من معارضة سوليدير إلى الانخراط في 14 آذار، مروراً بمواجهة تسلُّط الأجهزة الأمنيّة، يعود خالد صاغيّة إلى تجربة «الملحق» بحثاً عن آفاق الخطاب اليساريّ المعارض وتناقضاته، أو ربّما رضوخاً للحنين إلى زمنٍ حمل آمالاً تلاشت على قارعة السنين.
مقدّمة
في 14 آذار 1992، أعادت صحيفة «النهار» إصدار ملحقها الأدبيّ بعد انقطاع دام ثمانية عشر عاماً. كانت الحرب الأهليّة اللبنانية قد انتهت بعد مصادقة البرلمان على الاتفاق الذي أُبرِم في مدينة الطائف السعوديّة العام 1989، وبعد العملية العسكرية التي شنّتها القوّات السوريّة في 13 تشرين الأوّل 1990 لإخراج العماد ميشال عون تولّى ميشال عون رئاسة حكومة عسكريّة بعد تعذّر إجراء انتخابات رئاسيّة العام 1988. رفض الاتّفاق الذي أقرّه النوّاب اللبنانيّون في مدينة الطائف السعوديّة لإنهاء الحرب الأهليّة. أزيح بالقوّة من قصر بعبدا بعد اقتحام الجيش السوري لمناطق نفوذه، فلجأ إلى السفارة الفرنسيّة، ومنها إلى منفاه في فرنسا. عاد إلى لبنان بعد انسحاب الجيش السوري العام 2005. من القصر الرئاسي، بعدما كان آخر الرافضين للسلطة الجديدة.
أعلن هذان الحدثان انطلاق حقبة التسعينات التي عرف لبنان خلالها مشروعاً لإعادة الإعمار وهدوءاً أمنياً، تخلّلته خروقٌ محدودة وعدد من الاعتداءات الإسرائيلية، لا سيّما في العامين 1993 و1996. لكنّ هذا الهدوء الأمني ترافق مع وضع البلد تحت وصاية سوريّة تمكّنت من فرض إبقاء جيشها على امتداد الأراضي اللبنانية حتّى العام 2005، حين انسحب الجيش السوري بعد التظاهرات التي تلت اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري. تولّى رفيق الحريري رئاسة الحكومات اللبنانيّة بين عامَي 1992 و1998، ثمّ بين عامَيْ 2000 و2004. اغتيل في بيروت في 14 شباط 2005
على امتداد هذه الحقبة، منذ الطائف إلى الانسحاب السوري من لبنان وما تلاه من تداعيات، لم تكفّ المحاولات لبناء معارضةٍ للنظام القائم من منطلق يساريّ. وقد لعب الملحق الأدبي لجريدة «النهار» دوراً أساسياً في الدفع نحو نشوء معارضة كهذه، والترويج لها، وفتح النقاش حول خطابها. وقد مرّ هذا الخطاب بمراحل متعدّدة عرف خلالها تحوّلاتٍ عدّة. تروي هذه الورقة سيرةً سياسيّةً للملحق عبر قراءة تحوّلاته من 1992 إلى 2008، حين تولّى الكاتب والروائي الياس خوري روائي وصحافي لبناني. انتقل من جريدة «السفير» إلى جريدة «النهار» العام 1992 حيث أعاد إطلاق الملحق الأدبي للجريدة. رئاسة تحريره. وهي سيرةٌ تتجاوز «الملحق» نفسه لتروي الصعوبات والتناقضات التي رافقت محاولات إعادة بناء اليسار اللبناني بعد الحرب الأهليّة.
لكن، قبل الغوص في تجربة «الملحق»، لا بدّ من تحذيرات ثلاثة:
أوّلاً، لا تدّعي هذه الورقة رواية السيرة السياسيّة الوحيدة الممكنة للملحق.
ثانياً، شكّل «الملحق» فضاءً اتّسع لآراء متناقضة، حتّى بين كتّابه الدوريّين. ولعلّ من علامات قوّته وتأثيره هو أنّ نقد الاتّجاه العامّ لـ«الملحق» كان موجوداً داخل «الملحق» نفسه. لكنّ هذه الورقة تعنى بشكل أساسيّ بالاتّجاه العامّ وتحوّلاته، كما عبّرت عنه افتتاحيّات «الملحق» وأغلفته والمعارك السياسيّة والثقافيّة التي خاضها، في محاولةٍ لتتبُّع خطٍّ تحريريّ يصل في ما بينها.
أخيراً، مهما بدا التناوُل السياسيّ لـ«الملحق» مغرياً، فإنّ تجربة «الملحق» هي أكثر غنىً من مجرّد اختزاله بالآراء والتحوّلات السياسيّة التي عبّر عنها. رغم ذلك، فإنّ تناول جوانب «الملحق» الأخرى لا يرد هنا إلا في معرض تقاطعه مع السيرة السياسيّة.
لمحة سياسيّة
بعد نهاية الحرب، رزح لبنان خمس عشرة سنةً تحت الوصاية السوريّة، رغم أنّ اتفاق الطائف نصّ على «إعادة تمركز القوّات السوريّة» بعد عامَيْن على التصديق على الاتفاق. سيطر النظام السوري على السياسة الخارجية للبنان في ظلّ عمليّة السلام التي انطلقت في مؤتمر مدريد عقب حرب الخليج الثانية، كما أمسك بخيوط السياسة الداخلية.
عرف لبنان خلال التسعينات مسارَيْن متوازيَيْن أدارتهما سوريا:
من جهة، أُطلِقت يد رفيق الحريري اقتصادياً لتنفيذ مشروعه الذي قام على إعادة إعمار وسط بيروت بعد استملاك أراضيه لمصلحة شركة عقارية سمّيت «سوليدير»، وتنفيذ رزمة من «الإصلاحات» النيوليبرالية والاستدانة المبالغ بها بحجّة استعادة بيروت لدورها التجاريّ في المنطقة، والاستعداد لتحدّيات السلام الآتي. بعد حرب الخليج الثانية، أطلقت الإدارة الأميركيّة مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط.
وقد أيّد معظم قادة الميليشيات السابقين الحريري، فشكّلوا الجزء الأكبر من الطاقم الحاكم، بعد صدور قانونٍ للعفو العام استبدلوا من خلاله بزّاتهم العسكرية بلباس مدنيّ ليصبحوا أركاناً سياسيّين معتمِدين على زعامتهم داخل طوائفهم، وعلى الدعم السوريّ لهم.
من جهة أخرى، رعت سوريا المقاومة العسكريّة في الجنوب بعد حصرها بحزب الله، بما يعنيه ذلك من الإبقاء على سلاحه بخلاف سائر الأحزاب اللبنانية، إضافةً إلى إعادة هيكلة القوّات المسلّحة من جيش وقوى أمن وأجهزة أمنية.
تزامن صعود الحريري وحزب الله مع إبعاد الزعماء الأقوى مسيحياً عن الحياة السياسية، بعدما قلّص اتفاق الطائف من الامتيازات الممنوحة لرئيس الجمهوريّة المسيحيّ داخل السلطة. فنُفي العماد ميشال عون والرئيس السابق للجمهورية أمين الجميّل، كما حُلّ حزب القوّات اللبنانية ودخل قائدها سمير جعجع السجن بعد اتّهامه بتفجير كنيسة «سيّدة النجاة» العام 1994، وهي تهمة عاد القضاء وبرّأه منها من دون أن يساعده ذلك على الخروج من السجن بعدما فُتحت له ملفّات جرائم الحرب الأهليّة.
البدايات
«نبدأ من جديد»
منذ افتتاحيّته الأولى، حدّد رئيس التحرير، الياس خوري، الخطّ التحريري لمغامرته الصحفية الجديدة. فوضع «الملحق» في مواجهة مع اتفاق الطائف الذي «صغّر الأحلام» خوري، الياس. سؤال الحرية. الملحق، 14 آذار 1992 بدولة ديموقراطية غير طائفية، ومع مؤتمر مدريد للسلام الذي لن يسمح «للعبيد بأن يكونوا أكثر من عبيد» خوري، الياس. سؤال الحرية. الملحق، 14 آذار 1992 ، ومع «الذاكرة المثقوبة» خوري، الياس. سؤال الحرية. الملحق، 14 آذار 1992 التي فُرضَت على مدينة بيروت.
في افتتاحيّاته اللاحقة، طوّر خوري هذه النقاط الثلاث لتصبح الأعمدة الأساسية لسياسة الملحق. فأدرج معارضة اتفاق السلام في سياق التمسّك الشديد بديموقرطية لا طائفية. ذلك أنّ هذا التوجّه الديموقراطي الذي سمّاه خوري «قضيتنا الأساسية» لم يكن جزءاً من التوجّه العالمي الما بعد سوفياتي الذي رأى في الديموقراطية الليبرالية القضية الوحيدة الجديرة بالنضال من أجلها. بالعكس من ذلك، كانت الديموقراطية اللبنانية المشتهاة مرتبطة بمعارضة صعود النظام العالمي الجديد. فعبر ربط الوضع اللبناني بالتطورات السياسية العربية، يصف خوري إلغاء الحيّز الديموقراطي في لبنان كـ«جزء مكمِّل لبناء النظام العالمي الجديد في المنطقة. فهذا النظام الذي بدأ بتدمير العراق، لن يترسّخ إلا عبر سحق الفلسطينيين، وإلغاء معنى لبنان». خوري، الياس. اغتيال السياسة. الملحق، 18 نيسان 1998
إلى جانب هذا الموقف الديموقراطي والأنتي-إمبريالي، أصبح «الملحق» سريعاً المنصّة الإعلامية الأكثر جرأةً في مواجهة مشروع إعادة إعمار بيروت. لكنّ نقد هذا المشروع ارتكز إلى حجج ثقافية تتعلّق بالذاكرة والعمارة، أكثر ممّا ارتكز إلى نقد طبقيّ للسياسات الاقتصادية التي اتُّبعت غداة الحرب، وإن كانت جرّافة النسيان هي نفسها الجرّافة التي «تحوّل أطفال الحرب إلى فقراء السلام». خوري، الياس. اغتيال السياسة. الملحق، 18 نيسان 1998
لكنّ ذلك لم يكن بالمهمّة السهلة. فكثيرٌ من المثقّفين اليساريّين اللبنانيّين أصيبوا بالخيبة من يساريّتهم بعدما شهدوا على تهافت خطابهم الطبقي في صراعٍ سرعان ما تحوّل حرباً طائفية لم يبرّئوا أحزابهم اليساريّة منها. أضف إلى ذلك أنّ بعض اليساريين كانوا قد بدأوا التشكيك بالمشروع الحداثيّ نفسه منذ نجاح الثورة الإيرانية العام 1979، بينما تخلّى آخرون عن أولويّة المسألة الأنتي-كولونيالية منذ العام 1967، غداة النكسة.
رغم ذلك، رأى الملحق في نهاية الحرب الأهلية توقيتاً مناسباً لبدايةٍ يسارية جديدة. ولتجاوز التناقضات التي حوَتْها الأساسات السياسية للملحق، لجأ خوري إلى لعبةٍ أدبيّة داعياً إلى التخلّي عن «التطابق» بين الواقع والاحتمال، وبين بيروت الحقيقيّة وبيروت المتخيَّلة. فردّد خوري «نبدأ من جديد»، من دون تحديد من المقصود بالـ«نحن»، قبل أن يعلن عن رحلته الصحفية:
ومرّةً جديدة، سوف نكون وحدنا.
بحرٌ، ومدينةٌ تشبه سفينةً محطّمة، ورحلةٌ إلى مجهول لا نعرفه… نقول للسفينة إنّنا سنمضي معها إلى حيث تمضي. نقول لها إنّنا بحارتُها رغم اليأس والمرارة والخيبة. وإنّنا لا نملك في هذه الرحلة سوى حريّتنا وصراخنا وحبّنا.
خوري، الياس. سؤال الحرية. الملحق، 14 آذار 1992
غير أنّ هذه البداية الجديدة بقيت محصورةً بقضايا اليسار كما عرفها لبنان قبل الحرب وخلالها، ولم تُعنَ بالخطاب النسوي سخر رئيس تحرير «الملحق» الياس خوري في إحدى افتتاحيّاته من «علم الجندرة الذي يكتسح الأوساط الثقافيّة في العالم العربي، بفضل المال الأميركي». أنظُر: خوري، الياس. «ثلاثة جنرالات وامرأة»، الملحق، 30 كانون الثاني 1999 أو الجنساني انتظر «الملحق» أكثر من ستّ سنوات على صدوره ليتطرّق للمرّة الأولى للمثليّة في لبنان، وذلك من خلال خبر عن تحقيق أجرته صحيفة الليبراسيون الفرنسيّة. أنظر: «مثليّون من لبنان في ليبراسيون». الملحق، 1 آب .1998 . وإذا ما غضّينا النظر عن استثناءات قليلة، بقي الكتّاب الذكور مهيمنين على «الملحق»، وبقيت همومه محصورةً بالعلمانيّة والديموقراطيّة والعدالة والعداء لإسرائيل.
لحظةٌ طبقيّةٌ عابرة
لم يكن قد مضى شهران على انطلاقة «الملحق»، حتّى عمّت التظاهرات الشعبية مختلف الأراضي اللبنانية احتجاجاً على انهيار سعر صرف الليرة في أيار 1992. علّق «الملحق» على صور تلك التظاهرات مستنتِجاً أنّ الجوع خرج إلى الشوارع ليعلن ثورة الفقراء، قبل أن يقرّر بحماسة أنّ فقراء لبنان يعلنون من الشمال إلى الجنوب «نهاية الحرب الطائفية». الملحق. 6 أيار ثورة الجوع. الملحق، 9 أيار 1992
بدا هذا التسرُّع في إعلان انتصار «الطبقة» على «الطائفة» وكأنّه استعادة للحلم اليساري الذي هشّمته الحرب الأهلية، حين تمكّنت «الوحول الطائفية» — وفقاً للرواية اليساريّة المتداولة — من الانتصار على الدوافع الطبقيّة للحرب.
لكنّ هذا الخطاب الطبقيّ ما لبث أن تراجع في الأسبوع التالي للتظاهرات. وفي حين بقي التفاؤل بـ«وحدة الشعب» التي تمثّل «جوعاً إلى الثورة التي لم تتمّ في الحرب الطائفية»، خوري، الياس. الجوع إلى الثورة. الملحق، 16 أيار 1992 فإنّ هذه الثورة ما عادت تقتصر على الجانب الطبقي، بل تعدّته نحو «تأسيس وطن جديد». لم يخلُ «الملحق» من مساحات النقد التي كانت تخالف توجّهه العام. وفي مقابل هذه الحماسة لثورة جديدة، عبّر بعض الكتّاب عن توجّسهم من لجوء الجماهير إلى العنف والتكسير، ومن الخطاب الذي يمتدح الثورة بينما الحاجة هي للعودة إلى السياسة. أنظر مثلاً: بيضون، عباس. السياسة لا الثورة. الملحق، 16 أيار 1992
وقبل أن ينقضي شهر على تلك التظاهرات، تبخّر أيضاً التفاؤل بالوحدة الشعبيّة، إذ باتت تظاهرات 6 أيّار تعبّر «عن الغضب وعن العجز في آنٍ معاً». خوري، الياس. تأسيس المعارضة. الملحق، 30 أيار 1992 وهنا بدأ طرح السؤال الذي سيرافق «الملحق» طويلاً: كيف تتأسّس معارضة لبنانيّة؟ ومن هي الفئات التي ستحمل مشروع التأسيس هذا؟ وأيّ خطاب يساريّ سيشكّل العمود الفقريّ لمعارضة كهذه؟
يمكن القول إنّ أحداث 6 أيّار شكّلت درساً بليغاً تمثّل في صعوبة استعادة خطاب طبقيّ جامع على أنقاض التجربة اليساريّة خلال الحرب. كما أظهرت أيضاً أنّ انهيار سعر الصرف جاء إلى حدّ كبير نتيجة مضاربات تهدف إلى إسقاط حكومة عمر كرامي آنذاك، تمهيداً لوصول رجل الأعمال اللبناني-السعودي رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة، مكلَّلاً بهالة المنقذ من الانهيار المالي.
