهرته تطورات الأسبوع الفائت هو حدود «التغيير من فوق»، عندما لا يتّكل «الفوق» على حلفاء ثابتين ومشروع سياسي يقدّم رافعة شعبية. في غياب المشروع السياسي والمحاولة الدائمة لبناء حراك شعبي حوله، سيتحوّل العهد إلى مجموعة أخصائيين مدعومين من قائد سابق للجيش، لا شرعية لهم خارج رغبات السفارات. وبما أنّ المصالح الدوليّة تتغير، كما حصل أخيرًا مع الولايات المتحدة، فهذا يعني أنّه من دون بناء مشروع داخلي يحيط بهذا العهد، حتى الرغبات قد لا تبقى.