اللعب والمدينة: مجهودات جماعيّة لصنع ملاعب شعبيّة
17
دقيقة

اللعب في المدينة

في سن الحادية عشرة، بدأتُ بلعب كرة القدم. كانت كل مغامراتي تدور حول اللعب. كنا نقصد البحر وقت ما شئنا، ونلتقط قنافذ البحر. وقتذاك، كان شارع التنّوخيين (في الحمرا) هو ملعبنا. كان الشارع طريقاً ترابية، وهناك تعلّمنا ولعبنا كرة القدم. كنا نلعب وقت ما شئنا. كان الناس يشاهدوننا من الشرفات ويرَون فينا طاقات واعدةً، وهكذا انتهى بنا الأمر في نادي النجمة… هناك مبنى شاهق اليوم، كان ملعباً لي في ما مضى… كانت كل تلك المساحة ملعباً لي.
— من مقابلة مع رهيف تميم في 13 كانون الثاني، 2013، «مشروع التاريخ الشفهي لرأس بيروت»، «مبادرة حسن الجوار» في الجامعة الأميركية في بيروت.

بهذه الكلمات، وصف أحد سكّان رأس بيروت تجربته في اللعب في المدينة. مستعيداً أيام الصِّبا، استذكر تميم حيّ طفولته على أنه «ملعبه». كذلك استحضر كيف شكّل اللعب خارج المنزل مغامرات طفولته، وخطوته الأولى نحو الانضمام الى فريق لكرة القدم. يتيح لنا التفكير في «اللعب» طريقةً جديدةً لرؤية مساحات المدينة. فاللعب هو شكل من أشكال المعرفة بهذه المساحات، حيث تقوم النشاطات على الإبداع والتلقائية المقترنة بالتفاعلات اليوميّة. من خلال هذا المنظار، بإمكاننا فهم كرة القدم– أو أي نوع آخر من اللعب في الشارع– كممارسة حيويّة ومرِحة تعيد إنتاج المساحات المدينية واستعادة الحق فيها.

المدينة كملعب

تستجيب هذه الممارسات لطموح الفيلسوف المديني هنري لوفيفر بأن يتجاوز اللعب قيود الزمان والمكان المحدّدة له في الحدائق أو الملاعب الرسمية ليفيض عنها، مجسّداً بذلك لعباً متحرّراً من الحدود في المدينة. لماذا، يسأل لوفيفر، لا يمكن للملعب أن يشمل المدينة بكاملها؟ لقد رأى لوفيفر في العفوية المتجسّدة في اللعب إمكانيةً لتفكيك نظام الأشياء وزعزعة البنى الصلبة لما أسماه المساحة المجرّدة، وبمزيد من التحديد، مساحة الرأسمالية الحديثة المتعنّتة. بدلاً من ذلك، يثير اللعب نوعاً من انعدام القابليّة للتنبؤ، ويتيح بالتالي إمكانيات جديدة في النظام المديني الجامد القائم. وبحثًا عن هذه الإمكانيات الجديدة، يستند هذا النص إلى دراسة عن صناعة الملاعب في بيروت من قبل أولاد الحيّ الذين لا يرون فارقاً بين أراضٍ عامة وخاصة، ولا يعنيهم هذا الفصل أصلًا، فينتجون من خلال هذا التلاعب الحرّ إمكانيات جديدة للعيش واستملاك المدينة. كما نروي في هذا المقال تجربة هؤلاء الأولاد في تحويل 9  أراضٍ خالية إلى ملاعب مستدامة، وتجربتنا في تحويل قصة ملعب إلى فيلم وثائقي يتناول علاقته بنظرة السلطات العدائيّة للمساحات العامة. 

Henri Lefebvre (1996), 'The Right to the City', translated from 'Le Droit à la ville' (1968), Blackwell Publishers Inc 

أين يلعب الناس في بيروت؟

مستَلهِمين أفكار لوفيفر عن القدرة التغييرية أو الثورية للّعب، أنجزنا بحثاً في العام 2014-2015 حول مساحات اللعب في المدينة في سياق العمل على منشور بعنوان «ممارسة العام». منشور مستقلّ من تحرير منى فواز وأحمد غربية، بالشراكة مع عبير سقسوق ونادين بكداش. تم توزيعه مع جريدة السفير في 12 تشرين الأول 2015. هو عمل مشترك يستند إلى الخرائط والتصوير والاثنوغرافيا لتناول سبل استخدامنا للمساحات العامة، متجاوزاً تصنيفات الأمكنة وتقسيمها إلى أمكنة عامة وخاصة ومناطق ذات نفوذ طائفي. كما يطرح المنشور أسئلة تتناول معنى «المكان العام» وطرق التفاوض عليها واستملاكها وسُبل تشاركها. انطلقنا في البحث من سؤال بسيط: أين يلعب الناس في بيروت؟ ونظراً لجاذبية لعبة كرة القدم، كان من الطبيعي أن نركّز بحثنا عليها باعتبارها الممارسة العامة الأكثر شعبيّة واستمراريّة. كذلك آثرنا تحرّي الملاعب المفتوحة والناتجة عن مجهودات إبداعية ذاتية أو جماعية لأننا وجدنا فيها الإمكانيات الأنسب والأكثر إلهاماً لقراءة «المساحات العامة» من وجهة نظر مستخدميها بدلاً من مؤسسات الدولة أو السلطة. 

«ممارسة العام: عن المساحات المشتركة في بيروت» (2015) تحرير منى فوّاز، وأحمد غربية، وعبير سقسوق، ونادين بكداش، السفير

لم نقارِب كرة القدم كـ«رياضة حديثة» مرتبطة بنظام من المؤسسات (العامة أو الخاصة) والوكلاء الذين يمثّلون مصالح الرياضة ويدافعون عنها، والذين ينتجون السلع الرياضية (المعدّات والملابس والقمصان قصيرة الأكمام).   P. Bourdieu (1978): “Sport and Social Class”, Social Science Information, 17, 819-40. على العكس من ذلك، كان اهتمامنا في «الممارسة البسيطة للألعاب» التي ميّز بورديو بينها وبين الرياضة الحديثة. انطلاقاً من هذه التفرقة، بحثنا عن ملاعب لكرة القدم يمكن للشباب دخولها بحريّة، أفراداً أو جماعات، ومن دون دعم مؤسّسي، ببساطة للاستمتاع باللعب ولقضاء بعض الوقت سوياً، بعفوية وتلقائية.

الملاعب الرسمية والغير رسمية بحسب البحث في 2015 (نشر في «ممارسة العام»، 2015) 

 85% من ملاعب كرة القدم غير الرسمية أو الشعبية الموجودة في العام 2003 قد تحوّلت في عام 2014 إلى مواقف للسيارات أو مبانٍ أو ورشات بناء.