ساهم ذلك في تهميش الخطاب الطبقي واستبداله بخطاب آخر في مواجهة مشروع إعادة الإعمار الذي قاده الحريري بعد وصوله إلى السلطة، خطابٌ رفع لواء «الذاكرة» في وجه «الجرّافة». وقد بدا ذلك أكثر ملاءمةً لملحق أدبيّ، إذ اتّخذت المعركة السياسيّة طابعاً ثقافياً، وإن كان لا يمكن فصله عن التبعات الاقتصاديّة لمشروع إعادة الإعمار نفسه.
لمحة صحفيّة
بدت الصحافة اللبنانية أوائل التسعينات مثقلةً بآثار الحرب. فقد انخفض سقف الحريات الذي لطالما تغنّت به، وازدادت الخطوط الحُمر التي لا يمكن تجاوزها لأسباب أمنيّة وماليّة.
كما عانت الصحافة اللبنانيّة من ترهُّل مهنيّ نتيجة هجرة كثير من الصحافيّين، خصوصاً إلى الصحف الخليجيّة، هرباً من الحرب وقيودها المهنيّة والماديّة. أمّا مَن بقوا، فقد عانى كثير منهم من «التكلُّس» في مواقعهم، وفقدان القدرة إلى النظر للصحافة إلا بمنظار الحروب العسكريّة. كذلك، فإنّ هيمنة الأخبار الأمنية والنشاط السياسي الرسمي والحزبي على صفحات الصحف، أفقدها التنوّع والإبداع وزاد من غربتها عن قرّائها.
وسط التردّد في إجراء تغييرات عميقة في بنية الصحف، وجد العديد منها مخرجاً من الأزمة باعتماد سياسة الملاحق أو إضافة عدد من الصفحات المتخصّصة. وقد سمحت هذه السياسة التحريريّة بإضفاء تنوّع على موادّ الصحف، واستقطاب صحافيّين من جيل جديد، وخرق بعض الخطوط السياسيّة والمهنيّة الحمراء من دون المسّ بسياسة الجريدة العامّة.
في صحيفة «النهار»، وهي كانت يومها الصحيفة الأولى في لبنان، تمثّل التجديد والتنوّع من خلال ظهور ملاحق كـ«حقوق الناس» الذي عُني بكلّ ما يطال حقوق المواطن، و«نهار الشباب» الذي عُني بشؤون الطلاب والشباب ومثّل اتّجاهاً داخل الصحيفة مؤيّداً للعماد ميشال عون، و«دليل النهار» عن السينما والتلفزيون، إضافةً إلى «الملحق الأدبيّ» الذي أعادت «النهار» إصداره بعدما كان قد توقّف مع بداية الحرب الأهليّة.
الذاكرة
صعود خطاب الذاكرة
في الواقع، افتتح «الملحق» معركة «الذاكرة» منذ بداياته، مستبِقاً وصول الحريري إلى السلطة. فتبنّى «رؤية بديلة لإعمار بيروت»، مجموعة من المهندسين. روية بديلة لإعمار بيروت. الملحق، 2 أيار 1992 وفتح صفحاته لمهندسين ومعماريّين دافعوا عن وسط مدينةٍ يحافظ على نسيجها الاجتماعي، ويشكّل ملتقى لجميع اللبنانيّين، بدلاً من تسليمه لشركة عقاريّة ذات صلاحيّات واسعة تستملك أراضي الوسط وتعيد إعماره وفقاً لرؤية تلبّي متطلّبات اجتذاب الشركات العالميّة على حساب ذاكرة المدينة.
إلى جانب نقد مشروع الإعمار ككلّ، تحوّل «الملحق» إلى منبر للدفاع عن مبانٍ بعينها، كـ«السان جورج» و«مبنى بركات» و«البيت الأحمر» والسرايا الحكومية، متّخذاً من طريقة ترميمها أو هدمها أو إهمالها عنواناً للحرب التي تشنّها «الجرّافة» على المدينة. وهي حرب بكلّ معنى الكلمة، كما وصفها الياس خوري في افتتاحيّةٍ روى فيها المشهد في ساحة الشهداء، الساحة الرئيسيّة في وسط بيروت:
هدير الجرّافات يأتي ليحتلّ الأنين الخافت المتصاعد من حجارة البنايات بعد نسفها بالديناميت. تتهاوى البناية كأنّها رجل أصيب برصاصة في عموده الفقري، تنحني على نفسها قبل أن تسقط وسط دويّ محاطٍ بالفراغ، ويأتي طنين الصمت. الغبار يرتفع ويغطّي الوجوه والأيدي، والجرّافة تمتطي الدمار، ويبدأ أنين الأشياء وهي تموت. خوري، الياس. جرّافات الذاكرة وركام المستقبل. الملحق، 2 أيار 1992
حفلت هذه الافتتاحيّة التأسيسيّة بالتعابير والاستعارات التي تتعمّد تشبيه إعادة الإعمار بالحرب: «تنتهي الحرب بالحرب أو بما يشبهها»، خوري، الياس. جرّافات الذاكرة وركام المستقبل. الملحق، 2 أيار 1992 «جرّافة السلام التي ترث جرّافة الحرب» خوري، الياس. جرّافات الذاكرة وركام المستقبل. الملحق، 2 أيار 1992 … حيث يراد لمشهد أبنية المدينة التي تتهاوى كالبشر أن يكون رديفاً لمشهد الضحايا الذين كانوا يسقطون خلال الحرب الأهليّة، وحيث يراد لمشروع إعادة الإعمار أن يظهر على صورته الحقيقيّة كمشروع تدمير ضمن حرب على الذاكرة.
لا بدّ من الإشارة هنا إلى السياق العالمي الذي نشأ فيه خطاب الذاكرة اللبناني أوائل التسعينات، أي زمن انتهاء الحرب الباردة، حيث بات حلّ النزاعات سائداً بناءً على مفاهيم كالعدالة الانتقالية والذاكرة والمصالحة. لكنّ «الملحق» استخدم هذا المفهوم الرائج آنذاك، ووظّفه في خطاب لبنانيّ يضع مشروع الإعمار في سياق «النظام العالمي الجديد الذي يجتاح بيروت على متن جرّافة» خوري، الياس. جرّافات الذاكرة وركام المستقبل. الملحق، 2 أيار 1992 .
تمكّن الملحق في ذلك من إصابة ثلاثة عصافير بحجر واحد: إنعاش الخطاب اليساريّ بمفهوم جديد لم يدخل في سياقات الحرب الأهليّة ولا في تعقيدات العلاقة بين الطائفة والطبقة، وجذب شرائح أخرى إلى هذا الخطاب من خارج الصفوف اليساريّة، وربط نقد المشروع النيوليبرالي بالأنتي-إمبرياليّة، كما سبق له أن فعل مع المشروع الديموقراطي حين ربطه أيضاً بمواجهة النظام العالمي الجديد. أنظر فقرة «نبدأ من جديد» أعلاه
لا يقلّل الياس خوري من أهمية المسألة الاقتصادية التي يشرّحها على النحو الآتي:
قامت شركة خاصة بالاستيلاء «القانوني» على وسط بيروت، مفسحةً في المجال أمام نشاط اقتصادي وحيد، هو المضاربة العقارية، ضمن تصوير نيوليبرالي، يقوم على مبدأ فتح الباب واسعاً أمام الرأسمال، كي يفرض قانونه الوحيد القائم على المضاربة والربحية المباشرة. خوري، الياس. حروب الذاكرة. الملحق، 25 كانون الثاني 1997
إلا أنّ خوري قلب الخطاب الماركسي التقليديّ رأساً على عقب، فأصبحت المسألة الطبقية نتيجةً للشرط الأساسي الذي يتيحها، وهو الحرب على الذاكرة. فالمسألة، وفقاً له، تتجاوز الجانب الاقتصادي الذي يمكن وصفه بالحرب الطبقيّة. ذلك أنّ عمق المسألة يكمن في الحرب على الذاكرة التي فرضت النسيان، و فرضَ النسيان بدوره قانون العفو العام على زعماء الميليشيات الذين تحالفوا مع أمراء المال، ممّا أدّى إلى المأساة الاقتصاديّة التي تُفقر اللبنانيّين وتطردهم من مدينتهم.
الذاكرة والحرب
حاول خطاب الذاكرة إذاً فرض نفسه كخطاب نقديّ للمشروع النيوليبرالي، لكن أيضاً لمجمل التحالف الذي قام عليه نظام «السلم الأهلي». غير أنّ اعتبار مشروع إعادة الإعمار حرباً جديدة ينبغي مواجهتها، أعفى «الملحق» من مهمّة مراجعة أو نقد التجربة اليساريّة في الحرب السابقة، الحرب الأهليّة. فانتقل سريعاً من نهاية حربٍ إلى بداية أخرى.
لم تكن بدايات الملحق تؤشّر حتماً إلى سلوك مثل هذا الطريق. ففي عدده الأوّل بعد إعادة إصداره، تصدّر الغلافَ تحقيقٌ عن خمسة شعراء مقاتلين انتقلوا من متاريس الحرب إلى متاريس الشعر. جابر، يحيى. الشعراء الشبّان وذكريات الحرب: من متاريس الحرب إلى متاريس الشعر. الملحق 14 آذار 1992 لم تكن حكايات أولئك الشعراء الآتين من أحزاب مختلفة تدور حول الخوف وحسب، بل أضاءت على صدف شخصية لا أيديولوجيّة قادتهم إلى ميليشياتهم، وروت الفظائع والخيبات التي بلغت حدّ العبث الخالص مع مشهد شقيقَيْن ينتميان للحزب نفسه يطلق أحدهما النار باتجاه الآخر بعدما وجد كلٌّ منهما نفسه وسط صراع أجنحةٍ داخل حزبهما المشترك. جابر، يحيى. الشعراء الشبّان وذكريات الحرب: من متاريس الحرب إلى متاريس الشعر. الملحق 14 آذار 1992
لكن، بقدر ما كانت الحرب على مشروع إعادة الإعمار تتقدّم، كان نقد الحرب الأهليّة يتراجع ليستقرّ في النهاية ضمن ملفّ مقابلات حملت عنوان «كيف نؤرّخ الحرب اللبنانية؟». فباتت الحرب شأناً أكاديمياً يطرح معضلة كتابته على المؤرّخين، وتحوّلت روايات المقاتلين إلى فعل تطهُّر فرديّ، فيما بقيت الرواية اليساريّة الرسميّة عن الحرب جاهزةً للاستهلاك الطازج. اخترقت هذا التوجّه العام للملحق بعض المقالات النقديّة. أنظر مثلاً: بيضون، عباس. عيد الندم. الملحق. 20 تشرين الثاني 1992
ولعلّ أبرز ما يدلّ على ذلك هو التمسُّك بمقدّمات الحرب وبأحلامها وأفكارها قبل التساؤل عمّا آلت إليه، وكأنّ نتائجها مفصولة تماماً عمّا حبلت به بداياتها. وقد عبّر عن ذلك أفضل تعبير كلٌّ من روجيه عسّاف، رائد مسرح الحكواتي في لبنان، والياس خوري نفسه، كلٌّ على طريقته، ثمّ في عملٍ مسرحيّ مشترك.
رفض عسّاف أن تُختزَل الحرب بالميليشيات والطوائف، مدافعاً عن الإنسان المناضل، رافضاً إدانة الحرب أو التبرّؤ منها:
لا أريد أن أبتر ذاكرتي.
لن أنسى المتاريس، وقفت عليها حلمت بالحرية فيها.
لن أنسى فلسطين والفدائيّين، نضجت في مخيّماتهم وأدركت نفسي في ظلّهم.
لن أنسى بيروت، عشتُ محنها وصمودها وشهدتُ نزاعها وإعدامها.
أرفض اليوم أن تستلب صور الأحزاب والميليشيات والطوائف حقيقة الإنسان الذي ناضل وقاتل، صمد واستشهد، وحلم وآمن، وتأمّل وتألّم.
لن أقبل أن تخفى حقيقة الإيمان المباشر الذي حفّزنا وأن تنكسف خلف الخلط المذاهبي الذي تصدّر بلدنا وأفسد كلامنا وشوّه ديننا.
من السهل اليوم إدانة الحرب. الحرب هي المهد الذي مُنح لنا. لن أتبرّأ منها. لن أتنكّر للأفكار والمعارف التي نشأت فيها. ولكنني لم أكن من أنصارها ولن أكون من المنتفعين بها.
عساف، روجيه. ضد النسيان. الملحق، 16 أيار 1992
ما عبّر عنه عسّاف من خلال مشاعره الشخصيّة، أعطاه خوري عنواناً سياسياً لإحدى افتتاحيّاته: «دفاعاً عن الحرب». خوري، الياس. دفاعاً عن الحرب. الملحق، 14 نيسان 2000 مثلما فعلَ عسّاف، رفض خوري التبرّؤ من الحرب أو التباكي عليها، ليدافع عن الحرب كصراعٍ خاضه اليمين واليسار دفاعاً عن المشاريع السياسية والاجتماعية لكلٍّ منهما. وبذلك، يصبح النقد الوحيد المتاح للحرب هو البحث عن اللحظة أو السبب الذي تحوّلت فيه الحرب من صراع سياسيّ نبيل إلى مقتلة طائفية:
لماذا وكيف هُزم الطرفان اللبنانيان اللذان قادا الحرب: «الجبهة اللبنانية» و«الحركة الوطنية»؟ وكيف تفتّتا بعد الهزيمة، أي بعد عامَيْ 1976 و1982، فِرَقاً ونِحَلاً ومِلَلاً وصارت الحرب تدور في الشوارع وداخل الطوائف وعلى أبواب البيوت؟ خوري، الياس. دفاعاً عن الحرب. الملحق، 14 نيسان 2000
في الذكرى الخمسين للاستقلال (1993)، تعاون عسّاف وخوري في كتابة وإخراج عمل مسرحيّ حمل عنوان «مذكّرات أيّوب» وعُرض على خشبة مسرح بيروت الذي كان يشغل خوري منصب مديره الفنّي، والذي مثّل في التسعينات الأخ التوأم لـ«الملحق».
دمجت «مذكّرات أيّوب» بين الرواية اليسارية للحرب وخطاب الذاكرة. فقابلت بين بيروتَيْن: بيروت التي واجهت الاجتياح والتي تمثّلها ذاكرة أيّوب بدءاً من مشاركته في معارك 1948 داخل فلسطين، وبيروت التي ترزح تحت الجرّافة ومآسي الحرب الأهلية التي تتجسّد بنساء وأمّهات المخطوفين (في المرحلة الثانية من الحرب؟).
بذلك، يكون خطاب الذاكرة قد أتاح التفلّت من أيّ مراجعة للتجربة اليسارية السابقة. وهذه كانت حال عموم اليسار الباحث عن دورٍ بعد الحرب. ففي تحقيقٍ حول اليسار في لبنان أشرف بلال خبيز على تحريره، يلاحظ معدّو التحقيق أنّ الوجوه اليساريّة التي قابلوها يجمعون على تجنّب أيّ حرب مستقبلاً، لكنّهم لا يُرفقون نبذ العنف هذا مع أيّ مراجعة للخلفية الفكرية التي أدّت إلى الحرب. فيبدو لهم برنامج الحركة الوطنية اللبنانية الذي خاض اليسار الحرب على أساسه في السبعينيات، برنامجاً لا يزال صالحاً للعمل به اليوم. خبيز، بلال ونصرالله، جنى وطفيلي، فادي. اليسار في لبنان: هل ينجح في استحقاق اسمه؟ الملحق، 10 تشرين الأوّل 1998
كذلك أتاح خطاب الذاكرة التركيز على نقد مشروع إعادة الإعمار وإهمال نقد الجناح الآخر من تقسيم العمل السوري في لبنان، أي مقاومة حزب الله. ويرتبط ذلك جزئياً بتجاوز مراجعة تجربة الحرب، لا سيّما الدور الذي لعبه العمل المقاوم في الصراع الداخلي، وهو ما يتغافل عنه معظم اليساريّين لدى سردهم تجربتهم، خبيز، بلال ونصرالله، جنى وطفيلي، فادي. اليسار في لبنان: هل ينجح في استحقاق اسمه؟ الملحق، 10 تشرين الأوّل 1998 مثلما فعل أيّوب في مسرحية روجيه عسّاف حين تمكّن من سرد مذكّراته كتجسيد لحلم المدينة أو مقاومتها منذ 1948 وحتى 1982، مقابل الكابوس الذي جاء بعد ذلك والذي تمثّل بالحروب الطائفية وإعادة الإعمار.
