يتعرّض رئيس الجمهوريّة، منذ موقعة صخرة الروشة على الأقلّ، لانتقاداتٍ بسبب التراخي في موقفه من حصر السلاح في يد الدولة، لا سيّما أنّ هذا البند منصوص عليه في خطاب القسم الذي ألقاه فور انتخابه رئيساً. والواقع أنّ تعقيدات كثيرة داخليّة وخارجيّة تحيط بهذا الموقف، سواء لجهة استمرار الاحتلال والاعتداءات الإسرائيلية اليوميّة، أو التراجع الأميركي عن تقديم أيّ ضمانات، أو الخوف من اضطرابات داخليّة، أو الحرص على عدم عزل طائفة، أو الالتزام باتفاق بين حزب الله والرئيس قبيل انتخابه، على ما كشف النائب حسن فضل الله. بالنسبة لكثيرين، لا تبرّر هذه العوامل موقف الرئيس، لكنّها، على الأقلّ، تساعد على تفسيره.
وإذا كان التعقيد يسود مسألة السلاح، فإنّ ما يبقى عصيّاً على التفسير، هو تنكُّر هذا العهد الرئاسيّ لسائر مضمون خطاب القسم، لجهة بناء الدولة ومكافحة الفساد والخروج من الانهيار الاقتصادي. فبدأ العهد محمَّلًا بوعود إصلاحية، باتت تتساقط تدريجيًا، ولعلّ البداية كانت مع فرض كريم سعيد حاكمًا لمصرف لبنان. حاول «العهد» آنذاك تمرير هذه الخطوة وكأنّها تفصيل لا يعكّر الطابع الإصلاحي لرئاسة جوزاف عون. لكنّ على مشارف الذكرى الأولى لانتخابه، بات من الصعب تحديد ما تعنيه صفة «الإصلاحي».
فلنتأمّل بعض التطوّرات التي حدثت في الآونة الأخيرة، والتي يشكّل كلٌّ منها فضيحةً لـ«العهد» الذي لا يزال في بداياته:
1. إطلاق سراح رياض سلامة
توّج إطلاق سراح رياض سلامة سنةً كاملةً من المماطلة القضائيّة المتعمّدة، التي أفضت إلى حصر توقيفه بأبسط ملفّاته وأكثرها هامشيّة، بدل توسعة التحقيق ليطال الشبهات الأكثر خطورة وجديّة. جاء هذا الإفراج كمكافأةٍ لسلامة على تورّطه في أحد أكبر المخطّطات الاحتياليّة التي عرفتها الاقتصاديّات في العالم. ورغم كونه متّهماً من القضاء الأوروبي بعمليات تبييض أموال، لم يثنِ ذلك مدّعي عام التمييز اللبناني عن إحصاء كفالة الـ14 مليون دولار التي سدّدها سلامة نقداً.
ليس إطلاق السراح هذا إجراءً قضائياً معزولاً. فقد سبقه إمساك العهد ورئيسه بقيادة مصرف لبنان، ممثّلةً بشخص الحاكم الجديد، بعد مواجهةٍ حادّة مع رئيس الحكومة وعدد من الوزراء. وقد امتنع الحاكم الجديد عن استكمال التدقيق الجنائي عبر فتح تحقيق داخليّ يمكن البناء عليه للمحاسبة والمساءلة.
إنّ تبنّي الرئيس لمرشّح لوبي المصارف هو المقدّمة المنطقيّة لخروج رياض سلامة من السجن.
2. تعويم سوزان الحاج
يشكّل تعيين سوزان الحاج مساعدةً ثانيةً لرئيس وحدة الإدارة المركزيّة في قوى الأمن الداخلي، فضيحة أخلاقية وأمنية وقضائية تلطّخ العهد وقصره. فالحاج جريمتُها ثلاثيّة:
أ- سخّفت قضية العمالة لإسرائيل واستخدمتها لفبركة ملفّ لصحافيّ كتب تغريدةً لم تعجبها.
ب- أثبتت قلّة كفاءة رهيبة حتى في الفبركة التي لم تطل الصحافيّ المقصود، بل ممثّلاً مسرحياً يحمل الاسم نفسه.