قمنا بتقصّي ملاعب كرة القدم على خريطة جوية لبيروت تعود الى العام 2003 من خلال لون التراب البرتقالي لأرض الملعب أو خطوط الملعب المخططة على الأسفلت. من ثمّ، توجّهنا الى الميدان للتحرّي عن وضعها الحالي. في المحصّلة، قمنا برسم خريطة لستّين ملعباً في بيروت الإدارية ومحيطها القريب، لم تعد تُستخدَم بين عامَي 2003 و2013 كملاعب لكرة القدم. وتوصّلنا إلى الاستنتاج بأنّ 85% من ملاعب كرة القدم غير الرسمية أو الشعبية الموجودة في العام 2003 قد تحوّلت في عام 2014 إلى مواقف للسيارات أو مبانٍ أو ورشات بناء.

لكن من خلال بحث أعمق، وجدنا أن عدداً من ملاعب كرة القدم غير الرسمية لا تزال محفوظة في المدينة من خلال الممارسة الجماعية، فيما تنشأ في الوقت عينه ملاعب أخرى جديدة. وفي ضوء هذا، اخترنا عشرة ملاعب منها في بيروت وضواحيها، صنعها واهتمّ بصيانتها شباب الأحياء، وخدمت مجموعةً واسعةً ومتنوّعةً من اللاعبين، مثل الفتيات والفتيان الذين يمارسون ألعاباً مختلفة، أو العائلات التي تقصدها للتنزّه. 

«ولعب»

اليوم، والتزاماً بفكرة «المدينة من وجهة نظر مستخدميها»، نعود الى المشروع بعد عشر سنوات على إنجازه، إنما هذه المرّة من خلال فيلم يحاكي الممارسات الجماعية المتّسمة بتخطّي الحدود وتثبيت الأحقّيّة في مساحات المدينة، ليطرح أسئلة حول الملكيّة ومساحات اللهو في بيروت اليوم.

«ولعب»، يأخذنا إلى ملعب الكرنتينا لنتعرّف إلى الحيّ وعلاقة سكانه بالمساحات العامة. يركّز الفيلم على تفاصيل رواية صناعة هذا الملعب كمثال لحركة شبابية شاعت في التسعينات من أجل تحويل أراضٍ خاصة ومتروكة إلى ملاعب لكرة القدم، نذكر منها ملعب أرض جلول في طريق الجديدة وملعب الباشورة. كما يربط الفيلم اللعب في مساحات المدينة التي تعتبر خاصةً بتلك التي حُدِّدت كحدائق عامة. وتبرز هنا ممارسات  كإغلاق الحدائق والحدّ من زوّارها وخصخصتها وحتى جرفها كإجراءات سائدة تتخذها السلطات المحلية ليتبيّن العداء الذي تضمره لكلّ ما هو عامّ.

يقع تطوير البحوث عن المدينة التي نقوم بها في استديو أشغال عامة عبر وسائل فنية، كصناعة الأفلام، في صلب سبب وجود هذه البحوث، أي نقض الخطاب السائد الذي ينظر إلى الأرض كسلعة، وبناء وعي جماعي للإمكانيات السياسية و التغييرية في رؤية الأرض من منظور قيمتها الاجتماعية. من هذا المنظار، قمنا بتجربة تحويل بحث «إنتاج اللامساواة في تنظيم الأراضي اللبنانية» إلى أفلام قصيرة روائية، بالتعاون مع أربعة فنانين- مجد الحموي وغسان حلواني وهاشم عدنان وساسين كوزلي- خاضوا تجربة الكتابة الجماعية لنقل مادة عن تاريخ التنظيم المدني إلى روايات متخيّلة. نتج عن هذه التجربة فيلم «لم يعودوا يروا في الأرض سوى أمتاراً مربعة».

هذا الفيلم دعوة لمتابعة مخيّلة لوفيفر السياسية من أجل تصوّر إمكانيّة أو حتى  فرصة لمدّ اللعب على كامل المدينة، وإن كان على امتداد عرض الفيلم فقط.

نتعاون اليوم مع «أرجوان» بالشراكة مع «ميغافون» لإنتاج سلسلة أفلام وثائقية تحت عنوان «بيروت لمين؟»، «بيروت لمين؟»، هي سلسلة من المقالات المصورة النقدية تعرض عبر منصّة ميغافون أحوال مدينتنا اليوم وتحوّلاتها، وممارسات المقيمين فيها، لاسترجاع ولو أجزاء منها لتلبي حاجاتنا اليومية. الحلقات اللاحقة من هذه السلسلة ستتناول، واحدةً تلو الأخرى أو بشكل مرتبط، قضايا مثل السكن والنقل والبنية التحتية والمرافق واستخدامات الأراضي والأماكن العامة والممارسات الترفيهية والأمنية والسياسة اليومية. ونطلق من خلال منصة ميغافون الفيلم الأول «ولعب». على هذا النحو، بالإضافة إلى المشاهدة عبر الإنترنت، سنقوم بتنظيم عروض عامة في الأماكن العامة، والتي ستكون وسيلة لتكملة التواصل مع الأشخاص الذين ليس لديهم إمكانية الوصول إلى المنصات عبر الإنترنت. نحن ننظر إلى تلك العروض العامة على أنها مجال للمناقشات الجماعية وتشكيل الوعي السياسي الذي نطمح إليه. نسعى من خلال هذا التعاون إلى استخدام لغة الفيديو كعدسة لاستكشاف وتفسير الجوانب المختلفة لتجربة العيش في المدينة. سوف تعتمد أفلام هذه السلسلة على أبحاث سابقة أو حالية أجراها استديو أشغال عامة لتتحوّل إلى تحليل سينمائي يحمل عنوانه الخاص. هذه الأفلام ليست إعلامية فحسب، بل إنها مادة للتفكير، أي نريدها أدواتٍ في أيادي سكان بيروت الكبرى، جمهورنا المستهدف الرئيسي، للتفكير في البيئة العمرانية التي يعيشون فيها ولتخيّل طرق تحويلها لصالح المجتمع.

بكلام آخر، هذا الفيلم دعوة لمتابعة مخيّلة لوفيفر السياسية من أجل تصوّر إمكانيّة أو حتى  فرصة لمدّ اللعب على كامل المدينة، وإن كان على امتداد عرض الفيلم فقط.

