لطالما قُدّمت العدالة بعد الثورات كفعل بطولي، مبنيّ على وضوحٍ ضمنيٍّ للحقيقة، ما يعني في المحصّلة الانتصار، كنوع من أنواع الرضا لمن دفعوا حياتهم ثمناً لما استُعيد من حقوق. مضت ستة أشهر على سقوط نظام «الأبد». فعليًّا، لم يسقط «الأبد»، بل هرب. والفرق بين هروب الديكتاتور وسقوطه ليس مجرد فرق في الأفعال، بل هو فرق في الشعور الجمعي، والمصير، وطبيعة النهاية. وما يدهشني في هذه النهاية، أن الستارة انفتحت على بلدٍ عارٍ تمامًا. في كل يوم، تتكشف دلالته على الصعيد الحقوقي والأمني، وهو ما بدأ ينعكس على جوهر المساحات التي تديرها السلطة الحالية للرئيس أحمد الشرع، وما تشمله من رقابة وما تسمح به من إنصات. وقد اتّضح ذلك بالأمس، يوم الثلاثاء 10 حزيران، خلال المؤتمر الصحفي للجنة السلم الأهلي، الذي شارك فيه عضو اللجنة حسن صفوان، بالإضافة إلى نور الدين البابا، المتحدث باسم وزارة الداخلية.
بين تطلّعات أهالي الضحايا و«دبلوماسية» التجاوُز
استعرض حسن صفوان خلال المؤتمر، برصانة واضحة، أجوبة مفصلية حول أسئلة تمسّ الرأي العام السوري بخصوص مضمون العدالة الانتقالية، منها: ما هو مفهوم الأمان؟ لماذا يُعاد تعويم فادي صقر مجددًا؟ من هم الموقوفون الذين أُطلِق سراحهم حتى الآن؟ ليُختتم الحديث- بما يشبه دعابةً في غير محلها– بربط العدالة المطلقة بيوم القيامة.
ولا يمكن اليوم الحديث بما هو شخصي عند تناول قدرة صفوان على تقدير الموقف، أو فهمه للعدالة كمنطلق للسلم. إلا أن المدهش في الأجوبة، قبل مضمونها، هو قدرة حسن صفوان على تبطين الأخبار السيئة التي تمس الضحايا، بتناقضٍ ينفي مفهوم الإنصاف وفرض الحقائق، أو الإنصات كفعلٍ بنّاء يجب أن يُدرج ضمن أولويات لجنة السلم الأهلي. إلى جانب غياب الوعي العميق لحقيقة أن ظهوره في مؤتمر صحفي يُعَدّ اختبارًا حقيقيًا لمفهومَيّ العدل والحرية بعد سقوط نظام الأسد.
مبدئيًا، لا يمكن فصل السلم الأهلي عن العدالة الانتقالية، وعن معالجة قضايا الانتهاكات وتضميد الجروح التي ما زالت مفتوحة للضحايا، من أجل إعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوري. ولا يمكن تحقيق ذلك دون إيجاد توازن دقيق في هذه المسارات، يضمن العدالة بمعناها الشامل، أي كشف الحقيقة كاملةً، وبوسائل قضائية وغير قضائية، لضمان أساسيات السلم الأهلي. وقد أكد مؤتمر الأمس غياب هذا التوازن في أكثر من إجابة قدمها عضو اللجنة، حسن صفوان، الذي أعاد طرح المفاضلة بين العدالة والاستقرار.
يُعرَّف الأمان كتحرر من الخطر، إلا أن صفوان اختار أن يعرّفه عبر «التجاوز»، حيث ربطه مباشرةً بالقبول. قبول إعادة تعويم فادي صقر. لماذا؟ بحسب صفوان: لتفادي انفجارات أعنف. تبرير تجاوز القضاء والعدالة ومقايضتهما بالعنف لا يمكن أن يتقاطع بأي شكل مع مسؤول ضمن لجنة سلم أهلي. ربما، لو تم هذا الطرح ضمن مؤسسة قضائية، تشرح سياق هذا التعويم الحساس جداً لأهالي الضحايا، لَشمل شرحًا أكثر شفافية. إلا أنه من الواضح أنّ من وظّف صفوان لهذه المهمّة، يدرك تمامًا أنه الأقدر على إجراء هذه المقايضة أمام الشعب السوري، خصوصًا وأنّ هذه المقايضة كانت حاضرة بقوة في سياق نظام الأسد: مقايضة القبول بدل دفع الثمن، دون توضيح على أي أساس قد يتم القبول، وما هو هذا الثمن؟
هذا يعني أن السلم الأهلي كمفهوم جامع خسر أهمّ أساسياته: طيّ الماضي من خلال كشف الحقيقة. بينما، مما لا شك فيه، أن لجنة السلم الأهلي حتى الآن تُجبرنا على التماهي مع معلومات وقرارات وإجراءات بلا حقيقة واضحة. وهذا يعني، وبشكل بديهي، أن اللجنة غير مدركة أنها، كما هي جزء من ماضي الانتهاكات، هي أيضًا جزء فاعل في صياغة فهمنا للمستقبل. ما يعني أن السلم الأهلي لا يمكن أن يكون مستدامًا ما دامت أدوات بنائه الأساسية قائمة على تنازلات سطحية تمسّ جوهر المعلومة وطريقة تقديمها للضحايا.