ج- أثبتت دناءةً أخلاقيّةً استثنائية حين أمضت أسابيع تنام في منزلها وهي تعرف أنّ هناك شخصاً بريئاً ينام في أقبية أمن الدولة حيث يتعرّض للتعذيب.
سوزان هذه، أعاد لها العهد الجديد اعتبارها، وعيّنها في منصب جديد في قوى الأمن الداخلي التي يُفترَض أن تسهر على أمن الناس.
مرّةً أخرى، ليس تعيين سوزان الحاج مجرّد إجراء إداريّ أقدم عليه مدير عام قوى الأمن الداخلي. فإضافةً إلى الهمس الكثير حول قُرب الحاج وزوجها من القصر الجمهوري، لم تكن إعادة تعيينها لتحصل لو لم يمتنع رئيس الجمهوريّة عن توقيع مراسيم إحالتها للمجلس التأديبي، لتكمل مشوار الإفلات من العقاب.
3. ضرب الحريات الإعلاميّة
عاد شبح الأجهزة المشؤوم ليطلّ من جديد. فقد شهد هذا الأسبوع استدعاءَيْن لناشطَيْن، الأوّل من مكتب مكافحة جرائم المعلوماتيّة بسبب منشور اعتُبِر مسيئاً لزوجة رئيس الجمهوريّة، والثاني من الأمن العام بسبب الانتساب إلى مجموعة فيسبوكيّة. وما زاد الأمر سوءاً هو ما صدر عن رئيس الجمهوريّة خلال استقباله وفداً من مجلس إدارة تلفزيون لبنان. فقد أبدى الرئيس مشكوراً تأييده للحريات الإعلامية، لكن بشروط، بينها: عدم التحريض على رموز الدولة، وعدم الإساءة إلى دول شقيقة وصديقة.
يتساءل المرء عن معنى حرية كهذه في بلد اعتاد على رموز دولة غارقين بالفساد، وعلى دول صديقة وشقيقة تنتهك سيادته وتحرّض طوائفه بعضها ضدّ بعض. كان يمكن لهذا التصريح أن يمرّ مرور الكرام، لو لم تسبقه بطولات وزير الإعلام بول مرقص- المعيّن من قبل رئيس الجمهوريّة- في لجنة الإدارة والعدل. فالتعديلات التي حاول الوزير إدخالها على مسوّدة قانون الإعلام الجديد لا تعكس إلا ميلاً إلى تقييد الحريات وحرصاً على حماية السلطة منها.
4. حصّة كازينو لبنان
لم يكن رياض سلامة وحده من خرج من السجن في الأيام الأخيرة بكفالة. فقد تبعه الخروج المفاجئ لمدير كازينو لبنان رولان خوري، المحسوب على التيّار الوطني الحر، بعدما جرى تقزيم الشبهات التي يجري التحقيق بشأنها، لتصبح جُنَحاً بدلا من جنايات عند توقيفه. وبذلك، بات واضحاً أنّ ما صوّره العهد في بداياته كحملة ضد الفساد، لم يكن سوى حروب صغيرة للمقايضة على حصّة الرئيس من مناصب الفئة الأولى، في إدارات الدولة.
ليست هذه إلا أمثلةً عن سلوك قد يضرب عهد جوزاف عون، وهو لم يُكمل سنته الأولى بعد. فتحْتَ نقاش السلاح، ثمّة مياه آسنةٌ تجري، من ألاعيب حاكم مصرف لبنان كريم سعيد الذي يحاول تدفيع الدولة ثمن ما ارتكبه القطاع المصرفيّ، إلى الشبهات حول طريقة تمرير صفقة ستارلينك التي حرص عليها وزير الاتصالات المحسوب هو الآخر على رئيس الجمهورية، إلى «تمرّد» الأجهزة الأمنيّة واستمرارها في إصدار مذكرات الإخضاع رغم القرار الحكوميّ الواضح بمنعها.
وبالمناسبة، ألا تزال لبنكرجيٍّ كأنطون الصحناوي حَظوتُه في القصر الجمهوريّ؟