اللعب رغماً عن مالكي العقار

كما في كثير من السياقات المدينية، حيث المساحات العامة المخصّصة للّعب نادرة بينما تلك المساحات المتروكة أو الهامشية وحدها متاحة، يستذكر كثير من سكّان بيروت بشغف لعب كرة القدم في ما يصفونه «بُقعاً خاليةً». فلطالما كانت كرة القدم في الشارع، أو كرة القدم الشعبية، ممارسة شائعة في كثير من الأحياء. فبُقع الأرض ذات الملكيّة الخاصة غير المبني عليها، والساحات والشوارع غير النافذة، كلها تشكّل مواقع للعب كرة القدم. على سبيل المثال، كان لاعبو نادي الأنصار الشهير، والذي تأسس في حيّ الطريق الجديدة، يلعبون في حرش بيروت المجاور وفي كثير من البُقع الخالية في منطقة الطريق الجديدة. وكذلك الأمر بالنسبة لآخرين، مثل لاعبي نادي النجمة الذين كانوا يتدرّبون باللعب حفاة الأقدام على رمال الأوزاعي.

كان لاعبو نادي الأنصار […] يلعبون في حرش بيروت المجاور و[…]البُقع الخالية في الطريق الجديدة. وكذلك الأمر بالنسبة لآخرين، مثل لاعبي نادي النجمة

لم تكن هذه الممارسات استثناءً للعب كرة القدم، كما لم تكن العلاقة مع المساحات الترفيهية في الأماكن الطبيعية مقيّدة بالملكية. لكن مع ارتفاع الكثافة السكانية في المدينة وانتشار البناء فوق كلّ بُقعة خالية تقريباً، بقيت قلّة من المساحات المفتوحة مُتاحةً للاعبي كرة القدم.

بالعودة الى الملاعب العشر التي درسناها في عام 2014-15، نحاول اليوم طرح سؤال عن كيفية تحليلها وفهمها كمساحات للّعب في بيروت. في بحث «اللعب والمدينة: مجهود جماعي لصنع ملاعب كرة القدم الشعبية»، قمنا بمعاينة تسعة ملاعب كرة قدم تشكّلت بمبادرات من أهالي الحيّ بغرض لعب كرة القدم. تقع الملاعب في المناطق التالية: حرش القتيل وأرض جلول والكولا والكرنتينا وخندق الغميق ورأس النبع ومخيّم مار الياس، إضافةً إلى ملعبَيْن في منطقة الجناح. تتيح قراءة الأحياء التي تقع فيها الملاعب مَوْضعة أحقيّة الشباب في السياق التاريخي والمديني.

رسوم تسلسل زمني عن تاريخ الملاعب الغير رسمية في بيروت - ص. 21 من «ممارسة العام» (2015)

في رسوم تسلسل زمني، نوجز مسار بقعة الأرض في تحوّلها إلى ملعب لكرة القدم، فيما ننظر في وضع كل من هذه الأراضي منذ ستينات القرن الماضي والمراحل التي مرّت بها. ما يمكن استخلاصه من هذه السلسلة الزمنية، هو خريطة التحوّلات المساحية والمواجهات التي خاضها الشباب في وجه مالكي العقارات أو مدراء أعمالهم من أجل تأمين مساحة صغيرة للّعب.

من المفيد تذكّر ما يلي:

  1. إن ملاعب كرة القدم التسعة هي ملكيّات خاصة. ويتفاوت سلوك المالكين بين عدم التدخّل والتقبّل والمعارضة العلنية لاستخدام الأرض من قبل اللاعبين في أكثرية الحالات.  
  2. إن اكتساب هذه المساحات كـ«مناطق مفتوحة للّعب» على الرغم من مقاومة المالكين، يستلزم قدراً عالياً من التنظيم والالتزام من جانب الشباب.
  3. إن «صيانة» الملعب والحفاظ على تماسكه يتطلّبان نوعاً آخر من الاستثمار الذي يستلزم، الى جانب الممارسة المعتادة، خلق «وقائع على الأرض»، من خلال ترك الآثار الماديّة مثل إحضار مرامٍ لكرة القدم ووضع إشارات على الأرض واستخدام الغرافيتي وتركيب الإضاءة والمقاعد للجماهير، وغيرها من الأمور.

تسمح هذه الممارسات والإجراءات الجماعية بالمُطالبة بالمساحة وتحدّي هيمنة الملكيّة العقارية على المدينة، كون اللعب يتمّ رغماً عن مالكي العقار. بمعنى آخر، من خلال التجاوز الجماعي والتدخّل والاستئثار بأراضٍ ذات ملكيّات خاصّة في المدينة، ينجح هؤلاء الفتيان المراهقون والشبان والأطفال بتسليط الضوء على الاستحقاق بالاستخدام/الممارسة في العقار الخاص وفي المدينة بشكل عام.

الاستيلاء الهادئ

يُثبت هذا البحث أنّ ممارسات الشباب المساحية تتحدّى خطاب الملكيّة السائد بهدف حماية حقهم في لعب كرة القدم بحريّة في الخارج وبالقرب من مساكنهم. ولعلّ الوصف الأمثل لهذه الممارسات هو من خلال ما يسمّيه آصف بيّات «الاستيلاء الهادئ للناس العاديين» أي التقدّم الصامت وطويل الأمد إنّما النافذ للناس العاديّين على المُتَملِّك والقويّ من أجل البقاء وتحسين حيواتهم، من دون قيادة، أو ايديولوجية أو تنظيم هيكليّ واضح. Bayat (2010): Life as Politics: How Ordinary People Change the Middle East, Stanford University Press: 90-5,

ممارسات الشباب المساحية تتحدّى خطاب الملكيّة السائد بهدف حماية حقهم في لعب كرة القدم بحريّة في الخارج وبالقرب من مساكنهم.

تتّسم أحقيّة هؤلاء بآثار ماديّة غير ملحوظة، على شكل شِباك وكتابات على الجدران ومعالم حدود الملعب المرشوشة على الأرض بالغرافيتي، وغيرها من الممارسات التجاوزيّة العديدة. كما تسعى هذه الممارسات الفرديّة، الهادئة والمباشرة، إلى إعادة توزيع الفرص على شكل حيازة المساحات للّعب فيها.