إزاء ذلك، لم يكن مستغرباً أن يقف جيل الحرب حائراً أمام ذاكرة كهذه. فالذاكرة الفعلية، بالنسبة إلى هؤلاء، هي الحرب لا بيروت. وقد عبّر عن هذه الحيرة أحد «الشعراء المقاتلين» رافضاً المنحى التطهُّري لخطاب الذاكرة: «قبل حكاية الجرافة ثمّة حكاية سابقة: الدبابة. تعالوا نروي من البداية». خبيز، بلال ونصرالله، جنى وطفيلي، فادي. اليسار في لبنان: هل ينجح في استحقاق اسمه؟ الملحق، 10 تشرين الأوّل 1998
بالطبع، لم يُنتج «الملحق» هذه الرواية التقليدية لليسار اللبناني عن الحرب، راجع مثلاً كتاب سمير قصير «حرب لبنان: من الشقاق الوطني إلى النزاع الإقليمي 1975-1982»، دار النهار، 2007 لكنّه لم يمانع تبنّيها والترويج لها. فاعتُبر الاجتياح الإسرائيلي العام 1982 حدّاً فاصلاً بين مرحلتَيْن: الأولى هي مرحلة الحرب النبيلة (رغم أنّها كانت حافلة بأبشع المجازر الطائفيّة)، والثانية هي مرحلة الميليشيات الطائفية التي حوّلت الحرب إلى قتلٍ بلا قضيّة.
الخير والشرّ
لكنّ العام 1982 لا يمثّل الحدّ الفاصل بين حقبتَيْن من الحرب وحسب، بل يربط أيضاً في رواية «الملحق» اليساريّة بين الاجتياح والإعمار، أو بين الاجتياح والحرب على الذاكرة، أو بين خطاب الذاكرة والخطاب المضادّ للاستعمار. هكذا تصبح «الجرّافة» شريكةً لإسرائيل في تدمير بيروت. وتتمثّل هذه الشراكة في إقدام جرّافات تابعة لإحدى شركات رفيق الحريري بتدمير مبانٍ في وسط بيروت منذ العام 1982 حين كُلِّفت بإزالة الركام من الوسط تمهيداً لمشروع إعمار «مشبوه» كان يُعَدّ له منذ تلك اللحظة:
خريف 1982، وبيروت لم تستفق بعد من كابوس الحصار الإسرائيلي، قامت الجرافات بهدم أسواق أبو النصر والصاغة والسمك.
نيسان 1996، الطيران الإسرائيلي ومعه البوارج الحربية والمدفعية، تدكّ الجنوب، و«عناقيد الغضب» تتحوّل مجازرَ وهجراتٍ جماعية وموت. قامت الجرّافات بهدم عشرة مبانٍ تراثية في منطقتَيْ وادي أبو جميل وزقاق البلاط.
ركام البيت الأحمر والمجزرة التراثية. الملحق، 11 ايار 1996
لكنّ خطاب الذاكرة لا يلتقي بالخطاب المضادّ للاستعمار أو الخطاب الأنتي-إمبريالي وحسب، بل يحمل في طيّاته أيضاً الخطاب الديموقراطي العلماني الذي ينادي به اليسار اللبناني. تماماً كما وصف خوري أبنية وسط المدينة وهي تسقط وكأنّها بشر يئنّون ويتألّمون تحت ضربات الجرّافة، فإنّ تلك الأبنية تشكّل رمز الحلم الديموقراطي العلماني التعدّدي في مواجهة الأبراج والمباني الجديدة التي تشيّدها «سوليدير»، والتي تقوم بدور الحارس الأمين لتحالف أمراء المال والميليشيات:
وحدها المباني التي تساقطت كالكرتون، كانت شاهداً لحلم مدينة، حاولت أن تكون حربها جزءاً من البحث عن بداية جديدة ديموقراطية وعلمانية، في المجتمع اللبناني الذي تمزّقه الطوائف والعصبيات والانقسامات. كانت المباني الحارس الأخير لفكرة التعدّدية، بعدما مرّت الدبابات فوق أجساد الذين حاولوا أن يدافعوا عن تعدّدية المدينة. خوري، الياس. حروب الذاكرة. الملحق، 25 كانون الثاني 1997
هكذا تكتمل ثنائيّة الخير والشرّ. ثنائيّة الذاكرة والجرّافة، لكن أيضاً ثنائيّة اليسار واليمين: العلمانيّون الديموقراطيّون أنصار الذاكرة في مواجهة إسرائيل والعصبيّات الطائفية والجرّافة. للمزيد حول خطاب الذاكرة في بيروت، راجع: Saghieh, Khaled. “1990s Beirut: Al-Mulhaq, Memory, and the Defeat”. E-flux. Journal #97, February 2019
الفاعلون السياسيّون
وضع «الملحق» نصب عينيه إذاً أولويّة إنشاء معارضة سياسيّة يتقدّمها خطاب الذاكرة بمفهومه الواسع الذي يعترض على السياسات الاقتصادية والذي يحمل خطاباً علمانياً ديموقراطياً. فمن هي القوى التي ستحمل مشروعاً كهذا بعد الحرب؟
هناك طبعاً تلك الكتلة التي اسمها «اليسار»، وهي تضمّ النقابات والحزب الشيوعي وتشكيلات يساريّة على ضفافه، لكن هناك أيضاً قوّتان راهن «الملحق» على استنهاضهما: المثقّفون، والطلاب.
1. المثقّفون
إذا كان خطاب الذاكرة منسجماً مع المناخ العالمي لما بعد الحرب الباردة، فإنّ تمسُّك «الملحق» بدور المثقّف الطليعيّ في الشأن العام جاء معاكساً للتيّار. لكنّه، رغم ذلك، شكّل جزءاً أساسياً من هويّة «الملحق» والفعل السياسي الذي يُنشده في لبنان، لكن أيضاً في سوريا في مرحلة لاحقة. فالمثقّف هو «الضمير» في زمن الخواء السياسي، وهو «المحرِّض» في زمن التسليم للأمر الواقع.
لم يكن «الملحق» غافلاً عن أطروحات نهاية المثقّف، بل نشر على صفحاته الحوار الذي تحوّل كتاباً بين جان زيغلر وريجيس دوبريه، زيغلر، جان ودوبريه، ريجيس. كي لا نستسلم. ترجمة بسام حجار ورينيه الحايك. المركز الثقافي العربي. 1995 ووضع له عنواناً معبِّراً حول أوهام المثقّف: «لسنا ملح الأرض». لكنّ الياس خوري لجأ في رفضه لضمور دور المثقّف إلى التأكيد على الفوارق بين الغرب والعالم الثالث حيث يخوض المثقّف صراعاً للدفاع عن الحرية والعدالة في بلاده.
التسويق الإعلامي لفكرة نهاية المثقف أو المثقف التقني، وتناسل الأجهزة الثقافية التي تشتري صمت المثقْفين عبر شراء أبحاثهم «الحرّة»، والإصرار على تسويق فكرة المثقّف الخاضع لإله السوق، ليست ظواهر عارضة. إنها اليوم أشبه بالأخطبوط المتعدّد اليد والرجل، والذي يشلّ الثقافة عن دورها التنويري، و/أو يفرض عليها قبولاً بالاسترخاء يشبه الخيانة. هذا التمييز بين المثقّف والكلب، يأتي من معاينةٍ ملموسة للصراع الذي تخوضه الثقافة في العالم الثالث، في المرحلة ما بعد الكولونيالية، من أجل فكرتَي العدالة والحرية. خوري، الياس. المثقف والكلب. الملحق، 4 آذار 2000
ووفقاً لهذه النظرة للمثقّف، راجت في النصف الأوّل من التسعينات — إضافةً إلى خطاب الذاكرة الذي حمله مثقّفون من معماريّين ومسرحيّين وكتّاب — بيانات المثقّفين التي عكست إرادة «بناء الدولة» بعد الحرب، فشدّدت على مكافحة الفساد واحترام القانون وحقّ أهالي مخطوفي الحرب الأهليّة بمعرفة مصير ذويهم. وقد تجاوزت هذه البيانات المبادئ العامّة لتتدخّل في محطّات سياسيّة محدّدة، فصدر مع نهاية العام 1995 بيان للمثقّفين رفض تعديل الدستور للتمديد لرئيس الجمهورية الياس الهراوي، بعدما بدا أنّ القوى السياسيّة المعارضة لهذا التمديد عاجزة عن الوقوف في وجهه.
لكنّ معركة المثقّف للدفاع عن الحرية بدأت بدفاع الحقل الثقافي عن نفسه في وجه الرقابة التي طالت الكتب والأعمال الفنية، قبل أن تمتدّ لاحقاً إلى مراقبة البريد ومحاكمة الفنّانين.
بدأت قصّة «الملحق» مع الرقابة مع خبر منع فيلم «الإعصار» للمخرج سمير حبشي أوائل العام 1993، قبل أن يتحوّل هذا المنع إلى حذفٍ للعديد من المشاهد التي يختلط فيها عنف الحرب بالإيحاءات الدينيّة.
كانت السلطة التي تولّت زمام الأمور بعد انتهاء الحرب لا تزال هشّة، ولم تمنحها انتخابات 1992 التي شهدت مقاطعةً شعبيّة كبيرة الشرعيّة اللازمة. كما لم تكن قد حسمت أمرها في تحديد المسموح والممنوع لدى التطرّق للحرب ومحطّاتها ورواياتها المختلفة. وقد بادرت السلطات الدينيّة أكثر من مرّة لاستغلال هذه الهشاشة، محاولةً هي الأخرى فرض وجهة نظرها.
مُنِع ديوان «حديقة الحواس» لعبده وازن «لما يتضمّنه من وصف للعملية الجنسية بشكل فاضح وإباحيّ» (1993). بعد عامين، مُنعت كتب الباحث الليبي الإسلامي الصادق النيهوم (1995) الذي اشتهر آنذاك في بيروت من خلال كتاباته في مجلّة «الناقد» التي كانت تصدرها دار رياض الريّس للنشر، وهي الدار نفسها التي تولّت طباعة كُتب النيهوم التي تعرّضت للمنع. بعد قرابة عام على ذلك، ادّعى النائب العام الاستئنافي في بيروت على الفنّان مارسيل خليفة لغنائه قصيدة «أنا يوسف يا أبي» للشاعر محمود درويش (1996)، بتهمة «تحقير الشعائر الدينية بإدخال آية من القرآن الكريم من سورة يوسف ملحّنة على أنغام موسيقية».
غالباً ما كان الياس خوري هو من يلقي الكلمات في المؤتمرات التضامنية التي يعقدها المثقّفون، أو يستضيف تلك المؤتمرات في مسرح بيروت الذي يديره. لذا، اختلطت لغة «الملحق» بلغة تلك البيانات واللقاءات، ممّا أعطى هذه المطبوعة الصحفية تأثيراً مضاعفاً. فغداة منع كتب النيهوم، مثلاً، تساءل خوري لماذا لا تقيم دور النشر التي صودرت منها الكتب برفع دعوى ضدّ الرقيب. خوري، الياس. لا للرقابة. الملحق، 21 كانون الثاني 1995 ونقرأ في العدد نفسه التوصيات التي صدرت عن لقاء المثقّفين الذين اجتمعوا في مسرح بيروت، والتي تتضمّن «إقامة دعوى أمام القضاء اللبناني من أجل إبطال قرارات منع الكتب». الملحق. مثقّفون يقولون لا للرقابة. 21 كانون الثاني 1995 وبعد أقلّ من شهرَيْن، تقيم شركة رياض الريّس فعلاً «الدعوى على الدولة اللبنانية (وزارة الداخلية — المديرية العامة للأمن العام) أمام مجلس شورى الدولة لإبطال قرار الأمن العام اللبناني ووقف تنفيذه، القاضي بمصادرة ثلاثة كتب من تأليف الكاتب الراحل الصادق النيهوم». النيهوم المُصادَر: دعوى لدى مجلس شورى الدولة. الملحق، 18 آذار 1995
لكن أبعد من تأثير «الملحق»، يشير هذا اللجوء للقضاء إلى عدم انهيار الثقة بأجهزة الدولة كافّةً، خصوصاً وأنّ السلطة السياسية لم تكن آنذاك قد تشكّلت تماماً أو خضعت بالكامل للسلطات الأمنية أو الدينية. تمكّن مثلاً رئيس الحكومة رفيق الحريري من التدخّل من أجل حفظ ملفّ خليفة، وأقفلت القضية إلى حين. أمّا في قضية «حديقة الحواس»، فكان لافتاً ما صدر في بيان اتحاد الكتّاب من دعوة «أصدقاءنا، وزراء الثقافة والداخلية والإعلام والعمل والنوّاب المثقفين — لا سيما المنتسبون منهم إلى اتحاد الكتّاب اللبنانيين — للعمل على إلغاء هذا القرار الظالم ولعلّهم لا ينسون أنّهم كانوا قبل أن يصبحوا وزراء ونوّاباً في صفوف المثقّفين المتشبّثين بالحريات». الملحق. حديقة الحواس: الرقابة والقمع في لبنان. الملحق، 17 تموز 1993
يعكس ذلك إيماناً بقوّة مستقلّة اسمها «المثقّفون» يحمل أصحابها هذه الصفة بصرف النظر عن مواقعهم في السلطة، قوّة يمكن الرهان عليها من أجل التغيير، فـ«سياسة الاعتداء المنظّم على الحريات في لبنان، سوف تواجه بتصميم المثقفين اللبنانيين على مواجهتها ورفضها وإيقافها». الملحق. حديقة الحواس: الرقابة والقمع في لبنان. الملحق، 17 تموز 1993 ذلك أنّ المثقّف هو الأمين على المدينة ودورها وذاكرتها، فيتساءل خوري: «هل جاء وقت القضاء على هذا المركز، وتحويل بيروت إلى مجرد بناء وسوق مالي، يفتقد إلى الحرية، وينضمّ إلى المدن التي يلفّها الظلام وتغرق في بحر السكوت؟». خوري، الياس. لا للرقابة. الملحق، 17 تموز 1993 أمّا اللقاء التضامني مع كتاب «حديقة الحواس»، فاعتبر قرار المنع «مسيئاً إلى صورة بيروت التي كانت وستبقى مدينة الحريات ومختبراً ثقافياً للأفكار والتجارب الإبداعية». الملحق. حديقة الحواس: الرقابة والقمع في لبنان. 17 تموز 1993
لكنّ هذا الرهان يحمل أيضاً أملاً بالدولة الناشئة، وألا تستقرّ على ما آلت إليه بعد اتفاق الطائف. فلم يتمّ تحميل مسؤولية المنع والرقابة للنظام بأكمله. ودار النقاش حول قانونيّة المنع وآلياته، ومن يملك الحق بالرقابة، وتعثُّر بناء الدولة. وكان بوسع لقاء مسرح بيروت المطالبة بـ«تعديل التشريعات الخاصة بالرقابة على الكتاب عبر نزع حق الرقابة هذا من يد الأمن العام وإيكاله إلى سلطات قضائية مستقلّة». الملحق. حديقة الحواس: الرقابة والقمع في لبنان. 17 تموز 1993 لكنّ رهانات كهذه ستتبخّر فيما بعد.