سوريا التي تُسائل وسوريا التي تُطيع
ما ورثناه من نظام الأسد ثقيل جدًا، خاصة في فهمنا لذواتنا، وعلاقتنا مع السلطة، سواء في الشأن الشخصي أو العام. ولا يمكن لهذا الإرث إلا أن يظهر كمثالٍ نستذكره بشكل مضطرب ومرعب، نخاف تكراره. وقد كان شبح هذه الذاكرة حاضرًا بشكلٍ ما في أسئلة الحاضرين.
انتقال الميكروفون بالأمس بين عدة أصوات يمكن تحديدها بثلاثة ملامح أساسية: الأوّل، تحدّي الخطاب السائد بشكل مباشر، مع التركيز على الضحايا وتطلعاتهم وحقوقهم الأساسية، ضمن وعي واضح بسياق المؤتمر. في مداخلة الناشط فارس زين العابدين، لمس جوهر الرصانة التي تحدّث بها حسن صفوان وتناقضها مع الواقع، بتحويل سؤاله إلى طلبٍ لمعرفة مكان قبر خاله، الذي قتله فادي صقر، والذي تعمل السلطة على تعويم وجوده ضمن السلم الأهلي. في نبرة فارس كان هناك جهد واضح لتجنّب العائقَيْن الأكبر أمام أيّ سلم أهلي: الغموض والتعقيد.
على النقيض، كان السياق السوري الموروث من ظل نظام الأسد حاضرًا بوضوح، ضمن الفضاء الإعلامي. فقد ربّى النظام المنظومة الإعلامية على القمع والمراقبة من جهة، وعلى تبرير غياب الحقيقة من جهة أخرى، تحت ذريعة «نعمة وجوده» و«منطق حكمته». حتى بعد سقوط النظام، وإن ضمنت السلطة الحالية جزءًا من فضاء الحرية، يبقى الإرث أثقل، متجذرًا في الجهاز العصبي الجماعي، وفي طرق إدارتنا لذواتنا في المساحات العامة التي تراقبها الكاميرات. البعض تخلّص من هذا الإرث بجسارة، إلا أن مداخلة ريم الموسى، رئيسة المكتب الصحفي للتلفزيون العربي السوري، التي بدأت باقتباس من الرئيس أحمد الشرع، تفرض على المستمع شعورًا بأن الحكمة هناك في مكان الرئيس، حتى فيما هو غامض أو غير عادل أو غير مفهوم. وانتهت مداخلتها بالتذكير بضرورة عدم الخروج عن «طاعة وليّ الأمر». وكما علّمنا نظام الرقابة الأسدي، يجب أن «نكسر المنتقدين من حولنا»، لضمان الرضا، رضا من يراقبون خلف الكاميرات. وهكذا، نعود إلى الركيزة التي فرضها النظام: أنّ الحبّ، لا الأسئلة، هو ما يضمن بقاءه. باليقين الغامض، لا بالمساءلة.
وما يبدو مدهشًا هو أن المداخلتَيْن كانتا في مؤتمر واحد، داخل سوريا. لكن ما يجب الاعتراف به هو أن سوريا في المداخلتَيْن لم تكن واحدة. كان هناك تناقض واضح: بين سوريا جديدة تُبنى بالمواجهة المباشرة والمساءلة، للوصول إلى إجابات، وسوريا قديمة مغلقة، قائمة على الرياء والحجب.
المؤتمر الصحفي للجنة السلم الأهلي لم يكن مجرّد مناسبة بروتوكولية، بل كان اختبارًا حيًّا لمدى استعداد السلطة الجديدة لمواجهة الحقيقة بدل التفاوض حولها. هنا يكمن جزء من المشهد السوري، في مؤتمر أكد من الهامش إلى صلب موضوعه، حجم التناقضات. ولعلّ أهمّها هو أنّه ما دامت العدالة خاضعة للمقايضة، فلن يكون السلم إلا هدنة هشّة، لا تعكس المصالحة الحقيقية، بل تؤجّل العنف، ما يؤكد أنّ التحدي الأكبر يكمن بالاعتراف بالواقع، وأننا لسنا على أرض موحدة، بل في مساحات متجاورة متصادمة في الوعي واللغة والذاكرة.