عبّر كثير من الشباب في المقابلات عن الإحباط نتيجة اضطرارهم لحجز الملاعب الرسمية والخضوع لقواعد تحدّد ما يجب فعله أو عدم فعله في الملاعب الخاصة. وفي سعيهم إلى ممارسة عفوية وتلقائية في المساحة الخارجية، يبني هؤلاء الشباب تصرّفاتهم وممارساتهم على مبدأ المعامَلة بالمثل والتفاوض بدلاً من العقود والقواعد الثابتة. يتحدّى الشباب ممارسات السيطرة والتحكّم في الملاعب البلديّة، والتدابير المستخدَمة للحدّ من الدخول اليها. وتتضمّن هذه التدابير تشييد جدران أكثر ارتفاعاً وسياجات لضبط التجاوز، وكما يُروى في بعض الحالات، إتاحة الدخول فقط لحاملي تصاريح خاصّة الى مناطق محدودة وفي اطارات زمنية معيّنة. هناك ثلاثة ملاعب بلديّة احترافيّة في بيروت وضواحيها المجاورة (الملعب البلدي والمدينة الرياضية وملعب برج حمّود)، كانت جميعها قواعد عسكرية خلال الحرب الأهلية، وهي تخضع اليوم لسيطرة مشدّدة من قبل الجيش اللبناني. تُقام حالياً مباريات ودورات احترافية محدودة جداً في هذه الملاعب. لكن الملعب البلدي وملعب برج حمّود الواقعَيْن في منطقتين بكثافة سكانية عالية، لطالما كانا متاحَين للدخول إما من خلال التفاوض أو التجاوز من قبل الأهالي القاطنين في الجوار. يقفز الأطفال فوق السياجات ويحدثون فجوات في الجدران من أجل الدخول ويلعبون على أطراف الملعب الأساسي.

على الرغم من مواظبة هذه المساحات على تأدية دورها كمساحات اجتماعية للّعب، فإن بعضاً منها مُهدّد باستمرار. هناك تناقض واضح بين أنظمة الحَوكَمة المدينية (مثل حقوق الملكيّة وقوانين التخطيط) من جهة، والممارسات التعطيليّة والمقاوِمة التي تحدث في هذه المواقع، من جهة أخرى. 

قراءة الملاعب

ملعب مخيّم مار الياس

بُني‭ ‬مخيّم‭ ‬مار‭ ‬الياس‭ ‬في‭ ‬عام‭ 1952 ‬على‭ ‬أرض‭ ‬تابعة‭ ‬لوقف‭ ‬كنيسة‭ ‬الروم. كان‭ ‬محاطاً‭ ‬بالبساتين‭ ‬حتى‭ ‬سنة 1980.‬‭ ‬وقتها،‭ ‬كان‭ ‬شباب‭ ‬المخيم‭ ‬يلعبون‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬على‭ ‬أرضٍ‭ ‬قريبةٍ‭ ‬منه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتمّ‭ ‬البناء‭ ‬عليها. ‬في عام 1997،‬‭ ‬قرّر‭ ‬لاعبو‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬في‭ ‬المخيم– ‬وعددهم‭ ‬عشرون‭ ‬شاباً– ‬تجهيز‭ ‬الأرض‭ ‬الكبيرة‭ ‬المجاورة‭ ‬والملاصقة‭ ‬لمخيمهم. ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الأرض،‭ ‬بفترات‭ ‬مختلفة، متروكة كأرض‭ ‬بور‭ ‬أو تستعمل ك‬موقف‭ ‬سيارات، ‬كما‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬ألعاب‭ ‬ملاهٍ‭ ‬مع‭ ‬مراجيح. ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية،‭ ‬كانت‭ ‬الأرض‭ ‬مركزاً‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬القوى‭ ‬العسكرية‭ ‬المهيمنة، وهذا ما ‬لم‭ ‬يُعجب‭ ‬مالكي‭ ‬الأرض الذين قاموا‭ ‬برفع‭ ‬السور‭ ‬بين‭ ‬الأرض‭ ‬والمخيّم. ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬الحرب،‭ ‬خلت‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬استخدام،‭ ‬وهكذا‭ ‬قرّر‭ ‬لاعبو‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬تحويلها‭ ‬إلى‭ ‬ملعبهم. ‬جمع‭ ‬العشرون‭ ‬شاباً‭ ‬مبلغاً‭ ‬من‭ ‬المال‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬المخيم‭ ‬وأتوا‭ ‬بجرافةٍ‭ ‬لتسوية‭ ‬الأرض،‭ ‬وأقنعوا‭ ‬حدّاداً‭ ‬من‭ ‬المخيم‭ ‬بصنع‭ ‬العارضات‭ ‬وتركيبها‭. ‬

استُخدم‭ ‬الملعب‭ ‬لسنواتٍ‭ ‬طويلة،‭ ‬وأُقيمت‭ ‬فيه‭ ‬دورات‭ ‬لكرة‭ ‬القدم‭ ‬في‭ ‬خلال‭ ‬شهر‭ ‬رمضان،‭ ‬جامعة‭ ‬فرقاً‭ ‬من‭ ‬سائر‭ ‬مخيمات‭ ‬لبنان،‭ ‬وكذلك‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬الطريق‭ ‬الجديدة‭ ‬ونادي‭ ‬الصفا. ‬وشكّل‭ ‬الموقع‭ ‬لعائلات‭ ‬المخيم‭ ‬مكاناً‭ ‬للتنزّه‭ ‬وقضاء‭ ‬الوقت‭ ‬مع‭ ‬الأطفال،‭ ‬فوضعوا‭ ‬سلّماً‭ ‬حديدياً‭ ‬ليسهّل‭ ‬دخول‭ ‬الأطفال‭ ‭. ‬

كانت أرضيّة‭ ‬الملعب‭ ‬مغطاةً‭ ‬بالزفت،‭ ‬كونها‭ ‬كانت‭ ‬تُستخدَم للملاهي‭ ‬سابقاً.‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تمتصّ‭ ‬مياه‭ ‬الأمطار‭ ‬التي‭ ‬تتجمع‭ ‬وتفسّخ‭ ‬الأرض. ‬فكثرت‭ ‬الحفر‬‭ ‬جرّاء‭ ‬الأمطار‭ ‬وسحل‭ ‬التربة. ‬فقام‭ ‬أهل‭ ‬المخيم‭ ‬بالتعاون‭ ‬مع‭ ‬المؤسسات‭ ‬الفلسطينية‭ ‬بتغيير‭ ‬اتجاه‭ ‬الملعب‭ ‬وجعل‭ ‬مساحته‭ ‬نصف‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬سابقاَ.‬ فاستطاعوا‭ ‬اللعب‭ ‬عليه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬حالته‭ ‬متدهورة‭. ‬