2. الطلاب
في تعليق على اعتصام طلابي وإضاءة شموع رفضاً لتدمير أحد مباني وادي أبو جميل في وسط بيروت، كتب الياس خوري:
الحياة اللبنانية لن تعود دون عودة الطلاب. طلاب يحلمون بغير الوظيفة في بنك أو شركة أو مطعم. طلاب يحلمون، ويقاومون، ويرفضون أن يكونوا أسرى الماضي والعائلة والطائفة والعشيرة. طلاب، يشبهون الطلاب، ينتفضون، ويقومون بقلب هذه المائدة المتعفّنة. والطلاب يعودون. ذهبوا أمس بخفر ورهبة إلى المبنى المهدّم، وغداً سيحتلّون الشوارع والساحات ويرفعون قبضات الحرية إلى الأعلى. خوري، الياس. الملحق. أشعلوا الشموع واملأوا الشوارع، 14 شباط 1996
رغم إدراك خوري للعدد القليل من الطلاب المعتصمين، ذهب بتلك الواقعة نحو تفاؤل مبالغ به شاركه فيه كثير من الكتّاب والصحف. لا يعود ذلك إلى اعتبار الطلاب، فقط لكونهم طلاباً، فئةً خارج «الماضي والعائلة والطائفة والعشيرة»، لكن أيضاً لأنّ مشهد الحركة الطلابية الفاعلة قبل الحرب الأهلية كان لا يزال يدغدغ المخيّلات التغييريّة. فحتّى قبل ظهور أيّ تحرّكات طلابية فاعلة بعد الحرب، حمل «الملحق» هاجس إعادة إحياء «الحركة الطلابية».
على مدى حلقتين، استعاد «الملحق» في عامه الأوّل تاريخ الحركة الطلابية في لبنان، نشوءها وتطوّرها وأهمّ تحرّكاتها، إضافةً إلى مقابلات مع بعض رموزها. حيدر، ابراهيم. «الحركة الطلابية في لبنان». الملحق، 27 شباط و6 آذار 1993 وقد عكس هذا التحقيق التناقض الذي يحمله التفاؤل بإعادة إحياء الحركة الطلابية في لبنان. فمن جهة، هناك استناد إلى تجربة الستينات وأوائل السبعينات حين تمكّنت الحركة من التوحُّد — رغم الاختلافات السياسيّة والعقائدية — حول مطالب نقابيّة تتعلّق أساساً بديموقراطيّة التعليم بشكل عام، وبالجامعة اللبنانية بشكل خاص. ومن جهة أخرى، هناك تجربة الحرب الأهليّة التي لم تشرذم الجامعةَ اللبنانية وتُفرِّعها وتحلّ الاتّحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية فحسب، لكنّها شهدت أيضاً مشاركة رموز وقواعد من تلك الحركة في الحرب الأهلية وتحوّلهم إلى قيادات داخل أحزابهم وميليشياتها:
لم يُقضَ على الحركة الطلابية فحسب، بل حُوِّلت كقواعد وقيادات إلى أدوات في هذه الحرب، والأخطر من ذلك كلّه أنّ بعض الرموز الطالبيّة ارتبطت بقوى غير لبنانية، خصوصاً تلك التي صارت مرتبطة بالعدوّ الإسرائيلي. هؤلاء جميعاً قد شوّهوا تاريخ الحركة الطالبية، وولّدوا لدى الناس انطباعاً بأنّ ما كان يجري لم يكن جدياً، فمَن يتحوّل بين ليلة وضحاها من علماني ديموقراطي علمي، مادي تاريخي، ليبرالي، إلى طائفي، يؤكّد أنّه لم يكن جدياً في مرحلة نضاله الأولى. شهادة بول شاوول ضمن ملف «الحركة الطالبية في لبنان (2): ماذا يقول قياديّو الحركة الطالبية في السبعينات؟». حيدر، ابراهيم. الملحق. 6 آذار 1993
لكنّ المسألة لم تقتصر على تقلّبات وتحوّلات فرديّة. فباستثناء بعض التجارب المستقلّة، وعلى رأسها «حركة الوعي»، قامت الحركة الطلابية أساساً على الخلايا الطلابية للأحزاب التي شاركت بحماسة بالحرب الأهليّة، من دون أن يحول الطابع الديموقراطي أو اللاطائفي للحركة دون تلك الحماسة. وإذا لم يكن هنا المجال لتقييم الحركة الطلابية، فإنّ ما يعنينا هو رهان «الملحق» على إعادة إحياء تلك الحركة استناداً إلى جوهر «ديموقراطي علماني» شكّل نواتها، ولا بدّ أن يعود ويظهر يوماً ما في صفوف الطلاب.
تأخّر هذا الظهور إلى مطلع العام 1998، وحين ظهر لم يأتِ على شكل «حركة طلابيّة» واسعة تشكّل الأحزاب السياسية رافعتها، بل جاء على شكل تحرّكات قامت بها مجموعات طلابية ناشئة في الجامعات الخاصّة، ترفع لواء الاستقلاليّة واليسار بالمعنى العمومي للكلمة الذي يسعى إلى توسيع حجم المشاركة في الحياة السياسية. خبيز، بلال. حركة الطلاب: تضييق الفوارق بين الشعارات المتنافرة. الملحق، 17 كانون الثاني 1998 وقد تمحورت تحرّكاتها في تلك الآونة حول القضايا التي تمسّ الحريات.
لم يشكّل «الملحق» المساحة الصحفيّة الوحيدة التي أظهرت حماسةً لتلك التحرّكات، أنظر مثلاً صفحة القضايا في «النهار»، 27 كانون الثاني 1998 و10 شباط 1998 ولم يكن كلّ ما نُشِر في «الملحق» خالياً من النقد للطلاب، أنظر مثلاً: شمس الدين، محمد حسين. الحركة الطالبية: المشاركة في إعادة اختراع لبنان. الملحق، 28 شباط 1998 لكن يكفي إلقاء نظرة على بعض العناوين التي حملتْها تحقيقات الملحق: «الطلاب عائدون»، غلاف الملحق. 2 شباط 1998 «الحركة الطلابية: المشاركة في إعادة اختراع لبنان»، شمس الدين، محمد حسين. الحركة الطالبية: المشاركة في إعادة اختراع لبنان. الملحق، 28 شباط 1998 «متى تشرق شمس الجامعات» نصر الله، جنى. متى تشرق شمس الجامعات؟ الملحق، 28 شباط 1998 … حتّى ندرك حجم الرهان على مجموعات صغيرة لم تكن إلا «الهوامش المستقلّة في الحركة الطالبية»، خبيز، بلال. حركة الطلاب: تضييق الفوارق بين الشعارات المتنافرة. الملحق، 17 كانون الثاني 1998 لكنّها رغم ذلك اعتُبِرَت أنّها «تؤشّر فعلاً، لا نظراً، إلى إمكان انبعاث حركة طالبية ديموقراطية مستقلة». خبيز، بلال. حركة الطلاب: تضييق الفوارق بين الشعارات المتنافرة. الملحق، 17 كانون الثاني 1998
ولعلّ أوضح تعبير عن الحائط المسدود الذي بلغه إعادة إحياء اليسار أو تأسيس معارضة للنظام، هو اتّخاذ الرهان على الطلاب شكلَ فاعل سياسيّ بديل عن ضائع:
في مقاومة استمرار الحرب، حاول المجتمع اللبناني تقديم مجموعة اقتراحات وممارسات تمثّلت في بيانات المثقفين، وعريضة الانتخابات البلدية ومجموعة من الممارسات التي حاولت كسر قرار منع التظاهر، ووقف مسلسل التدهور الذي تجسّد في شق الاتحاد العمالي العام، واسقاط التيار الديموقراطي المستقل في رابطة أساتذة الجامعة اللبنانية. غير أن الأفق كان مسدوداً بلغة الحرب الأهلية.لذلك جاء الطلاب في حركتهم المنظمة والعفوية مقدّمين اقتراحاً بديلاً وحقيقياً… مجموعات لا طائفية… تضم شباناً لم يعرفوا الحرب إلا في الملاجئ… مجموعات تبحث عن أسمائها… تقترب من السياسة من بابها الوحيد المشرق… مجموعات يسارية تجاوزت أزمة اليسار اللبناني عبر الفعل والممارسة… خوري، الياس: «أرنون: هكذا تنتهي الحرب». الملحق، 6 آذار 1999
الجرّافة والمحدلة
شكّل تعديل الدستور لإمرار التمديد لرئيس الجمهورية الياس الهراوي في تشرين الأوّل 1995 محطّةً شديدة الأهمية. فحلم التمديد عبر تعديل الدستور استثنائياً رافق معظم رؤساء الجمهوريّة منذ الاستقلال، من دون أن يتحقّق إلا للرئيس الأوّل للجمهوريّة المستقلّة بشارة الخوري الذي أطاحت به تظاهرات شعبيّة لم تمكّنه من إكمال ولايته الثانية. أضف إلى ذلك أنّ معظم القوى السياسيّة قد عارضت التمديد آنذاك، لكن حين دقّت ساعة الحقيقة حصل الهراوي على 110 أصوات من أصل 128 صوتاً داخل المجلس النيابي.
كرّس التمديد الاتّجاهات الجنينيّة التي حملتها جمهوريّة الطائف. فلم تعُد تلك الاتّجاهات مجرّد تعثّرات في بناء الدولة، بل أصبحت هي التي تشكّل صلب الدولة:
أوّلاً، لا تتشكّل السلطة في لبنان من خلال الصراعات السياسية اللبنانية وحدها. فالقرارات النهائية الكبرى تُتَّخذ خارج لبنان.
ثانياً، لا يقتصر الصراع مع سلطة ما بعد الطائف على سياسات بعينها، بل هو صراع حول فكرة الدولة وصون الدستور أيضاً.
ثالثاً، لا وجود لمعارضة فاعلة، لا من داخل النظام ولا من خارجه:
الغياب الأول، هو المعارضة من صلب النظام، التي يجسّدها اليوم الجنرال ميشال عون في منفاه الباريسي… والغياب الثاني، هو اليسار، فاليسار اللبناني غاب بشكل شبه كامل عن الساحة السياسية… بين هذه الغيابَيْن جاءت معارضة المثقّفين، لتكشف الغياب، لا لتسدّ ثغراته. خوري، الياس. المثقفون والكراسي والتمديد. الملحق، 14 تشرين الأول 1995
لقد كشف التمديد الذي عارضه بدايةً رئيس الحكومة رفيق الحريري حدود سلطة «الجرّافة»، لكن أيضاً حدود المعارضة القائمة على خطاب الذاكرة في مواجهة الجرّافة. لم يكن هذا الحدث السياسيّ كافياً لتغيير الوجهة العامّة لـ«الملحق»، لكنّه أدّى إلى ارتفاع حدّة الخطاب المدافع عن الديموقراطية، والذي شكّلت الانتخابات النيابيّة العام 1996 دافعاً إضافياً له. فبدلاً من المعركة ضدّ «الجرّافة»، صارت المعركة ضدّ «الجرّافة» وضدّ «المحدلة» في الآن نفسه. وهذه الأخيرة هي المصطلح الذي استُخدم للإشارة إلى اللوائح الانتخابية القائمة على تحالفات كبرى تحدّ من أيّ إمكانيّة لخرقها.
ومع تبيُّن حدود دور الفئات المعارضة خارج النظام من يسار ونقابات ومثقّفين وطلاب، بدأ «الملحق» يتّجه أكثر نحو الدفع إلى تأسيس معارضة تضمّ مَن هُم داخل النظام نفسه. وفي حين بقي صوت الاعتراض على دور النظام السوريّ في لبنان خافتاً، بدأت شخصيّات سياسيّة من صلب النظام كنجاح واكيم وسليم الحصّ ونسيب لحود تحتلّ أغلفة «الملحق» باعتبارها تخوض المعركة في وجه «المحدلة». أنظر مثلاً غلاف الملحق: نجاح واكيم، نسيب لحود، حبيب صادق: آفاق الديموقراطية. 2 آذار 1996
إضافةً إلى تلك الشخصيات البرلمانية المستقلّة، بدأ الحديث «في الملحق» عن المعارضة المنفيّة بشخص ميشال عون، لكن أيضاً عن سمير جعجع القابع في سجنه، وإن من باب وضعه الصحّي ودفعه وحده ثمن الحرب. في النصف الثاني من العام 1996، نشر الملحق افتتاحيّتَيْن عن سمير جعجع. حتّى «حزب الله» آنذاك كان مرشَّحاً لدورٍ معارض، لو لم يختر التحالف الانتخابي مع حركة «أمل».
كانت انتخابات العام 1996 هي ثاني انتخابات نيابية يشهدها لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية. لكنّها، فعلياً، هي التي وضعت ختماً شرعياً على سلطة ما بعد الطائف. ذلك أنّ انتخابات العام 1992 شهدت حملة مقاطعة واسعة في المناطق المسيحيّة بشكل أساسي، ولم يكن اللاعبون السياسيّون قد كرّسوا مواقعهم بعد. لذلك، شكّلت السيطرة على برلمان 1996، والتي سبقها التمديد لرئيس الجمهوريّة، ترسيخاً للسلطة، فيما بقي السؤال حول المعارضة: «التركيبة التي تضمّ إقطاع المال إلى إقطاع الميليشيات، رسمت تصوّرها لمستقبل لبنان بالمحدلة والجرّافة. فماذا ستقدّم المعارضة؟» خوري، الياس. «المحدلة والجرّافة». الملحق، 14 أيلول 1996
في الواقع، لم يُكتَب للمعارضة التي حلم بها «الملحق»، تلك القائمة على تحالف بين اليسار والتيّار العونيّ والشخصيّات المستقلّة، أن تتبلور في ذلك الحين. على العكس من ذلك، اتّضحت أكثر فأكثر أزمة الخطاب المعارض مع حلول العام 1998. لم يحدث ذلك بسبب انتصار «الجرّافة»، ذلك أنّ المشروع الحريريّ قد بدأ يفقد وهْجَه وتظهر نقاط ضعفه الاقتصاديّة قبل ذلك بسنتَيْن على الأقلّ. ولم يحدث ذلك أيضاً بسبب ازدياد سطوة «المحدلة»، ذلك أنّ الزعامات السياسيّة تلقّت ضربةً جرّاء صعود وافد جديد إلى الواجهة. لم يكن ذلك الوافد إلا الأجهزة الأمنيّة المتحالفة مع الوصاية السوريّة.
الأجهزة
بين نارَيْن
مع تعثُّر المشروع الاقتصادي الحريريّ من دون وجود معارضة فاعلة من قِبل حاملي خطاب الذاكرة في مواجهة الجرّافة، أو من قِبل النقابات التي تعرّضت لضربات موجعة طيلة التسعينيات، تقدّمت الأجهزة الأمنية ذات العلاقة الوثيقة بالنظام السوري لتطرح نفسها كـ«وريث» للحريريّة. وما أن اقترب موعد الانتخابات الرئاسيّة، حتّى جاءت كلمة السرّ مرّةً أخرى من القصر الرئاسيّ السوريّ، بشكل أكثر وضوحاً وفجاجةً، ومرّةً أخرى بخلاف إرادة معظم القوى السياسيّة.
انتُخِب قائد الجيش إميل لحود رئيساً للجمهورية، ولعب اللواء جميل السيّد الذي أصبح المدير العام للأمن العام، دور الرجل القويّ للعهد الجديد الذي وعد بالتغيير الجذريّ للسياسات الاقتصاديّة، بعد إخراج الحريري من السلطة واستبداله برئيس حكومة آخر هو سليم الحصّ.
لم ينتظر الياس خوري وصول لحّود ليعلن نهاية مرحلة. فقد فعل ذلك مبكراً، بعد قرابة خمس سنوات على افتتاحه معركة الذاكرة. إثر التهديد بإخلاء مرفأ صغير في بيروت، وقف خوري أمام مشهد الصيادين الحائرين، لا لينعى معركة الذاكرة وحسب، بل ليعلن ما يشبه الخسارة في وجه تحالف الجرّافة والمحدلة:
حاولنا قول الأشياء في شكل موارب…
لم نقل إنّ جشع أمراء الحرب وملوك النفط والمال، تحوّل في السلم، أسراباً من الحيتان تفترس كلّ شيء.
