تعليق الإصلاح
سامر فرنجية

حكومة تشبه الواقع: تقاطع أزمات الشرعيّات 

8 شباط 2025

الحكومة الجديدة-القديمة

كان لا بد من بعض الخيبة. فالخيبة تعني عودة الواقع بعد فورة انتخاب رئيس الجمهورية وتكليف رئيس الحكومة، لتذكرنا بأنّ التكليف جاء جراء عملية «حرب عصابات»، استفادت من لحظة ضيعان عند المنظومة لكي «تهرّب» رئيسًا للحكومة من خارجها. بعد الصدمة، عادت «الجيوش النظامية» للأحزاب لكي تستعيد بعضًا ممّا خسرته. فكانت هذه التشكيلة: حكومة لن ترضي أحدًا لأنّها تشبه الواقع الذي أنتجها. 

يمكن الاحتفاء ببعض الأسماء وإدانة أسماء أخرى، ويمكن تهنئة رئيس الحكومة على تمسّكه بمبادئ التشكيل أو مهاجمته لرضوخه لرغبات الأحزاب أو حزب الله أو الأمر الواقع. لكنّ هذا غير مهم. فالشطارة ليست في الإسراع في النقد وكأنّنا في سباق لتبرئة أنفسنا من الحكومة الجديدة. 

يمكن انتقاد الرئيس المكلّف وحكومته، لكن يجب الاعتراف أولًا، بأنّ هذه الحكومة نتيجة الواقع وأزماته، وما مِن إنقاذ قادم من خارجه. ومن ثمّ، ربّما على كل طرف شارك في التشكيل أن ينظر في أزمته الخاصة التي أدّت بنا إلى هذا الحاضر، قبل إدانة النتيجة. نحن أمام حكومة الواقع المأزوم، تستمدّ شرعيتها من كونها تشبه هذا الواقع. أو بكلام أوضح، جاءت هذه الحكومة على تقاطع ثلاث أزمات شرعية، تبحث جميعها عن مخرج لأفقها المسدود. 


انتصار بطعم الهزيمة: أزمة شرعيّة حزب الله

ليس سرّاً أنّ ما سمح بولادة «عهد جديد» هو أزمة «حزب الله» بعد الحرب. فرغم خطابات «الانتصار» المتكرّرة، بات واضحًا للجميع، بما فيهم قيادة حزب الله، أنّ الحزب يواجه «أزمة شرعية»، لن تحلّ بمسيرات ليلية أو خطابات نارية أو تشييع مليوني. 

لم يخسر الحزب الحرب وحسب. كما لم يفقد فقط داعمه البعثي ومعه امتداداته العسكرية والاقتصادية. لقد فقدَ شرعيّته كالحزب المسيطر على الساحة السياسية اللبنانية، وهذا أمام جمهوره قبل خصومه. أزمة شرعية حزب الله ليست أزمة حزب سياسي له تمثيل لا يشكّك به أحد. هي أزمة مشروع الهيمنة الذي قام في عام 2005، وبدأ ينهار منذ عام 2019.

هذه أول حكومة بعد انهيار هذا المشروع، حكومة تمثيل «حزب الله كشريك في الثنائي الشيعي»، وليس «حزب الله كمشروع سيطرة وحروب»، أو حزب الله الذي يطالب بدولة وليس حزب الله الذي استبدل الدولة على عقود. أو على الأقلّ، قد يكون هذا رهان الحكومة الجديدة، كمحاولة لتفادي سياسات الإقصاء التي يتّبعها أبطال التصعيد الإعلامي. بهذا المعنى، تحاول التشكيلة الراهنة الردّ على أزمة شرعية أكبر مكوّن سياسي في البلاد من خلال الاعتراف بتمثيله، خارج الاحتكار والتعطيل. قد يكون هذا الرهان خاطئاً، لكن ينبغي خوضه لأنّ البديل أخطر. 


عفن تنظيمي وانهيار البلاد: أزمة شرعية «الأحزاب»

كثر الكلام عن أزمة حزب الله، بعد انتهاء الحرب، لكنّ التشكيل أظهر أزمة شرعية أخرى، تطال البنى الحزبية اللبنانية بمجملها. فبعد السجال حول تمثيل حزب الله، تبيّن أن هناك خلافًا آخر سيطر على منطق التشكيل، وهو مسألة تمثيل الأحزاب. جاءت كلمة السرّ العابرة للاصطفافات: لا لإقصاء الأحزاب من التمثيل في الحكومة. من الأخوين غانم إلى الدكاكين الإعلامية لأنطون الصحناوي مرورًا بجريدة الأخبار، تحوّل تمثيل الأحزاب اللبنانية إلى ضرورة ديمقراطية، لدرء خطر «شعبوية تغييرية» مموّلة من الخارج. 

لكن حتى إذا وضعنا جانبًا «الشعبوية الإصلاحية» ونزعتها الإقصائية لأحزاب ما زالت تمثّل شرائح كبيرة من المجتمع، لا يمكن إلّا الاعتراف بأنّ هناك عفناً طال البنى الحزبية، مثل معظم البنى الاجتماعية الأخرى. فتحوّل معظمها إلى زواريب للفساد والزبائنية، تتنافس بين بعضها بعضاً على فتات نظام. لم تبدأ أزمة شرعية البنى الحزبية مع تشكيل الحكومة الحالية، بل تعود جذورها إلى تجربة 14 آذار، وتخلّي الأحزاب عن الحراك، وتفاقمت عام 2015، قبل أن تنفجر في عام 2019 مع الشعور العام بأنّ «الأحزاب اللبنانية» جزء من هذا النظام المنهار. 