الفرق والدورات والانتماء للمدينة

‬كان ل‬كل‭ ‬مجموعة‭ ‬شباب‭ ‬في‭ ‬المخيم‭ ‬فريق‭ ‬كرة‭ ‬قدم‭ ‬خاص‭ ‬بها. أسماء ‬الفرق‭ ‬القديمة‭ ‬كثيرة،‭ ‬وأبرزها‭ ‬كان‭ ‬فريق‭ ‬الرملة‭ ‬وفريق‭ ‬الإنعاش‭.‬ في‭ ‬عام‭ ،2016‬‭ ‬اندمج‭ ‬الفريقان‭ ‬وشكلا‭ ‬نادي‭ ‬مار‭ ‬الياس. ‬للنادي‭ ‬أربعة ‬فرق‭ ‬بحسب‭ ‬الفئات‭ ‬العمريّة،‭ ‬ولكلّ‭ ‬فريق‭ ‬بدلتان‭ ‬مختلفتا‭ ‬الألوان. ‬كما‭ ‬أنهم‭ ‬يعملون‭ ‬على‭ ‬تشكيل‭ ‬فريق‭ ‬إضافي‭ ‬للبنات‭.‬ خلال‭ ‬شهر‭ ‬رمضان 2015، ‬نظموا‭ ‬مباريات‭ ‬حضرها‭ ‬عدد‭ ‬كبير ‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬المخيم،‭ ‬وشاركت‭ ‬فرق‭ ‬فلسطينية‭ ‬عديدة‭ ‬من‭ ‬جدرا‭ ‬والناعمة‭ ‬ومخيم‭ ‬برج‭ ‬البراجنة‭ ‬وصبرا‭ ‬ومخيم‭ ‬شاتيلا‭ ‬وطبعاً‭ ‬مخيم‭ ‬مار‭ ‬الياس.‭ ‬دعوا‭ ‬فرقاً‭ ‬كثيرة‭ ‬كون الدورة كانت ال‭‬أولى التي‭ ‬تحدث‭ ‬في‭ ‬مار‭ ‬الياس‭ ‬منذ‭ ‬زمن طويل. ‬فاز‭ ‬فريق‭ ‬مار‭ ‬الياس‭ ‬وقاموا‭ ‬بالاحتفال‭ ‬ب‬رشّ‭ ‬المياه‭ ‬من‭ ‬الخرطوم‭ ‬على‭ ‬الموجودين‭ ‬ابتهاجاً. ‬كما‭ ‬قاموا‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬العام ذاته‬‭ ‬بتنظيم‭ ‬دورة‭ ‬كرة‭ ‬قدم‭ ‬بإسم‭ ‬شهداء‭ ‬تل‭ ‬الزعتر. يومَي‭ ‬السبت‭ ‬والأحد‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أسبوع،‭ ‬ينظم شباب الحيّ‭ ‬مباريات‭ ‬للصغار‭ ‬في‭ ‬‭‬الملعب،‭ ‬أي‭ ‬فرق‭ ‬الدرجات‭ ‬الثانية‭ ‬والثالثة‭ ‬والرابعة. أما ‬فريق‭ ‬الكبار،‭ ‬فيتدرّب‭ ‬خارج‭ ‬الملعب‭ ‬بسبب‭ ‬سوء‭ ‬وضعه.‭ ‬لذا، فإنّ‬هم‭ ‬يجدون‭ ‬موضوع‭ ‬تأهيل‭ ‬الملعب‭ ‬أساسياً،‭ ‬وذلك‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يدفع‭ ‬اللاعبون‭ ‬إيجارات‭ ‬مكلفة‭ ‬عندما‭ ‬يريدون‭ ‬التدريب‭ ‬أو‭ ‬إقامة‭ ‬مباراة‭ ‬في‭ ‬ملاعب‭ ‬أخرى‭ ‬خارج‭ ‬مار‭ ‬الياس‭.‬ يوضح المدرب فارس أحمد:

في كثير من الأحيان، لا يستطيع كل الناس الدفع. لذا، فإنّ اللاعبين القادرين على تحمُّل التكاليف يدفعون لمن لا يستطيعون. وفي أحيان أخرى، إذا كان مكان المباراة بعيدًا، كما هو الحال في مخيم الطيبة (البقاع)، على سبيل المثال، فإن الفريق الذي نلعب ضده يغطي تكلفة إيجار الملعب ويستضيفنا كضيوف.

في كثير من الأحيان، يتدرّب الفريق في ملعب الصفا مجانًا. الصفا فريق دولي مثل الأنصار، كما يقول أبو رامي. المدرب يتعاطف معنا كفلسطينيين.
يشرح‭ ‬سكان‭ ‬المخيم‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أنشطة‭ ‬فلسطينية‭ ‬كثيرة‭ ‬واحتفالات‭ ‬مثل‭ ‬يوم‭ ‬الأرض‭ ‬كانت‭ ‬تحدث‭ ‬في‭ ‬الملعب‭.
‬وحكت‭ ‬الحاجة‭ ‬أم‭ ‬علي‭ ‬عن‭ ‬عرس‭ ‬إبنها‭ ‬الذي‭ ‬مرّ‭ ‬في‭ ‬ملعب‭ ‬كرة‭ ‬القدم. هكذا ‬يشكّل‭ ‬الملعب‭ ‬مساحة‭ ‬مشتركة‭ ‬وعامة‭ ‬لأهل‭ ‬المخيم‭ ‬وأهالي‭ ‬باقي‭ ‬المخيمات‭ ‬الفلسطينية‭ ‬للتنزه‭ ‬وتقضية‭ ‬الوقت‭ ‬والنشاطات‭.
كما‭ ‬ثمّة‭ ‬بُعدٌ‭ ‬إضافي‭ ‬لهذا‭ ‬الملعب‭ ‬يتمثل‭ ‬بتشكيل‭ ‬الفرق‭ ‬والعمل‭ ‬الجماعي‭ ‬في‭ ‬المدينة‭.‬ معظم‭ ‬الفرق‭ ‬تتكوّن‭ ‬من‭ ‬فلسطينيين. ‬وتقام‭ ‬أهم‭ ‬مبارياتهم‭ ‬بذكرى‭ ‬مناسبات‭ ‬وطنية‭ ‬فلسطينية‭ ‬مثل‭ ‬ذكرى‭ ‬حق‭ ‬العودة‭ ‬أو‭ ‬دورة‭ ‬انطلاق‭ ‬الثورة. ‬فوجدت‭ ‬الفرق‭ ‬الفلسطينية‭ ‬نفسها‭ ‬قادرة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬على‭ ‬تعزيز‭ ‬تواجدها‭ ‬وشعورها‭ ‬بالانتماء‭ ‬للمدينة‭.‬

استدامة الملعب وإشكالية الملكيّة

لطالما واجه‭ ‬الملعب‭ ‬تحدّيات‭ ‬كبيرة.‭ ‬يقول‭ ‬اللاعبون‭ ‬أنّ‭ ‬أولويّتهم‭ ‬هي‭ ‬تأهيل‭ ‬الملعب وإصلاحه،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬اللعب‭ ‬فيه‭ ‬خطراً‭ ‬بسبب‭ ‬الحفر‭ ‬وكثرة‭ ‬النفايات‭ ‬فيه،‭ ‬مما‭ ‬يُعيق‭‬ أيضاً‭ ‬استخدامه‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الأطفال‭ ‬والعائلات.‬ وبحسب إسماعيل (لاعب وعضو في النادي)، فإن التدريبات أصبحت نادرة لأن الملعب مهترئ. ويوضح:

اللعب هنا خطير بسبب الحفر. كل الكبار لديهم وظائف، وعليهم تجنب الإصابات. لا يمكنهم تحمل التوقف عن العمل، حتى ليوم واحد. كل فريق يتدرب يومين في الأسبوع في ملاعب خارجية. في الجناح، الملعب مخصص لحركة أمل، تمّت خصخصته مؤخرًا. يتم تأجيره بالساعة، بمبلغ 90 ألف ليرة لبنانية لكل مباراة. يدفع كل لاعب من ماله الخاص يوم المباراة أو أثناء التدريب. يمكن لمديري الملعب أن يكسبوا 1,000 دولار شهريًا. ألا يكون من الأرخص لو أعطينا هذه الأموال للجنة الشعبية في مار الياس حتى تقوم بإصلاح الملعب للمخيم؟

يشرح‭ ‬السكان‭ ‬أنّ‭ ‬إصلاح‭ ‬الملعب‭ ‬بحاجةٍ‭ ‬الى‭ ‬مبلغٍ‭ ‬كبيرٍ‭ ‬من‭ ‬المال. ‬لكن‭ ‬الجمعيّات‭ ‬ترفض‭ ‬دعمهم‭ ‬لكون‭ ‬الأرض‭ ‬ذات‭ ‬ملكيّةً‭ ‬خاصّة. هذه‭ ‬الإشكالية‭ ‬تشكل‭ ‬مدخلاً‭ ‬أساسياً‭ ‬للتفكير‭ ‬في‭ ‬مستقبل‭ ‬الأرض‭ ‬كمساحة‭ ‬عامة‭ ‬ومشتركة‭ ‬للمخيم‭ ‬وللمدينة‭. ‬

ملعب الكرنتينا

  1. تضمّ منطقة الكرنتينا عقاراتٍ تقع فيها أبنيةٌ مؤلفةٌ من طابقين، تملكها وتقطنها عائلاتٌ مثل دونيكيان وشالوارجيان وغيرها، منذ ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي. بعد المجازر الأرمنية التي ارتكبتها القوات العثمانية في العام 1915، قدم آلاف الأرمن الى منطقة المدوّر في بيروت في أوائل العشرينات. وقتذاك، برز مخيم الكرنتينا للأرمن، ثم صار يسكنه فقراء من مناطق أخرى، كالأكراد والفلسطينيين والسوريين واللبنانيين الذين نزحوا إلى العاصمة، فيما انتقل بعض الأرمن واستقرّوا في منطقة الخضر (في الجزء الشرقي من الكرنتينا)، حيث اشتروا أراضي وبنوا فيها بيوتاً. حالياً، لا يتفاعل سكان منطقة الخضر كثيراً مع باقي المدينة، إذ فصلهم أوتوستراد الشمال في العام 1956 عن «العالم الخارجي»، بحسب وصف أحد السكان. اليوم، يستمرّ عددٌ كبيرٌ من سكان المنطقة عاطلين عن العمل، فيما لم يكمل العدد الأكبر من المتعلّمين تعليمهم الرسمي.
  2. في خلال الحرب الأهلية اللبنانية، هُدِم وجُرِف حيّ بأكمله في منطقة الخضر على يد الميليشيات. آنذاك، نزح سكان الحيّ (المكوّن من حوالي أربعين عقاراً صغيراً) إلى مناطق أخرى، وهاجر معظمهم إلى الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من الدول.
  3. بقيت العقارات فارغةً حتى نهاية الحرب الأهلية وعودة بعض سكان منطقة الخضر إلى بيوتهم. وبعدما استعادت المنطقة حياتها، أراد بعض سكان الحيّ من الشباب إنشاء ملعبٍ لكرة القدم، فاستخدموا الأرض الفارغة المقابلة لحيّهم، وجمعوا المال من السكان، وفرشوا الأرض بالرمال وركّبوا العارضات.
  4. طيلة سنواتٍ، لعب أولاد الحيّ في الملعب، ونظّمت الفرق المحليّة دوراتٍ لكرة القدم فيه. لكن في أوائل العام 2014، ركّبت شركة «ألفا» عموداً للإرسال الهاتفي في وسط الملعب (باعتبارها أرضاً مهجورةً)، ما عطّل نشاطاته وعرقل لعب كرة القدم فيه.
  5. في أواخر العام 2014، وردت شكاوى تفيد بأنّ عمود «ألفا» يشكّل خطراً على سكان المنطقة، وبخاصّةٍ في موسم الشتاء، إذ يلعب حوله الأطفال ويتسلّقونه. عندها، تراجعت الشركة عن «عملتها» ونقلت العمود الى موقعٍ آخر. هكذا، استرجع الشباب والأولاد الملعب وقاموا بتأهيله من خلال تجديد العارضات، عائدين إليه بحماسةٍ أكبر. حالياً، ينوي المدرّب الشاب تأسيس فريق كرة قدمٍ للبنات، وتدريبهنّ كما يدرّب الصِّبية. 

ملعب الباشورة

  1. كانت هذه الأرض (العقار 1114) موقعاً لمستشفى «قلب يسوع» الذي بُنِيَ في العام 1862 وعُرف باسم «المستشفى الفرنسي».
  2. في العام 1970، انتقل المستشفى إلى منطقةٍ أخرى في بيروت، وبقي المبنى القديم خالياً. يحكي سكان الباشورة أن الجيش اللبناني أراد التمركز في المبنى وتحويله الى ثكنةٍ عسكريةٍ، فرفض الأهالي وقاموا بهدم المبنى بأكمله.
  3. بعد أن أصبح الموقع خالياً، تحوّلت الأرض سريعاً إلى ملعب لكرة القدم ومساحة مشتركة يقضي فيها الناس وقتهم. كذلك، لعبت في الملعب فرقٌ غير رسميةٍ مثل الخندق، المصيطبة، الرسالة وبرج أبي حيدر، وأُقيمت فيه دوراتٌ عدّة.
  4. في العام 2006، انتقلت ملكيّة العقار 1114- كما العقارات المحيطة به- من عائلاتٍ محليّةٍ الى شركةٍ عقاريةٍ باسم «العالية».
  5. بقي الموقع ملعباً ومكاناً عاماً لسكان الباشورة وغيرها من الأحياء، حتى باشرت الجرافات الحفر فيه تمهيداً لورشة بناءٍ جديدة. وبعد تدمير مساحةٍ عامةٍ عمرها أربعون عاماً، اصطدمت الجرافات بوجود آثارٍ تحت الأرض، فقامت مديرية الآثار بإيقاف الحفر، لكن الجرافات ما زالت تحوم حول الموقع. 
  6. قام مالكو الشركة بإغلاق مداخل الموقع، بعدما كان الأولاد يتسلّلون إليه للّعب.