بدل ذلك، قلنا عن العمارة، ودافعنا عن التراث، وتحدّثنا عن الثقافة، وقلنا حرام، لا يجوز، كأننا تلاميذ في مدرسة الراهبات، لا نعرف ماذا نقول، أمام الزعران الذين يرشقوننا بالحجارة. كنا مثل المثقفين، نحاول خلق ضمير ثقافي، وسط غابة متوحّشة.
لذا خرجنا بحصاد ذاكرة للذاكرة، بينما استولى الحيتان على المدينة في شكل كامل.
خوري، الياس. الحنين والنوستالجيا وأسماء أخرى. الملحق، 15 آذار 1997
على أنقاض هذه الخسارة، وصلت «الأجهزة». ووصلت معها مرحلة من الترقُّب والحيرة، وتأخّر «الملحق» في حسم وجهته السياسيّة. فمن جهة، هناك الثأر من الجرّافة الذي أغرى الكثير من المثقّفين واليساريّين والشخصيات المعارضة، ومنهم مَن دافع عنهم «الملحق» سابقاً أو روّج لهم أو نشر كتاباتهم، وعلى رأسهم الاقتصادي والكاتب جورج قرم الذي عُيِّن وزيراً للمال في حكومة الحص. ومن جهة ثانية، هناك الأجهزة التي قد تكشّر في أيّ لحظة عن أنيابها. ومن جهة ثالثة، هناك معارضة جديدة خرجت من صلب النظام، وعلى رأسها رفيق الحريري ووليد جنبلاط، ومن الصعب التعاون معها كونها تمثّل تحالف الجرّافة والمحدلة.
هذا الإرباك عبّر عنه زياد ماجد، أحد كتّاب «الملحق» اليساريّين، بعنوان يلخّص موقف «الملحق» في تلك الآونة، وهو «الموالاة المستحيلة والمعارضة الصعبة». ماجد، زياد. الموالاة المستحيلة والمعارضة الصعبة. الملحق، 8 أيّار 1999 عدّد ماجد ما أسماه «سقطات الحكم» التي تزيدك «قهراً وخيبةً وحيرةً يوماً بعد يوم»، ماجد، زياد. الموالاة المستحيلة والمعارضة الصعبة. الملحق، 8 أيّار 1999 ومنها إعلان رئيس الحكومة الجديد أنّ مشكلته مع الحريري ليست إلا الهدر والفساد، أي إقفال الباب أمام تغيير جدّي في السياسات الاقتصاديّة الحريريّة. ورغم أنّ ماجد يسمّي المعارضة الجديدة المشكّلة من الحريري وحلفائه بـ«الوقحة»، فإنّه يحذّر كمن يرى المستقبل بأنّها «قد تجد آذاناً صاغية إذا ما استمرّت أخطاء الحكم». ماجد، زياد. الموالاة المستحيلة والمعارضة الصعبة. الملحق، 8 أيّار 1999 أمّا القوى الديموقراطيّة التي يعوّل عليها الكاتب من أجل التغيير، فيصفها بالمربَكة:
ذلك ان القسوة على «أهل البيت» أشدّ وأمضى كون الخيبة من أدائهم أعمق وأكثر إيلاماً… معارضة «نظام أسود» أسهل بكثير من التعامل مع «نظام رمادي» نتعاطف مع بعض أهله «فنبلع الموس» وننتظر. لكنّ «بلع الموس» لن يُجدي، فإمّا أن نجد بديل الحريريّة وإمّا العودة إلى الموقع المعارض الأصيل البعيد كلّ البعد عن خندق مسبِّبي الأزمة الحقيقيّين — المعارضين الجدد. ماجد، زياد. الموالاة المستحيلة والمعارضة الصعبة. الملحق، 8 أيّار 1999
تبدو إذاً الخيبة واضحة من الحُكم، لكنّ الكاتب لا يُشيطنه مقارنةً بالحكم السابق. فضمنَ الحكم الجديد، هناك «أهل البيت»، وما مساوئه إلا سقطات وأخطاء. لذلك، فإنّ التعاون مع المعارضة الجديدة/ الحكم القديم ليس مستحيلاً وحسب، بل إنّ الابتعاد عن الحكم الحالي لا يتمّ إلا بمقدار فشله في قلب سياسات الحكم السابق.
لكن ما كاد ينتصف العام 1999، حتّى بات هذا الفشل أكبر من أن يُعطى أسباباً تخفيفيّة. وكلّما كان ينكشف زيف التغيير المزعوم، كلّما كانت القبضة الأمنيّة تكشف عن نفسها. وبات على «الملحق» أن يتلمّس طريقه صوب المعارضة، وأن يوفّق في الآن ذاته بين موقفه الجديد ومعارضته السابقة للمشروع الحريريّ.
تحتَ عنوان معبِّر عن هذا التوفيق — «كي لا يُنسينا الدكتيلو عهد المال والتطاوس!» العاصي، مروان. «كي لا يُنسينا الدكتيلو عهد المال والتطاوس!». الملحق، 19 حزيران 1999 ، انتقد «الملحق» لجوء الأجهزة الأمنية إلى نشر بيانات تهديديّة ونَسبها إلى مصادر وزاريّة من دون معرفة الوزراء أو رئيس الحكومة:
هل يريد أهل الدكتيلو تعويم المرحلة السابقة ورموزها من دون ان يدروا، أم أنّهم يدرون؟! أم يريدون تعليق الحياة السياسية والدستورية او تهميشها نتيجة العجز عن صوغ مشروع بديل من المرحلة الحريرية…؟ العاصي، مروان. «كي لا يُنسينا الدكتيلو عهد المال والتطاوس!». الملحق، 19 حزيران 1999
وما كاد يمرّ شهر على هذه الصرخة، حتّى تحوّلت من أسئلةٍ إلى أجوبةٍ تؤكّد الخيبة من العهد الجديد:
الحكومة الحصّية لم تمسّ الخيارات الاقتصادية الأساسية، كما أنها لم ترسم لنفسها خطاً اجتماعياً وثقافياً مختلفاً. فـ”الحريرية الثقافية” تجتاح كلّ شيء… لم يبقَ من الإصلاح سوى وجه مكفهرّ يشلّ الإدارة ويجهض التغيير ويتابع عمله في نصف المحاسبة التي جعلتنا نتساءل عن العلاقة بين القضاء والقدر في هذا التغاضي عن الأخطاء والخطايا. خوري، الياس. «تحت الديموقراطية». الملحق، 17 تمّوز 1999
ومع اقتراب عقد التسعينيات من نهايته، بات واضحاً أنّ على الخطاب المعارض الذي حمله «الملحق» أن يبدّل أولويّاته، وإلا بات شريكاً في جرائم العهد الجديد. لا يعني ذلك أنّ نقد الحريريّة قد اختفى من «الملحق»، لكنّه يعني أنّ هذا النقد بات مرتبطاً أوّلاً بالمعركة من أجل الديموقراطيّة، أنظر مثلاً: أبي سمرا، محمّد. الاحتفال بالجامعة اللبنانية- السورية: الثأر الرمزي من لبنان. الملحق، 28 آب 1999. وأيضاً: خوري، الياس. «الرائحة العثمانيّة». الملحق، 2 تشرين الأوّل 1999 وأنّ خطاب الحريات والديموقراطية الذي بدأ صعوده منذ العام 1996 سيصبح هو المسيطر ضدّ الأجهزة الأمنية على حساب خطاب محو الذاكرة الذي قاده تحالف أمراء الحرب والمال:
الخطاب المعارض مهدَّد بالتحوُّل غطاءً لاستكمال عملية تدمير الحياة السياسية عبر تجويفها من الداخل. المسألة تحتاج إلى وقفة من التيار الثقافي الديموقراطي الذي قاد عملية المعارضة للمرحلة الحريرية. هذه الوقفة يجب أن تتمّ الآن وقبل فوات الأوان، أي قبل أن يجد المجتمع اللبناني نفسه أسير واقع يقوده إلى الصمت والتسليم. خوري، الياس. «يكافئون» فؤاد نعيم. الملحق، 31 تموز 1999
الأجهزة والحريّات
اتّخذت معارك الحريات أبعاداً وأحجاماً مختلفة مع بروز اسم المدير العام للأمن العام، اللواء جميل السيّد، كلاعب أساسيّ في الكواليس السياسية والأمنية. وقد أدّى «الملحق» دوراً كبيراً في مَوضعة المعركة ضدّ الرقابة كجزء من المعركة السياسيّة الأشمل ضدّ الدور الأمني المتصاعد في الحياة السياسية اللبنانية.
في العام 1999 وحده، أعيد فجأةً تحريك قضية مارسيل خليفة نفسها، وأصدر الأمن العام قراراً بحذف نصف مشاهد فيلم «متحضّرات» لرنده الشهّال، ومُنع عرض إحدى لوحات الباليه لموريس بيجار في مهرجانات بعلبك. آنذاك، وجّه بيجار رسالةً إلى جمهور بيروت قال فيها:
إنّ باليه «أم كلثوم»، الذي نُفِّذ منذ أعوام عدّة، وعُرض في العالم بأسره، بما في ذلك في مصر، يقدَّم هنا (في بيروت) وبعدما فرضت عليه تعديلات أدّت إلى تشويهه. إنني آسف لأنّ بلداً مثل لبنان، الذي أكنّ له احتراماً كبيراً وحبّاً عظيماً لن يستطيع أن يراه في نسخته الحقيقية. أفضّل أن تُستبدَل هذه الفقرة (باليه أم كلثوم) بعملٍ آخر». رسالة موريس بيجار إلى جمهور بيروت. الملحق، 13 تشرين الثاني 1999
بعد صدور البيان، أوضح ألكسندر نجار، مستشار وزير الثقافة، ملابسات قضية لوحة «أم كلثوم» في عرض بيجار، مشيراً إلى أنّ «مراقبَيْن من الأمن العام شاهدا العرض، وأبدى أحدهما ملاحظاته على مشهد في اللوحة، حين يُسمَع صوت أم كلثوم تقول «الله»، ويقوم الراقصون العراة الصدور بتأدية صلاة مُؤسْلَبة». «على ذمّة الراوي!». الملحق، 13 تشرين الثاني 1999 ووفق نجار، فإنّه لا يوجد تقرير بمنع اللوحة، بل مجرّد تحذير من الأمن العام، «خوفاً من ردود فعل محتملة». «على ذمّة الراوي!». الملحق، 13 تشرين الثاني 1999
استدعى كلّ ذلك ملفاً أعدّه «الملحق» عن الرقابة ومصادرة الحريات الثقافية. وإلى جانب سرد تفاصيل قضية بيجار والآخرين، كشف الملف عن إجراءَيْن جديدَيْن اتّخذهما الأمن العام: الأوّل يراقب مخطوطات الكتب الآتية من الخارج، ولا يسلّمها إلى دور النشر إلا بعد التعهّد بعدم توزيع الكتاب من دون أخذ موافقة السلطات المختصّة. أمّا الإجراء الثاني، فهو إخضاع المجلات الثقافية الدورية للرقابة، نسخةً نسخة. خوري، الياس. ابحثوا عن الذئب قبل أن يفترس لبنان. الملحق، 13 تشرين الثاني 1999 يضاف هذان الإجراءان إلى ما كان قد بدأ به الأمن العام من الرقابة على الكتب المرسلة عبر البريد. تويني، فادي. الأمن العام بين القانون والمال العام. الملحق، 20 تشرين الثاني 1999 يستنتج الياس خوري في هذا الملف أنّ ما يجري هدفه «إفهام من لم يفهم بعد، أنّ يد الرقيب تصل إلى الجميع… لم يعد هناك من حماية معنوية لأحد»، خوري، الياس. ابحثوا عن الذئب قبل أن يفترس لبنان. الملحق، 13 تشرين الثاني 1999 خاتماً بالسؤال: «هل أصبحت الثقافة اللبنانية تشبه يوسف الذي أُسلِم إلى الذئب؟ ومن هو الذئب؟» خوري، الياس. ابحثوا عن الذئب قبل أن يفترس لبنان. الملحق، 13 تشرين الثاني 1999
السؤال الذي طرحه خوري في خاتمة مقاله، يجيب عنه سمير قصير مؤرّخ وصحافي لبناني. صاحب افتتاحيّة أسبوعيّة في «النهار» ومقالات متفرّقة في «الملحق». لعب دوراً فاعلاً في «انتفاضة الاستقلال» غداة اغتيال رفيق الحريري، واغتيل بدوره في حزيران 2005. ضمن الملف نفسه. يقوم قصير بعملية «آوتينغ» للمدير العام للأمن العام جميل السيّد الذي لم يكن يجرؤ كثيرون على الإشارة إلى بصماته خلف ما يجري من قمع. قام الأمن العام لاحقاً، في آذار 2001، بمصادرة جواز سفر سمير قصير في مطار بيروت بعد عودته من رحلة إلى الأردن كأنّ قصير يقول إنّ المعركة ليست مع «الذئب» أو مع «الرقيب» أو مع «أجهزة الرقابة» أو حتّى مع «الأمن العام»، إنّما هي مع شخص محدَّد له اسمٌ صريح:
إنّ اللواء السيّد مطالَب… بأن يفسّر ما الذي يحدو هذه الرقابة إلى التطاول ليس فقط على الحريات العامة وإنما أيضاً على الحريات الخاصة والتجارية من خلال معاينة البريد عندما يحوي كتاباً أو شريطاً مسجّلاً. وهو مطالَب بأن يبرّر، إن استطاع، الإساءة اللاحقة بالبلد من جرّاء ذلك، سواء لجهة تلطيخ ما بقي له من سمعة في العالم أو لجهة إعاقة قطاع الصناعات الثقافية والإعلامية والإعلانية، وهو من أهمّ موارد الاقتصاد الوطني. قصير، سمير. إخبار. الملحق، 13 تشرين الثاني 1999
والواقع أنّ ما فعلته الرقابة مع فيلم «متحضّرات» هو نموذج للسلوك المستجدّ للأمن العام. فقد صدرت الصحف في 21 تشرين الأوّل 1999 ببيانيْن، الأوّل للمخرجة رنده الشهال يستغرب قرار دائرة مراقبة البثّ المرئي والمسموع في المديرية العامة للأمن العام، والثاني من الدائرة المذكورة نفسها. وهذا يعني أنّ يد الدائرة باتت داخل الصحف نفسها، فلا تطّلع على بيان المخرجة في صحف اليوم التالي، بل تعلم به قبل صدوره وترغم الصحف على إصدار البيانين في يوم واحد. لكنّ الأدهى أنّ جهاز الرقابة تعمّد في بيانه النشر الحرفيّ للشتائم الواردة في الفيلم لتبرير حذف المشاهد، فما كان من معظم الصحف إلا أن حذفت تلك الشتائم من بيان الأمن العام، ممارسةً بذلك الرقابة على الرقابة. سويد، محمد. “السينما اللبنانية في ذمّة الرقابة”. الملحق، ٣٠ تشرين الأول ١٩٩٩
لكنّ الفضيحة الثقافية الكبرى حصلت في العام التالي مع المطالبة بتحوير بعض كلمات «نشيد الأناشيد» الذي كان يُعرض في مهرجانات بعلبك أيضًا. تشير القصّة التي أحاطت بهذا التحوير إلى الأجواء السياسية المستجدّة في البلاد، والتي تضع الرقابة على الثقافة ضمن سياق سياسي أوسع.