هناك مشكلة بنيوية مع الأحزاب، مشكلة مع شرعية تمثيلها السياسي، والتي لا تلغيها نتائج الانتخابات. هذه هي الأحزاب التي نجت من الحرب جراء قانون عفو عام، وتطورت في نظام زبائنية، وأعادت إنتاج نفسها ضمن قوانين انتخابات عوجاء، وشهدت على انهيار البلاد. والأهمّ أنّ هذه هي البنى السياسية التي لا ثقة، داخلية أو دولية، بقدرتها على القيام بأي إصلاح يمكن أن يُخرج البلاد من دوامة الانهيار. «التمثيل المشروط» للأحزاب في الحكومة الحالية هو محاولة للتعاطي مع أزمة شرعية أحزاب سياسية، لديها تمثيل لكنها فاقدة للحق في الحكم. قد يكون هذا الخيار مكلفًا للبلاد، لكنّه أفضل من حفلة الابتزاز التي كانت ستشكّل البديل. 


إصلاحيّون من دون سياسة: أزمة شرعية الإصلاحيّين

في وجه أزمة شرعية الأحزاب، برزت أزمة أخرى في عملية التشكيل، هي أزمة ما يسمّى بالإصلاحيّين أو التغييريّين أو المدنيّين أو التشرينيّين. فرغم نجاحهم في إيصال نواف سلام إلى رئاسة الحكومة، يدرك هذا «الجو» بأنّه عاجز عن تحقيق تغيير بنيويّ في طبيعة النظام من خلال الأطر الديمقراطية. فعكس الأحزاب اللبنانية، يفتقد هذا «الجو» للأطر التنظيمية والتعبوية، ليبقى أقرب إلى تجمّع شخصيات إصلاحية تتعايش على حدود النظام، أي إمّا كحليفة لحزب تقليدي أو كاختراق لثغرة في النظام. وهذا ما يضعها دائمًا في مسار مشروع «الإصلاح من فوق» الذي ندرك جميعًا حدوده السياسية وانزلاقاته القمعية. 

لكنّ أزمة الإصلاحيين أو التغييريين الأساسية تكمن في غياب المشروع السياسي. فهم تجمُّع لمن يرفض النظام الحالي لأسباب بات الجميع يتشاركها. فلا يتطلب معارضة نظام منهار الكثير من الذكاء أو الجرأة. لكنّ «الإصلاح» كلمة فضفاضة، لا تعني الكثير. فأيّ إصلاح، ولصالح أيّ فئات اجتماعية، وضمن أيّ رواية سياسية، ومن أجل أيّ نظام مستقبلي، هذه هي الأسئلة التي تبدأ بتسييس كلمة «الإصلاح». خارج هذه الأسئلة، يتحوّل الإصلاح إلى مجرّد اختيار أناس «أوادم»، لا ميزة سياسية لهم غير أنّهم غير فاسدين. ربّما كان هذا مهمّاً في مناخ من الفساد المعمّم، لكنّه لا يرقى إلى مشروع سياسي. و«الأوادم» من دون مشروع سياسي غالبًا ما ينتهون إلى ترداد ما يسمعونه من مؤسسات دولية أو بديهيات اجتماعية لا تشكّل أي استفزاز للمنطق السائد. 


حكومة تبحث عن شرعيّة جديدة بين ركام الشرعيّات

جاءت التشكيلة الجديدة على تقاطع ثلاث أزمات شرعية. أزمة شرعية مشروع هيمنة حزب الله، وأزمة شرعية «أحزاب الانهيار» وأزمة شرعية «إصلاحيين» من دون مشروع. وهي، بهذا المعنى، ليست حكومة محاصصة، بل حكومة اللحظة التي نمرّ بها، شرعيتها أنّها تشبه اللحظة السياسية الراهنة، وطبيعتها الانتقالية. شرعيتها رهان، وهو أنّ الأفرقاء السياسيين الذين شكلوها سيتنازلون عن عنجهيتهم لكي يواجهوا أزمات شرعيتهم، بدل الهروب من هذا الاستحقاق من خلال تحويل الحكومة ورئيسها إلى كبش فداء لفشلهم المتكرّر. 

لكنّ شرعية هذه الحكومة ليست في تمثيلها لأزمات الواقع وحسب. هي أيضًا في فتح أفق سياسي لإرساء منطق مختلف في السياسة. نحن أمام مرحلة إعادة تحديد منطق الشرعية السياسية في البلاد، بعد الانهيار والهزيمة والشلل. فالتجارب المخيبة للأمل مع «إصلاحيين» كثيرة في الماضي، وسببها كان دائمًا فقدان المشروع السياسي الذي يُفترَض أن يحيط بالإصلاحات. فانتهى الإصلاحيّون إمّا مثقّفي مخابرات أو موظّفي مؤسسات دولية. إرساء منطق مختلف في السياسة يعني قبول فكرة أنّ هناك مواجهة سياسية قادمة، تتطلب قبول السجال والخلاف والنزاع، مواجهة أو مواجهات تتطلب رأياً عامّاً وحراكًا سياسيًا، والأهمّ، جرأة في مواجهة السائد والمعترف به. هذه المسؤولية ليست مسؤولية الحكومة، بل رئيسها وفريقه الإصلاحي فقط. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
تعليق

«بورنوغرافية» المرأة وتأديب الاختلاف 

صهيب أيّوب
وزارة العدل السوريّة تحقّق مع قضاة «محكمة الإرهاب»
حدث اليوم - الأربعاء 12 شباط 2025 
12-02-2025
أخبار
حدث اليوم - الأربعاء 12 شباط 2025 
بماذا يبتزّ ترامب مصر والأردن؟
12-02-2025
تقرير
بماذا يبتزّ ترامب مصر والأردن؟
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 12/02/2025 
فتح شارع المصارف المقفل منذ 5 سنوات