ملعب رأس النبع

  1. كان شباب الحيّ من الأصدقاء يلعبون كرة القدم في ملاعب كثيرةٍ في رأس النبع، وذلك لوفرة الأراضي الخالية. لكنهم خسروا هذه الملاعب تدريجياً بسبب أعمال البناء عليها.
  2. عثرت مجموعةٌ من الصبية الأصدقاء على أرضٍ ملائمةٍ للّعب، فأحرقوا العشب فيها وجهّزوها لتصبح ملعباً لهم.
  3. قام أصحاب الأرض بتزفيتها ووضع سورٍ حولها، محوّلين إياها إلى معرضٍ للسيارات، كما بُنِيت فيها غرفةٌ للحارس.
  4. قاوم الصِّبية الواقع الجديد من خلال رمي الزجاجات على السيارات بشكلٍ منتظمٍ يومياً، حتى نجحوا في إيقاف عمل المعرض. هكذا، استعاد الصِّبية اللأرض وكسروا قفل البوابة، ثم رسموا خطوط الملعب وحدّدوا المرمى، وصاروا يستخدمون غرفة الحارس لحفظ ملابسهم.
  5. بعد ذلك، قام الصِّبية بهدم غرفة الحارس كي يكسبوا ملعباً موازياً أصغر حجماً للأولاد الأصغر سنّاً، وكذلك رسموا خطوطه وحدّدوا مرماه.

ملعب حرش القتيل

  1. في بداية الخمسينات، نمت منطقة حرش القتيل بشكلٍ غير رسميٍّ على أراضٍ متنازعٍ على ملكيّتها، كامتدادٍ لمخيم بئر حسن للّاجئين الفلسطينيين. هي منطقةٌ سكنيةٌ بامتيازٍ، وتختلف بذلك عن باقي التجمعات غير الرسمية في بيروت وضواحيها. قبل الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، لعب شباب حرش القتيل في ملعب نادي التضامن على طريق المطار القديمة. لكن خلال الاجتياح، تمّ البناء على هذه الأرض، فانتقلوا في العام 1982 ليلعبوا في أرضٍ بورٍ ملاصقةٍ لحرش القتيل.
  2. في العام 1984، أراد لاعبو كرة القدم تحسين الملعب. وتشكّل هؤلاء تحديداً من شباب حيّ صالحة (المتحدّرين من قرية صالحة، إحدى القرى السبع)، وشباب الحيّ الكردي، وشباب الحيّ التحتاني (المتحدّرين من شبعا وبعلبك). فرش هؤلاء الرمل فوق الحصى، وجمعوا مبلغاً من المال من السكان لشراء العارضات والطابة والطبشور لرسم حدود الملعب.
  3. في أواخر الثمانينات، أخذت منطقة حرش القتيل غير الرسمية تتمدّد من خلال عمليات البناء المتزايدة استجابةً لقدوم مزيدٍ من النازحين الى المنطقة، حتى بات الامتداد العمراني يهدّد الملعب. رفض اللاعبون الواقع المستجدّ، واتفقوا من خلال المفاوضات مع النافذين في المنطقة- من حزبيين وغيرهم- أن يحافظوا على الملعب.
  4. منذ ذلك الحين، بات الملعب جزءاً أساسياً من المنطقة، يقصده اللاعبون من مناطق مختلفةٍ مثل الجناح والأوزاعي والغبيري وحيّ التنك وغيرها، وتُنَظّم فيه دوراتٌ لكرة القدم.

ملعب أرض جلّول

  1. في العام 1970، ومع سيطرة الفصائل الفلسطينية على المنطقة، قامت منظّمة الصاعقة بتحويل أرضٍ بورٍ تعود ملكيّتها الى عائلة جلّول، إلى ملعبٍ لكرة القدم. وقتذاك، بنت المنظّمة مدرّجاً من أربع درجاتٍ، وجهّزت الملعب بعارضاتٍ للمرمى.
  2. في بداية الثمانينات، استعاد المالك الأرض، وعيّن حارساً لها خوفاً عليها من التنظيمات المسلّحة. أحمد، الذي كان مدرّباً سابقاً في نادي النجمة وتوقّف عن ممارسة شغفه بعد خسارة يده اليمنى، حَرَس الملعب وعزّز مكانته كمساحةٍ للعب كرة القدم. كان أحمد يدير الملعب، وينسّق الدورات، ولا يمنع أحداً من الدخول بحريّةٍ، لكنه كان يطلب رسماً قدره عشرة آلاف ليرةٍ من الفرق المحترفة حصراً، ويستخدم المبلغ لتنظيف الملعب وصيانته. كان لأحمد غرفةٌ صغيرةٌ يضع فيها ثيابه وثياب اللاعبين، وكان يعيش في بيتٍ على مقربةٍ من الملعب.
  3. بقي الملعب مساحةً أساسيةً مفتوحةً لسنواتٍ، له تاريخٌ وأثرٌ في حياة المنطقة ونشاطاتها، وهي منطقةٌ ذات كثافةٍ سكانيةٍ عاليةٍ في مقابل سوق صبرا ومخيم شاتيلا والطريق الجديدة التحتا. كان يفِد الى الملعب يومياً عشرات الأولاد الفلسطينيين لممارسة اللعبة بمشاركة رفاقٍ لبنانيين، وكانوا يتوزّعون في فرقٍ تحمل أسماء مدنٍ وقرىً فلسطينيةٍ، كجباليا، مجد الكروم، جنين، أريحا، والكرمل.
  4. في العام 2014، قرّر مالك الأرض إغلاق الملعب في وجه العامّة. كما قام ببناء سورٍ حول الموقع، وهدم المدرّج وغرفة أحمد، وباع العارضات للكسر.
  5. أبدى شباب المنطقة مقاومةً من خلال هدم السور، لكنّ المالك أعاد بناءه، فهدموه مجدّداً، فأعاد بناءه مرةً جديدة. اليوم، يتسلّل البعض من فوق السور لقضاء الوقت، لكنّ الموقع توقّف عن العمل كملعبٍ لكرة القدم، وكمساحةٍ مشتركةٍ أساسيّةٍ لأهالي المنطقة. 