ففي تموز 2000، استضافت مهرجانات بعلبك عرضاً فنياً مستوحى من نص «نشيد الأناشيد» التوراتي كما أعاد كتابته الشاعر أنسي الحاج، وألّف موسيقاه زاد ملتقى. بعد العرض، أصدر أربعة نوّاب من بعلبك-الهرمل، بينهم وزير الدفاع، بياناً ضدّ العمل الفنّي. فتدخّل مسؤول أمنيّ سوري رفيع في البقاع للتوسّط بين النوّاب ولجنة المهرجانات. انتهت الوساطة إلى موافقة الجميع على حذف بعض الكلمات. حُذف اسم الملك سليمان واستُبدل بعبارة «الملك الملك»، وذلك بعدما جرى التداول داخل مقرّ المسؤول الأمني السوري باقتراحات عدّة لأسماء أخرى للملك سليمان لم تحظَ بالإجماع. كذلك حُذفت كلمة أورشليم ووُضِعت مكانها كلمة «قَوْمي»، وطبعاً حُذفت كلمة إسرائيل من عبارة «جبابرة إسرائيل».
لكن، حتّى هذه الوساطة لم تنفع. فالنواب الأربعة الذين يمثّلون كلاً من حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب السوري القومي الاجتماعي وحركة أمل وحزب الله أصرّوا على اعتبار العمل مسيئاً. فعبارات من قبيل «هوذا سرير سليمان، حوله ستّون جباراً من جبابرة إسرائيل… من هول الليل الملك سليمان صنع لذاته عرشاً من خشب لبنان» تتعارض، بحسب ما قالوا، مع التضحيات التي قدّمتْها المنطقة من إنجازات على الصعيد الوطني. وأصدر أحد النوّاب الأربعة بياناً قال فيه: «التسلّل من خلال المهرجانات لتحرير نصوص توراتية لن يشوّه شعلة الانتصار». خوري، الياس. أناشيد بعلبك وفزّاعة القمع. الملحق، 15 تموز 2000
ما من دليل على اشتداد أجواء القمع وارتباطها بخطاب سياسي مهيمِن أقوى من التعليق الذي أدلى به زاد ملتقى، المؤلّف الموسيقيّ للعمل، حين قال: «جاء نشيد الأناشيد ليجعلني أدرك أكثر حجم الأضرار التاريخية التي سبّبتها أرض إسرائيل للبنان، لا سيّما في هذا النشيد الذي يحكي عن لبنان فردوساً وأرض عسل، بينما يبرز سليمان في قوى الشرّ محاطاً بجبابرة إسرائيل». خوري، الياس. أناشيد بعلبك وفزّاعة القمع. الملحق، 15 تموز 2000
والواقع أنّ تعليق ملتقى ترافق مع انكشاف قدرة المثقّفين على الوقوف في وجه آلة القمع، إمّا خوفاً كما فعل ملتقى، وإمّا لحملهم خطاباً لا يختلف في عمقه عن خطاب السلطة. فعلى سبيل المثال، انبرت المخرجة والممثلة المسرحية، نضال الأشقر، للدفاع عن عمل ملتقى في وجه الرقابة، لكنّها علّلت موقفها بأنّ «نشيد الأناشيد» ليس إلا تراثاً سوريّاً «استولى عليه اليهود». خوري، الياس. أناشيد بعلبك وفزّاعة القمع. الملحق، 15 تموز 2000 أمّا في قضية مارسيل خليفة التي أعيد فتحها في 1999، فصدر حكم البراءة بعدما نفى خليفة ما نُسب اليه، وأعلن أن اطّلاعه على قصيدة «أنا يوسف يا أبي» قد تزامن مع حصول مجزرة قانا، فأحسّ أنّ القضية مناسبة لها وللحالة الحاصلة في الجنوب، وأنّه «لم يكن يعلم عندما لحّن هذه القصيدة أنها تتضمن جزءاً من آية من القرآن الكريم ولم يكن في نيّته تلحين نص قرآني وأنّه لم يقصد بعمله المساس بالدين الإسلامي». نجّار، ألكسندر. قضية مرسال خليفة انتصار للعدالة. 31 كانون الأول 1999
لم يخلُ «الملحق» نفسه من نقدٍ لسلوك المثقّفين هذا. فاعتبر محمد أبي سمرا أنّ خليفة في دفاعه عن نفسه، لا يختلف عن المفتي الذي دانه. فهو مثله اعتبر أنّه يستخدم يوسف كرمز للقضية العربيّة، من دون أن يجرؤ على تقديم نفسه كمغنٍّ غير ملزَم بالاعتبارات الدينيّة. أبي سمرا، محمد. ثقافات الحشود وسياسات المبايعة. الملحق، 16 تشرين الأول 1999
ولم يفت أبي سمرا الملاحظة أنّ خطاباً كهذا هو الذي يجعل المنتصرين لخليفة «يغضّون الطرف عن أصولية «حزب الله» و«ظلاميته» لأنه حزب يقاوم العدو الصهيوني ومشهود له بالوطنية». أبي سمرا، محمد. ثقافات الحشود وسياسات المبايعة. الملحق، 16 تشرين الأول 1999 وأنّ كلّ ذلك يشير إلى إجماع الجماعات اللبنانية «إمّا طوعاً وإمّا غصباً، على الولاء للقوّة الإقليمية السورية». أبي سمرا، محمد. ثقافات الحشود وسياسات المبايعة. الملحق، 16 تشرين الأول 1999
الشركة والثكنة
إذا كانت هذه الأمثلة تشير إلى التنامي الكبير لدور الأجهزة في قمع الحياة الفنية والثقافية، فإنّ مشهد القمع السياسي خرج إلى العلن بأبشع صوره خلال أحداث 7 آب حين تمّ اعتقال مئات الناشطين من «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» في ساعات معدودة، ردّاً على «مصالحة الجبل» التي جرت قبل ذلك بأيّام خلال زيارة البطريرك الماروني نصر الله صفير إلى الشوف وعاليه، والتي رأت فيها الأجهزة بداية تحالف واسع بين وليد جنبلاط زعيم الطائفة الدرزيّة في لبنان، ورئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي. خاض في العام 1983 حرب الجبل في وجه «القوّات اللبنانيّة»، ممّا أدّى إلى تهجير المسيحيّين من قرى الجبل. و«المعارضة المسيحيّة» ضدّ الوصاية السورية.
استدعت هذه المحطّة أعنف هجوم على الأجهزة. فعلى مدى صفحة كاملة مذيّلة بتوقيع «الملحق»، وُصف ما جرى بـ«الانقلاب الفاشل»:
ها هو ليل الأجهزة يحاول أن يبسط زمنه على البلاد. أجهزة مسلّحة بالأجهزة. أجهزة متمرّسة خلف الأجهزة، تتنصّت على المكالمات، فيما أجهزة أخرى تنهب موارد الدولة وتدفع المجتمع إلى الحضيض الذي لا حضيض بعده. «الانقلاب الفاشل». الملحق، 11 آب 2001
لكن حتّى هذا «الانقلاب» لم يستطع أن يخفي مفارقات تلك المرحلة التي شهدت أيضاً عودة الحريري إلى الحكم بعد انتخابات العام 2000. ففي العدد نفسه، يكتب الياس خوري عن التناقض بين جناحَيْن في السلطة، أحدهما يتّبع سياسات الإفقار ويدّعي الدفاع عن الحريات العامة فيما يتولّى الجناح الآخر القمع ويدّعي الدفاع عن الفقراء. خوري، الياس. «الحرية أو موت المجتمع». الملحق، 11 آب 2001 هذا التناقض نفسه يعود خوري ليسمّيه «صراع الشركة والثكنة». خوري، الياس. «فيلم لبناني قصير». الملحق، 25 آب 2001
مرّةً أخرى، وتماماً كما حصل في المعركة ضدّ «الجرّافة» التي مثّلت الشرّ، أي الحرب الأهليّة، تأتي الأجهزة الآن لتحتلّ هذا الموقع إذ تحاول إعادة الماضي (الحرب) إلى الحاضر. أمّا الخطاب اليساريّ بلبوسه الديموقراطي الجديد، فيخرج بريئاً من دم ذاك الصدّيق الذي ولّى إلى غير رجعة: «الحرب هي ذاكرتنا، أي ماضينا، ولا يحقّ للماضي احتلال الحاضر أو المستقبل، والفيلم اللبناني القصير [أحداث 7 آب] كان عيّنة عن محاولة الماضي احتلال الحاضر. أي قتله.» خوري، الياس. «فيلم لبناني قصير». الملحق، 25 آب 2001
حسم «الملحق» أمره إذاً في الوقوف ضدّ السلطة التي تشكّلت مع وصول إميل لحّود إلى الرئاسة. ولم يشكّل رأس الحربة في الصراع ضدّ الرقابة على الحياة الثقافيّة اللبنانيّة وحسب، لكنّه طرح أيضاً الأسئلة حول مصير الديموقراطيّة السياسيّة في لبنان.
لكن، في الوقت نفسه، بات واضحاً أنّ المعارضة التي دعا «الملحق» إلى تأسيسها منذ إعادة إطلاقه أوائل التسعينات، مراهناً على المثقّفين والطلاب والنقابات واليسار، لم تعد هي المعارضة الصالحة لهذه المرحلة. وبدأ «الملحق» يتحدّث، عوضاً عن ذلك، عن معارضة تقوم على جناحَيْن: معارضة مسيحيّة آتية من نقد «الاحتلال السوري» للبنان، ومعارضة يساريّة باتت تميل أكثر فأكثر إلى تغليب مكوّنها الديموقراطي. وقد استبق الملحق في ذلك تأسيس لقاء قرنة شهوان (الذي ضمّ شخصيّات مسيحيّة معارضة) ثمّ المنبر الديموقراطي (الذي أسّسه القيادي اليساري المستقلّ حبيب صادق)، فكان سبّاقاً في الدعوة لالتقاء هذَيْن التيّارَيْن بعد توحيد المعركة ضدّ «الشركة» و«الثكنة».
عند هذا التقاطع اليساري-المسيحي، قدّم «الملحق» العونيّين على صفحاته، وكانوا لا يزالون جسماً ناشطاً في الجامعات والشوارع من دون هويّة سياسيّة مكتملة. فلاحظ بلال خبيز أنّ خطاب السيادة الفضفاض استطاع وحده «أن يصمد أمام عشرة أعوام من القمع»،
خبيز، بلال. أبطال الحرب الأخيرة والسلم الأوّل. الملحق، 27 آذار 1999
ليستنتج أنّ «ذلك ينبئ بصحّة الشعار، وخطل خطابات الأخوّة والتضامن [مع النظام السوري] على الصورة التي أسّسها حكم ما بعد الطائف».
خبيز، بلال. أبطال الحرب الأخيرة والسلم الأوّل. الملحق، 27 آذار 1999
وحين عرّف القياديّ في التيّار يوسف الأندري العونيّةَ، حرص على تمييزها بين الاحتلال الإسرائيلي والوجود السوري، كما شدّد على أنّ تيّاره لا طائفيّ:
ظاهرة عون تقوم على شقَّيْن، سياسي ووطني. السياسي يتضمّن قيام دولة المؤسسات على أساس وطني لا طائفي، فيما الشقّ الوطني يتعلق بالسقف السيادي الذي لا نزول تحته والذي يقوم على أساس وطني جامع، وهو سقف يرفض الاحتلال الإسرائيلي والوجود العسكري السوري، إضافةً إلى رفض الهيمنة السورية وكلّ الحالات غير اللبنانية في لبنان. الأندري، يوسف. لولا الحالة الكونية لما حظي لحود بالتأييد الشعبي. الملحق، 27 آذار 1999
أمّا القيادي العونيّ آنذاك كمال يازجي، فطمأن «الملحق» الذي حاوره بأنّ اليمينيّين هم أقليّة ضمن التيّار العوني، وأنّه «يوجد في التيار عدد كبير من اليساريّين ويجاهرون بآرائهم. وسبب إعجابهم بعون، تمثيله لظاهرة ثوريّة». يازجي، كمال. عون تغييري وثوري وهذا سبب إعجابي به. الملحق، 27 آذار 1999 كما لم يتردّد مكتب التيّار في باريس في الإعلان عن أنّ «المثال الأفضل للبنان هو النظام العلماني». مكتب «التيار الوطني الحر» في باريس. الملحق، 27 آذار 1999
لكنّ العونيّين الذين عادوا للظهور في «الملحق» في مناسبات أخرى، أنظر مثلاً شهادات الطلاب العونيّين الذين تعرّضوا للاعتقال: «رهائن الحرية الكاذبة». الملحق، 13 أيار 2000 لم يشكّلوا هم رافعة التقارب بين المعارضتَيْن، بل إعادة طرح الأسئلة الصعبة حول النظام في لبنان ومستقبله من خارج الأدبيّات اليساريّة. وكأنّ هيمنة اليسار على الخطاب المعارض في لبنان منذ انهيار التجربة الشهابيّة، باتت عائقاً الآن أمام تشكّل معارضة فاعلة.
إذا كانت الوثيقة التي كتبتها مجموعة من المعماريّين العام 1992 ونشرَها الملحق تحت عنوان «رؤية بديلة لإعمار بيروت» هي وثيقة تأسيسيّة لخطاب الذاكرة الذي حمله الملحق على مدى سنوات، فإنّ نشر وثيقة «مانيفيست لتجديد معنى لبنان» مجموعة من الكتّاب. مانيفيست لتجديد معنى لبنان. الملحق، 15 أيّار 1999 العام 1999 وفتح النقاش حولها على مدى عدّة أعداد، شكّل إشارةً نحو دخول مرحلة جديدة.
فبخلاف ثنائيّة العلمانيّة/ الطائفيّة التي بنى عليها اليسار خطابه تاريخياً، انطلق المانيفيست الجديد من التوفيق بين المواطنيّة والتعدّدية، أو بين اتّجاهين أساسيّين لدى الساعِين للخروج من أزمة النظام اللبناني: اتّجاه قانوني-دستوري-مدني يركّز على بناء دولة القانون والمؤسّسات ولا يقيم اعتباراً للطوائف، لا بل يعتبرها من مظاهر التخلّف وأسباب الحروب الأهليّة، واتّجاه طائفي-ميثاقي يركّز على ميثاق العيش المشترك الذي من دونه لا قيام للدولة. مجموعة من الكتّاب. مانيفيست لتجديد معنى لبنان. الملحق، 15 أيّار 1999
لكنّ دلالة المانيفيست ليست في محاولته التوفيق بين هذين الاتّجاهين وحسب، بل في طريقة عرضه للأزمة أيضاً. فالاتّجاه الأوّل الذي يتحدّث عنه، والذي كان «الملحق» يندرج ضمنه حتّى ذلك التاريخ، بات وفق المانيفست اتّجاهاً يعبّر عن موقف «يستهوي عدداً من القوى في الأحزاب غير الطائفية والتشكيلات النقابية والمهنية وفي بعض الأوساط الثقافية والشبابية». مجموعة من الكتّاب. مانيفيست لتجديد معنى لبنان. الملحق، 15 أيّار 1999 أمّا الاتّجاه الآخر، الطائفي-الميثاقي، فيتجاوز الخصوصيّة اللبنانية ليعبّر عن اتّجاه عالميّ أساسيّ، «خصوصاً في المجتمعات الباحثة عن أسس جديدة لوحدتها في ضوء المناقشات الجارية حول مسألة الهويّة». مجموعة من الكتّاب. مانيفيست لتجديد معنى لبنان. الملحق، 15 أيّار 1999
وفي الوقت الذي دارت فيه النقاشات حول المانيفيست على صفحات «الملحق» لتمهّد للتحالفات الجديدة، جاءت افتتاحيّة الياس خوري وكأنّها باتت رأياً هامشيّاً يصطفّ إلى جانب الآراء الأخرى التي تجد مساحةً لها في «الملحق»، لكنّها لا تصوغ وجهته العامّة. فرغم اعتراف الافتتاحيّة بأنّه حتّى في زمن اليسار والحركة الوطنية، حمل العلمانيّون «خطاباً وطنياً في إطار شبه طائفي. أي أنّهم توسّلوا الطائفية بهدف إلغائها»، خوري، الياس. خداع التاريخ. الملحق، 29 أيار 1999 فإنّ الكاتب يعود إلى التساؤل:
لماذا لا نبدأ من جروح الحرب، ونؤسّس كتلة تاريخيّة علمانية، تفصل الدين عن الدولة، وتضع حدّاً واضحاً بين الانتماء الديني الإيماني والانتماء الطائفي؟ هل الكتلة العلمانيّة مستحيلة؟ وهل الوطن مجرّد تسوية مؤقتة؟ أم أنّ التاريخ كان يخدعنا حين أوحى لنا بأنّنا قادرون على صناعته؟ خوري، الياس. خداع التاريخ. الملحق، 29 أيار 1999
بدا هذا التساؤل وكأنّه الزفرة الأخيرة قبل تسليم السلاح وإلقاء الخطاب العلماني جانباً كي يستريح قليلاً، إلى جانب خطاب الذاكرة، ليتيح صعود المكوِّن الديموقراطي ضدّ الأجهزة اللحوديّة، والمال الحريريّ، والتدخّل السوريّ.