ملعب حيّ الزهراء

  1. كان حيّ الزهراء من الأحياء السكنية غير الرسمية التي نشأت خلال الحرب الأهلية، وتحديداً في العام 1976، على أراضٍ عامّةٍ في مقابل منطقة الجناح. امتدّ الحيّ جنوباً حتى حدود العقارات الخاصّة التي يُقال إنّها مُلكٌ لدولة قطر. وبعد انتهاء الحرب الأهلية في بداية التسعينات، عمل شباب الحيّ على إنشاء ملعبٍ لكرة القدم، وشكّلت أراضي البور التابعة لدولة قطر مكاناً مناسباً لهم لالتصاقها بالحيّ. 
  2. جهّز الشباب الملعب بالمرمى والإضاءة، وهو لا يزال مفتوحاً حتى الآن، وتُقام فيه دوراتٌ لكرة القدم في خلال شهر رمضان من كلّ عام. كذلك يستخدم الملعب سكان الجناح، والأوزاعي وغيرهما من المناطق.
  3. حالياً، تسيطر الوحدة الرياضية في حركة أمل على الملعب (وقد رُفِعَت أعلام الحركة عند حدود الملعب كافّة)، فتنظّم فيه الدورات وتختار المشاركين فيها. ولعلّ هذا ما دفع حزب الله إلى انشاء ملعبٍ شعبيٍّ آخر في مقابل هذا الملعب. 

ملعب بئر حسن

  1. على الطرف الآخر من الطريق في مقابل ملعب حيّ الزهراء، تقع بقعة أرضٍ بورٍ في منطقة بئر حسن الراقية، كان الجيش السوري يتمركز فيها حتى العام 2005. ويقول بعض سكان الحيّ إنّها أيضاً مُلكٌ لدولة قطر. 
  2. بعد خروج الجيش السوري من لبنان، بادر النادي الرياضي في حزب الله الى تجهيز الأرض لتصبح ملعباً يستضيف الدورات التي ينظّمها النادي. قام النادي بتسوية الأرض الترابية، وتركيب عارضاتٍ للمرمى، ورسم حدود الملعب بالطبشور الأبيض.
  3. الملعب اليوم مفتوحٌ للجميع، وتتدرّب فيه فرقٌ من حارة حريك، وبرج البراجنة، وغيرهما من المناطق.

ملعب وطى المصيطبة

  1. نشأ حيّ وطى المصيطبة كمنطقة سكنية غير رسمية منذ العام 1940، نتيجة لخلافات حول ملكية الأرض، مما سمح لعدد كبير من القادمين الى المدينة بالسكن في هذا الموقع. يعتبر الحيّ اليوم أحد أشدّ الأحياء فقراً في بيروت.
  2. مقابل وطى المصيطبة، يقع حيّ السكر الذي احتوى على عدد من الأراضي الشاغرة التي لعب فيها كرة القدم كل من أولاد الوطى وأولاد حيّ السكر. مع مرور الزمن، تقلصت هذه المساحات بسبب عمليات البناء المستمرة.
  3. في العام 2004، قام الداعوق- مالك إحدى الأراضي البور- بتأجير قطعة أرضه إلى مؤسسة قدموس التي قامت بتزفيتها لاستخدامها كموقف للسيارات، حصراً في أوقات الأعياد عندما يتضاعف عدد زوّار المتجر.
  4. عندها، اغتنم أولاد الوطى وحيّ السكر الفرصة ونقلوا لعبة كرة القدم إلى هذه الارض. رسموا عليها العارضات وحدود الملعب، وتخطوا جدارها للدخول إليها. أكثر اللاعبين في هذه المنطقة هم من الأولاد الذين لا تتخطى أعمارهم الستة عشر عاماً.

الأحقيّة في الملكيّة البديلة

تتيح قصصُ كلّ من الملاعب المذكورة قراءات ذات دلالات هامّة على كيفيّة فهمنا للمجال العام، وبالتالي بلورة السياسات التي يجري إقرارها لتأمين استمرارية هذه المساحات وغيرها من المساحات الاجتماعية في المدينة. وتدفعنا هذه القراءات إلى الاعتراف بوجود ما يسمّيه بلوملي «أحقيّة في الملكيّة البديلة» ذات النطاق الجماعي.  N. Blomley (2008): “Enclosure, Common Right and the Property of the Poor”, Social & Legal Studies, 17(3): 311-331. فالشباب- لاعبو كرة القدم هؤلاء- يتمتّعون بأحقيّة مشروعة في هذه المواقع، مدفوعين بالمصلحة الجماعيّة.

الشباب- لاعبو كرة القدم هؤلاء- يتمتّعون بأحقيّة مشروعة في هذه المواقع، مدفوعين بالمصلحة الجماعيّة.

وترتكز مصلحتهم الجماعيّة بالملكيّة على الاستخدام والحاجة المتأصّلة، وهي مصلحة محلّية (متجذّرة في المجتمع المحلّي). ولعلّ دور اللعب يكمن هنا. فمن خلال ممارسة رغبتهم غير المقيّدة باللعب، يتحدّى الشباب إحدى الممارسات الأكثر رسوخاً في مدن اليوم: وَسم المناطق إما عامّةً أو خاصّةً، بحسب ملكيّة العقار، وبالتالي إغلاق كثير من المساحات نتيجةً لتصنيفها ملكيّةً خاصّةً. 

إذاً، الدعوة موجّهة اليوم إلى المخطّطين/ات والقيّمين على المدينة لاتّباع مثال الشباب، وإدراك أن الأحقيّة في المساحة لا تحتاج لتجاوز المخيّلة القائمة على التملّك وحسب، بل توجِب ذلك. إن الممارسات الجماعية التي قمنا بتوثيقها في هذا المشروع هي في واقع الأمر تدخّلات مباشرة يسعى من خلالها الشباب إلى توزيع أكثر عدالة للفرص في المدينة. بالتالي، من خلال هذا التوثيق، نسلّط الضوء على أهمية توسيع فهم الملكية للفضاء المدينيّ، وندعو إلى الاعتراف بممارسات السكان واستخداماتهم المتنوّعة كشكل هامّ لإدارة المساحات في المدن حول العالم.

اللعب والمدينة: مجهودات جماعيّة لصنع ملاعب شعبيّة

اخترنا لك

الكريكت في بيروت
29-03-2025
تقرير
الكريكت في بيروت
ولِعِب! 
28-03-2025
يوميات
ولِعِب! 
الفصل الأول من سلسلة "بيروت لمين"؟

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
تعليق

الخارج/ الداخل

طارق أبي سمرا
الخارجيّة الأميركيّة: شروط للحكومة السوريّة، تهديد لإيران، وتبرئة لإسرائيل
إسرائيل تسعى لاحتلال 25% من قطاع غزة
مقتل 12 مدنياً في مجازر جديدة في طرطوس وحمص
الاعتداء الثاني على الضاحية منذ وقف إطلاق النار
قيل هذا الأسبوع 23 - 29 آذار 2025