سيّد الحلبة
مع الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في أيار 2000، ارتفعت حدّة المعارضة للتدخّل السوري، لكن بقي مأزق هذه المعارضة بشقّيها اليساري والمسيحي يكمن في عجز خطابها التوفيقيّ عن توفير مظلّة وطنيّة جامعة. وقد عبّر شكيب قرطباوي، أحد الحقوقيّين العونيّين، عن هذه المعضلة قبيل الانتخابات النيابيّة العام 2000:
المفقود هو الرابط بين التغييريّين على المستوى الوطني العام. فأنا ابن منطقة بعبدا انتخابياً وقد يكون لديّ مرشّح تغييريّ، وقد يكون هناك مرشّح مماثل في منطقة عكار، لكنّني لا أشعر أنّ هناك رابطاً بين هذَيْن المرشّحَيْن على الصعيد الوطني العام. ندوة الانتخابات تطلق صيحتها لكسر الخوف. الملحق. 12 آب 2000. جاء كلام قرطباوي ضمن ندوة ذات دلالة في اختيار المشاركين فيها: قرطباوي نفسه (العونيّة)، سمير فرنجيّة (المعارضة المسيحيّة المستقلّة)، فاروق دحروج (الحزب الشيوعي)، وحبيب صادق (المعارضة اليساريّة المستقلّة)، وحمل عنوانها وجهة المعركة المقبلة: «لا ترضخوا لسلاطين المال والإعلام والأجهزة والأيدي الخفيّة».
كان لا بدّ من انتظار نتائج انتخابات العام 2000 لإيجاد «هذا الرابط»، لكنّ ذلك لم يأتِ دون كلفة. فوليد جنبلاط الذي صُنِّف قبل أقلّ من عامَيْن كجزء من «المعارضة الوقحة» المسؤولة عن تدهور الأوضاع، خاض معركته الانتخابية ضدّ الأجهزة رافعاً شعار تصحيح العلاقات اللبنانية-السورية. فاعتُبرت معركته هي التي أعطت معنى سياسياً للانتخابات التي كانت لتقتصر على صراع لحّودي-حريريّ.
مع فوز جنبلاط في الانتخابات، احتفل «الملحق» بما أسماه انتصار المعارضة على الأجهزة، والتقط القوّة الجاذبة التي حقّقتها النقلة الجنبلاطيّة. فالكتلة الجنبلاطية قادرة أن تمنح النوّاب المعارضين الذين حقّقوا انتصاراً انتخابياً فردياً، معنىً مختلفاً لانتصارهم، ناهيك بإعطاء مسألة العلاقات اللبنانية-السورية أولويّةً على حساب المعركة بين العهد والحريري. خبيز، بلال. «المعارضة تنتصر على الأجهزة: الطاولة السوريّة المقلوبة». الملحق، 2 أيلول 2000
وما كاد المجلس النيابي الجديد يلتئم، حتّى كرّس «الملحق» وليد جنبلاط كـ«سيّد الحلبة»، داعياً المعارضتَيْن المسيحيّة واليساريّة لملاقاته من أجل النضال الديموقراطي-الاستقلالي:
لا يسع المراقب سوى أن يشعر بنوع من التواصل بين الطرح الجديد الذي قدّمه وليد جنبلاط، والأفق الديموقراطي الذي يعبّر عن نفسه في الأوساط الثقافية والشبابية والتغييرية في لبنان، التي وجدت نفسها بعد الطائف، خارج السياسة بعدما سيطر أمراء الحرب والمال على السلطة. خوري، الياس. «سيّد الحلبة». 11 تشرين الثاني 2000
بينما كان «الملحق» يكرّس جنبلاط زعيماً على رأس معارضة موعودة، بدا في الوقت نفسه وكأنّ جنبلاط قدّم سترة نجاة لـ«الملحق» الذي كان لا يزال ضائعاً بين معارضته الحريريّة ومعارضته للأجهزة، من دون أن يتمكّن من التموضُع سياسياً في جهة مقابل الأخرى. وإذا بجنبلاط يخترع مساحة سياسيّة ثالثة قائمة على المطالبة بإعادة انتشار الجيش السوري في لبنان وتصحيح العلاقات اللبنانية-السورية.
لقد عرف «الملحق» دائماً كيف يجد معاركه السياسيّة، لكنّه كان قد انتهى فعلياً كتجربة مهنيّة وثقافيّة. يقرّ الياس خوري بانتهاء التجربة مبكراً من دون تحديد الأسباب. مقابلة مع الكاتب. فالموقع السياسي الجديد بات بعيداً عن العدّة الثقافية والفنية والاجتماعية التي شكّلت هويّة الملحق على مدى عقد كامل، من دون أن ينجح في بلورة عدّة جديدة. فتحوّلت صفحات «الملحق» إلى مقالات وندوات وملفّات سياسيّة. غابت التحقيقات الاجتماعية التي كانت تبحث في الهوامش عن البلاد التي وُلدت ما بعد الحرب. وأقفل مسرح بيروت أبوابه مُنهياً التوأمة الثقافية بينه وبين «الملحق». وإذ حاول الأخير التجديد عبر الاستنجاد تارةً بالفنّ المعاصر لعب بلال خبيز دوراً أساسياً في الربط بين «الملحق» والفنّانين المعاصرين الذين صعدوا في بيروت التسعينات. وطوراً بما بعد الحداثة، انتقل الياس خوري بعد تجربة مسرح بيروت إلى «مهرجان أيلول»، قد احتفل «الملحق» بأوّل عروض المهرجان معلناً: «ما بعد الحداثة تقرع أبواب بيروت». الملحق، 4 أيلول 1999. فإنّ ذلك لم ينجح في استعادة التجربة التي مثلّها «الملحق» في التسعينات كمشروع ثقافيّ سياسيّ متكامل.
الوصاية
تصحيح العلاقات اللبنانية-السورية
لم تقتصر جرأة كتّاب «الملحق» على مواجهة الأجهزة الأمنية في عزّ تسلّطها، بل كان «الملحق» شريكاً أيضاً في رفع الصوت في وجه الوصاية السوريّة. وفي حين يزعم الياس خوري أنّ المواجهة مع الحريريّة منذ أوائل التسعينات كانت مواجهةً لأداة الحُكم التي اعتمدتها الوصاية، خوري، الياس. مقابلة مع الكاتب فإنّ هذه القراءة المتأخّرة تبدو محاولة لإسقاط تطوّرات المستقبل على الماضي. صحيح أنّ «الملحق» لم يخلُ من أصوات أساسيّة فيه معارضة للحُكم السوري في لبنان، إلا أنّ هذا النوع من الاعتراض بقي على ضفاف التوجّه التحريريّ العامّ لـ«الملحق»، والذي كان معنياً أساساً بإعادة إحياء يسار قائم على خطاب الذاكرة، وغير بعيد عن اليسار التقليدي الذي أقلّ ما يمكن قوله هو أنّ مقارعة الوصاية السوريّة لم تكن على جدول أعماله.
لكنّ صدمة التمديد للرئيس الياس الهراوي ثمّ صعود دور الأجهزة الأمنية مع بدء الهمس باسم قائد الجيش أميل لحود كرئيس سيفرضه حافظ الأسد على الجمهوريّة اللبنانيّة، هما الحدثان الأساسيّان اللذان جعلا من يساريّة «الملحق» تتّجه أكثر فأكثر نحو إعطاء الأولويّة لمكوّنها الديموقراطي. وإذا كان الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في أيار 2000 قد وسّع هامش الحركة لدى القوى السياسيّة في محاولة التفلّت من القبضة السوريّة، فإنّ بذور هذه المعركة ظهرت في «الملحق» قبل عامَيْن على الأقلّ. وقد أدرك «الملحق» مبكراً الترابط بين معركتَي ديموقراطيّة سوريا واستقلال لبنان (وهو ما سيصبح عنوان كتاب لسمير قصير)، فلم تقتصر مقالاته على نقد العلاقات اللبنانية-السورية، بل امتدّت لتشمل الحريّات السياسيّة داخل سوريا نفسها، قبل أن يصبح «الملحق» لاحقاً منبراً لمعارضين سوريّين وجدوا فيه وسيلتهم للتعبير عن أفكارهم المحرَّمة في الصحف السوريّة.
لعلّ مصطلح «الوصاية» ظهر للمرّة الأولى على صفحات «الملحق» في العدد الافتتاحيّ للعام 1998، العام الذي شهد لاحقاً انتخاب إميل لحود رئيساً للجمهورية. وما كان لعنوان «من أجل أن نتحرّر من الوصاية» ليتصدّر «الملحق» ربّما، لو لم يكن مرتبطاً بحوار مع شخصيّة مستقلّة ابتعدت عن السياسة اليوميّة وتحظى باحترام قوى متناقضة، هي وزير الخارجية الأسبق فؤاد بطرس. لكنّ اللافت هو أنّ المقابلة التي كانت عبارة عن مراجعة لتاريخ الحياة السياسية لبطرس بمناسبة صدور كتاب جديد له، لم تتضمّن سوى أسطر قليلة حول الوصاية، تدعو إلى «التماسك الداخلي بين اللبنانيّين» كي تتبدّل طريقة التعامل مع سوريا، «وإلا يصعب أن نتحرّر من الوصاية». خبيز، بلال وخوري، الياس. «فؤاد بطرس: من أجل أن نتحرّر من الوصاية: وُجِد لبنان لأنّه مختلف عن سواه»، 3 كانون الثاني 1998 وهو ما يدلّ على أنّ «الملحق»، من خلال العنوان الذي وضعه، أراد أن يطلق صفّارة البداية لمعركة جديدة من معاركه.
تزامن ذلك مع تغييرات في إدارة تحرير «الملحق» وتعيين الشاعر عقل العويط مديراً للتحرير، وكانت بصماته واضحة في جذب كتّاب من المعارضة المسيحيّة للوجود السوري في لبنان. فظهر اسم سمير فرنجيّة في العام 1997 للمرّة الأولى على صفحات الملحق، فرنجية، سمير. «مفهوم الدولة للانصهار الوطني يؤسس لصراع أهلي جديد». الملحق، 10 ايار 1997 وهو الذي سيصبح لاحقاً كاتباً دوريّاً في الملحق تتناول كتاباته بشكل أساسيّ العلاقات اللبنانيّة-السوريّة. كذلك ظهرت أسماء كالمطران يوسف بشارة بشارة، يوسف. «هذا ما يتوق إليه المسيحيّون في المجتمع المدني». الملحق، 7 آذار 1998 الذي سيصبح مؤسّس «لقاء قرنة شهوان» الذي جمع شخصيّات مسيحيّة معارضة للوجود السوري في لبنان.
لم يحمل هؤلاء الكتّاب معهم نقدهم للوصاية وحسب، بل نظرتهم المختلفة إلى معالجة أزمة النظام في لبنان، بحثاً عن ديموقراطية مختلفة عن الديموقراطية العلمانية التي لطالما نادى اليسار بها وهيمنت على خطاب الملحق في أعوامه الأولى. ففي مقاله الأوّل في «الملحق»، كتب فرنجيّة عن الديموقراطية التوافقية والدولة التي ينبغي ألا تحمل نظاماً يستقوي على المجتمع بل ينسجم مع طبيعته، معتبراً أنّ المشاركة المتوازنة للطوائف داخل السلطة هي التي تؤمّن الطمأنينة للطوائف. فرنجية، سمير. «مفهوم الدولة للانصهار الوطني يؤسس لصراع أهلي جديد». الملحق، 10 ايار 1997
اتّخذ نقد السيطرة السورية على لبنان في البداية شكل الاعتراض على الارتباك السوريّ بشأن إمكانيّة الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، أنظر مثلاً: أبي سمرا، محمّد. «لبنان الرسمي: الهلع الدائم من انسحاب إسرائيل». 11 كانون الأوّل 1999 وكذلك الاعتراض على ما اصطُلح على تسميته «تلازم المسارَيْن» السوري واللبناني خلال مفاوضات السلام مع إسرائيل، واعتبار هذا التلازم الذي ارتضى به لبنان الرسميّ مناقضاً للمصلحة اللبنانيّة. أنظر مثلاً: قصير، سمير. «مفهوم وحدة المسارين بين لبنان وسوريا: حفلة صيد في المياه العكرة». الملحق، 4 كانون الأوّل 1999. وخوري، الياس. «تحت السلام». الملحق، 24 تمّوز 1999 لكنّ الانسحاب الإسرائيلي من لبنان هو الذي فتح باب نقد الدور السوري في لبنان على مصراعيه. فما كاد يمرّ أسبوع واحد على الانسحاب الإسرائيلي، حتّى كتب سمير فرنجيّة: «والآن، تصحيح العلاقات اللبنانية-السورية». فرنجيّة، سمير. «والآن، تصحيح العلاقات اللبنانية-السورية». الملحق، 3 حزيران 2000 اعتبر فرنجيّة أنّنا أمام فرصة تاريخيّة لإنهاء دور لبنان كـ«ساحة»، وأنّ تصحيح العلاقة مع سوريا يقوّي موقفها في المفاوضات مع إسرائيل ولا يضعفه. فرنجيّة، سمير. «والآن، تصحيح العلاقات اللبنانية-السورية». الملحق، 3 حزيران 2000
لقي هذا التوجّه جرعة دعم قويّة من بيان المطارنة الموارنة الذي صدر في 20 أيلول 2000، داعياً إلى إعادة انتشار الجيش السوري تمهيداً لانسحابه من لبنان. وقد تولّى «الملحق» الدفاع عن هذا البيان التأسيسي، فسخر محمد أبي سمرا من ردود فعل حلفاء سوريا في لبنان الذين لا يجدون خياراً للّبنانيّين إلا بالبقاء تحت الحكم السوري أو الاندماج ضمن المخطّطات الإسرائيليّة، ملوّحين دائماً بخيار أمنيّ ضدّ المعارضين. أبي سمرا، محمّد. «مجتمع أهل الضعف يردّ على بيان المطارنة». الملحق، 30 أيلول 2000
أمّا الدفاع المتكامل عن نداء بكركي، فجاء من سمير فرنجيّة الذي فنّد الانتقادات له، معيداً التذكير بالترابط بين الديموقراطية في سوريا واستقلال لبنان:
في سوريا فرزٌ شبيه بالفرز اللبناني بين خطّ قديم وآخر جديد. والقيادة السورية هي اليوم أمام خيار من اثنين، فإمّا التمسّك بالوضع القائم ورفض الإصلاحات الداخليّة التي تسمح لسوريا دخول العصر وتأمين شروط تطوّرها، وإمّا الدخول في عمليّة إصلاح النظام وتطويره كي يتمكّن من مواجهة التحديات المستقبلية. فرنجيّة، سمير. «من يتآمر على سوريا: الداعون إلى الحوار أم المتمسّكون بلغة التخوين؟». الملحق، 18 تشرين الثاني 2000
لم يبقَ نداء بكركي يتيماً، فتلاه تأسيس لقاء قرنة شهوان في 30 نيسان 2001 ثمّ المنبر الديموقراطي الذي ترأسه حبيب صادق في 16 أيّار 2001. كأنّما تجسّدت فكرة التقاء المعارضة المسيحيّة بالمعارضة اليساريّة التي دعا إليها «الملحق» في هذين اللقاءين، ممّا سمح لسمير فرنجيّة بناء خطّ تواصليّ بين تصريحات وليد جنبلاط قبل الانتخابات النيابيّة وبيان المنبر الديموقراطي مروراً بنداء بكركي وقرنة شهوان، معلناً «لقد بدأ حقّاً ربيع لبنان!» فرنجيّة، سمير. «لقد بدأ حقاً ربيع لبنان!». الملحق، 19 أيار 2001
ربيع دمشق
في 10 حزيران 2000، بعد قرابة أسبوعَيْن على الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، مات حافظ الأسد و«ورث» ابنه بشّار رئاسة الجمهوريّة السوريّة. شكّل ذلك مناسبةً لفتح «الملحق» ملفّ الديموقراطية في سوريا، معوِّلاً على مجموعة من المثقّفين السوريّين، وفي مقدّمتهم السجين السياسي السابق رياض الترك، الأمين العام الأوّل للمكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري الذي قضى 17 عاماً في السجن الانفرادي.
كان الترك قد ظهر قبل ذلك على صفحات «الملحق» بعد قرابة شهرين على خروجه من السجن في 20 أيار 1998، في مقابلة دياب، صالح. رياض الترك يروي لـ«الملحق» تجربته في السجن: كنتُ أقتل الوقت كي لا أسمح له بقتلي. الملحق، 25 تمّوز 1998 لم تتطرّق للسياسة. لكنّ نشر صُوَر الترك على صفحات الملحق آنذاك كان يشكّل فعلاً سياسيّاً بحدّ ذاته. وبعد 12 يوماً على تولّي الأسد الابن الرئاسة، نشر «الملحق» مقالاً للترك رفض فيه «مسرحيّة» التوريث في سوريا التي وصفها بـ«مملكة الصمت». الترك، رياض. «من غير الممكن أن تظلّ سوريا مملكة الصمت». الملحق، 22 تمّوز 2000 إضافةً إلى الترك، أعاد «الملحق» نشر الرسالة التي وجّهها المثقّف أنطون مقدسي إلى بشار الأسد بعد تولّيه الرئاسة، والتي أدّت إلى إقالة مقدسي من وظيفته في وزارة الثقافة. مقدسي، أنطون. «من الرعيّة إلى المواطنة». الملحق، 9 أيلول 2000
غير أنّ الإسهام السوريّ الأساسيّ لـ«الملحق» كان تفرّده في نشره البيان الذي وقّعه 99 مثقّفاً سوريّاً، والذي يطالب بإلغاء حالة الطوارئ في سوريا، والعفو العام عن المعتقلين السياسيّين، وإرساء دولة القانون وإطلاق الحريات العامة. بيان الـ99. الملحق، 30 أيلول 2000 وفي ردّ على محاولات إظهار الرئيس الجديد نفسه كإصلاحيّ، رأى البيان إنّ الإصلاح هو سياسيّ أوّلاً:
إنّ أيّ إصلاح، سواء كان اقتصادياً أم إدارياً أم قانونياً، لن يحقق الطمأنينة والاستقرار في البلاد، ما لم يواكبه، في شكل كامل، وجنباً إلى جنب، الإصلاح السياسي المنشود. بيان الـ99. الملحق، 30 أيلول 2000
لكنّ اللافت لم يكن البيان الجريء فحسب، بل أيضاً تقديم «الملحق» له الذي يعيد التذكير برهان «الملحق» على دور المثقّف في لبنان. فرأى «الملحق» أنّ هذا البيان هو إعلان بـ«أنّ المثقّف الحقيقي هو ضمير المجتمع، وأنّ التغيير يبدأ بالشجاعة الفكريّة والنزاهة الأخلاقيّة». بيان الـ99. الملحق، 30 أيلول 2000
توالت من ثمّ قصص السجون والسجناء السوريّين في «الملحق»، أنظر مثلاً: أتاسي، محمّد علي. «سجن المزّة: القصّة الكاملة». الملحق، 9 كانون الأوّل 2000 وباتت صورة رياض الترك والمقالات عنه بعد إعادة اعتقاله في أيلول 2001 ضيفاً دائماً على «الملحق»، بعدما تُوِّج مقاله عن «مملكة الصمت» كالشرارة التي أطلقت ما سُمِّي بـ«ربيع دمشق». أتاسي، محمّد علي. «ضمير في الزنزانة». الملحق، 8 أيلول 2001 ذاك الربيع الذي سرعان ما انقضّت السلطة عليه، فنعاه الملحق على شكل سؤال تصدّر غلافه: هل انتهى ربيع دمشق؟ وهنا، مرّةً أخرى، يعود «الملحق» للدفاع عن إيمانه بدور المثقّف:
قد يكون النقد الأكثر دقة لـ«الربيع» الدمشقي، هو أنه لم يستطع أن يتحوّل حركة احتجاج شعبية، على غرار الحركات المشابهة التي قادها مثقّفون في المعسكر السوفياتي السابق، ضد الأنظمة القمعية في بلادهم. هذا النقد صحيح، يتجاهل أنّ مهمة «ربيع دمشق» مختلفة جذرياً. فالواقع في المشرق العربي، يحتّم الشروع في ثورة ثقافية — رمزية تسبق أيّ عمل سياسي. خوري، الياس. «ضرورات الربيع». الملحق، 1 أيلول 2002
بعد انتهاء ربيع دمشق بقرابة عشرين عاماً، أعاد الياس خوري التأكيد أنّه كان مؤمناً فعلاً بقدرة المثقّفين على إطلاق شرارة التغيير في سوريا. «صدّقتُ ذلك لأنّي أردتُ أن أصدّق»، يقول خوري. خوري، الياس. مقابلة مع الكاتب
لا للحرب، لا للدكتاتوريّة
شكّلت تداعيات 11 أيلول والاستخدام الأميركي العشوائي لخطاب «مكافحة الإرهاب» نوعاً من «الهدنة» التي تراجعت فيها (من دون أن تختفي) المعركة ضدّ الوصاية داخل «الملحق» الذي ابتعدت افتتاحيّاته عن السياسة اللبنانية. وتصاعد هذا الاتّجاه مع الاستعدادات لحرب العراق 2003. فتزامن ارتفاع حظوظ حرب أميركية في المنطقة مع انكفاء المعارضة اللبنانية، بعد إعلان وليد جنبلاط وقوفه إلى جانب سوريا في أيّ حرب تشنّها الولايات المتّحدة الأميركية. وقد جاء الانسحاب الجنبلاطي من صفوف المعارضة بعد مؤتمر لوس أنجلس أواخر العام 2002 الذي نظّمته «المؤسّسة المارونيّة للانتشار»، والذي بدا وكأنّه تواطؤ مع الأميركيّين. فنعى الياس خوري المعارضة بعد الفراغ الكبير الذي أحدثه انسحاب جنبلاط والمواقف المعارِضة «القصوويّة»:
أجواء بناء جبهة استقلالية وطنية صارت اليوم من الماضي البعيد. فالمناخ الذي خلقه توقيع وثيقة «المنبر الديموقراطي» والتحالف الذي نشأ بين اليسار الديموقراطي والحزب الاشتراكي و«لقاء قرنة شهوان»، انتهى وتلاشى. خوري، الياس. عن المعارضة. الملحق، 12 كانون الثاني 2003
مع تراجع المعارضة اللبنانية، بدأ تناقض آخر يبرز بين أطياف اليسار في لبنان الذي انقسم بين جناح أنتي-إمبريالي وجناح ديموقراطي. يضع الجناح الأوّل في أولويّاته مقاومة الضغوط الأميركيّة ثمّ غزو العراق حتّى لو أدّى الأمر عملياً إلى الوقوف إلى جانب النظام السوري أو العراقي، بينما يتمسّك الجناح الثاني بمكوّنه الديموقراطي حتّى لو أدّى ذلك إلى «تقاطع مصالح» مع الولايات المتّحدة الأميركية.
وسط هذا الانقسام، عكس «الملحق» تراجيديا الموقف اليساري الديموقراطي الذي لا يريد التخلّي عن مكوّنه «الأنتي-إمبريالي» في الوقت الذي تخوض فيه الإمبراطوريّة الأميركيّة غزوها للعراق تحت راية نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط الجديد. ولم يكن غريباً أن يعبّر عن تراجيديّة هذا الموقف أحد المثقّفين السوريّين الذين عانوا من المعتقلات السياسية. فبعيداً من التذاكي أو المكابرة، اعترف ياسين الحاج صالح أنّ أيّ خيار ثالث هو خيار مأسويّ، لأنّ «الموقف السياسي الناجع غير صحيح أخلاقياً، والموقف الصحيح غير سياسي وغير ناجع»، ياسين الحاج صالح. «مأسويّة الخيار الثالث». الملحق، 6 نيسان 2003 ممّا يجعل من محاولة تجاوز الانقسام بين السياسي والأخلاقي مهمّة مأسويّة.
رفض الياس خوري الاعتراف بتراجيديّة اللحظة، متبنّياً شعار «لا للحرب، لا للديكتاتوريّة» خلال غزو العراق، في لعبةٍ أشبه بكبرياء يساريّ وثقافيّ يرفض أن ينكسر أمام قسوة الواقع، فيعلن أنّ «الخيار ليس بين أميركا والديكتاتور. الخيار بينهما وبين الحرية والاستقلال في المشرق العربي». خوري، الياس. «ضدّ الحرب». الملحق، 9 شباط 2003
مع سقوط صدّام حسين، بدا وكأنّ «الملحق» بات في موقف مريح لإعادة إبراز الشقّ الأنتي-إمبريالي. وإذ ذكّر بوقوفه ضدّ الدكتاتور وضدّ الحرية الآتية على متن الدبابات في الآن نفسه، دعا المثقّفين العراقيين والعرب ألا يشيحوا بنظرهم عن «الخطر العظيم الذي يتهدّد منطقتنا العربية ويجعلها من جديد أرضاً للتقاسم وللمخطّطات المستقبلية ولـ«السلام» المزعوم». «سقوط الصنم وتهافت الحرية». 23 نيسان 2003
يتناقض موقف خوري هذا مع موقف آخر ظهر في «الملحق»، حاول الاستفادة من الوضع الدولي المستجدّ بعد 11 أيلول لإجراء مقايضة مع النظام السوري. فرنجية، سمير. العلاقات اللبنانية- السورية: هل من تسوية ممكنة؟ الملحق، 15 كانون الأوّل 2001 تقوم هذه المقايضة على فرضيّات تبدأ باعتبار التسوية التي أرساها النظام السوريّ بعد الحرب قد انتهت، وأنّ الوقت ملائم لتسوية جديدة بناءً على المناخ الدولي الجديد وعلى المأزق المزدوج الذي تواجهه الطبقة السياسية التي نصّبتها سوريا في لبنان نتيجة فشلها الاقتصادي والحرب الدولية على الإرهاب.
انطلاقاً من هذه الفرضيّات، يقترح سمير فرنجيّة تسويةً تقوم على إعادة انتشار القوّات السوريّة في لبنان تمهيداً لانسحابها، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، وتفعيل المجلس الأعلى اللبناني-السوري لجعله الإطار الوحيد لتنسيق السياسات بين البلدين، وإتاحة حرية الحركة للأفراد الرساميل بين لبنان وسوريا. مقابل كلّ هذه التنازلات التي طالب بها فرنجيّة النظام السوري، لم يجد ما يقدّمه إلا تجنّب اللبنانيّين تكرار تجارب الماضي في الرهان على الغرب «من أجل مواجهة سوريا التي حُشرت اليوم في الزاوية بعدما فرض عليها الأميركيون اختيار معسكرها». فرنجية، سمير. العلاقات اللبنانية- السورية: هل من تسوية ممكنة؟. الملحق، 15 كانون الأوّل 2001
لم تكن مقايضات فرنجيّة مقنعةً للنظام السوري. واعترف خوري لاحقاً أنّ الموقف الذي اتّخذه كان موقفاً خارج السياسة. مقابلة الياس خوري مع الكاتب ولم يبقَ من لحظة الاستقطاب تلك إلا الموقع المأسويّ الذي وجد كثيرون من المثقّفين اللبنانيّين والعرب أنفسهم فيه.
الكتلة التاريخيّة
يمكن اعتبار القرار السوري بالتمديد لرئيس الجمهوريّة إميل لحّود، وفرضه على لبنان رغم معارضة معظم القوى السياسيّة لهذا التمديد، اللحظة السياسيّة التي أخرجت «الملحق» والمعارضة التي يمثّلها من الموقف الأخلاقي البعيد عن السياسة. وقد ساهم تذرُّع النظام السوري بالتطوّرات الدولية لفرض تعديل الدستور للتمديد للحّود، بتجاوز «الملحق» للاعتبارات الأنتي-إمبريالية. حتّى أنّ الياس خوري أبدى ضيقه من هذا الخطاب الذي يتكرّر منذ العام 1967 والذي يدّعي كسر أهداف الإمبراطوريّة بالقضاء على الأنظمة. خوري، الياس. «الميلودراما الرئاسيّة». الملحق، 5 أيلول 2004
رغم صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن يطالب القرار 1559 الصادر في 2 أيلول 2004 بانسحاب جميع القوات الأجنبية من لبنان، وبحلّ جميع الميليشيات ونزع سلاحها، وبإجراء الانتخابات الرئاسية اللبنانية وفقاً لقواعد الدستور من دون أيّ تدخّل أجنبي. قبل تعديل الدستور بساعات، واعتبار القرار ذروة الضغط الأميركي على النظام السوري وحزب الله، فإنّ ذلك لم يسهم بإعادة إحياء الشعلة الأنتي-إمبرياليّة. بالعكس من ذلك، صدر «الملحق» بعد عشرة أيّام على صدور قرار مجلس الأمن، حاملاً عنوان «نهاية الجمهوريّة الثانية» ملف: نهاية الجمهورية الثانية. الملحق. 12 أيلول 2004 ، وهو عنوان مقال سمير فرنجيّة في العدد نفسه الذي يدعو فيه إلى تشكيل «كتلة تاريخية» لإنقاذ البلاد بعدما أعلن الثالث من أيلول 2004 نهاية الجمهورية الثانية. فرنجيّة، سمير. نهاية الجمهورية الثانية. الملحق. 12 أيلول 2004
وكأنّ فرنجيّة قد استشرف المآسي اللاحقة، فأعلن وجوب الحوار مع النظام السوري والأطراف اللبنانيّة المتحالفة معه، حزب الله ضمناً. فنهاية الجمهورية الثانية، يقول فرنجيّة، «نريدها نهاية هادئة». فرنجيّة، سمير. نهاية الجمهورية الثانية. الملحق. 12 أيلول 2004
وإذا كان الحوار هو ما يشغل فرنجيّة، فإنّ الياس خوري اهتمّ بمصالحة اليسار مع فكرة الانضمام إلى «الكتلة التاريخيّة» التي نظّر لها فرنجيّة. فأعاد التذكير بأنّ التركيبة التي انتهت ليست إلا «تحالفاً بين أمراء الحرب السابقين والرأسمال النفطي ذي التوجه النيوليبرالي، والأجهزة الأمنية، في رعاية سوريّة محكمة.» خوري، الياس. «كوميديا الأغلاط ولائحة الشرف». الملحق، 12 أيلول 2004
وإذا كان توجّه «الملحق» ضدّ الحريريّة الاقتصاديّة وأمراء الحرب والأجهزة قد بات مفهوماً، فإنّ الاتّجاه الاستقلالي هو ما احتاج مصالحته مع اليسار. لذلك، وضع خوري «معركة حرية لبنان» وولادة الجبهة الاستقلالية الجديدة في صُلب مواجهة «المعركة العمياء التي تقودها الولايات المتحدة بالتحالف مع إسرائيل، من أجل طرد العرب من التاريخ». خوري، الياس. «كوميديا الأغلاط ولائحة الشرف». الملحق، 12 أيلول 2004 ذلك أنّ الاستقلال هو تجديد للفكرة العربية، والخلاص من الاستبداد هو تجديد للفكرة النهضويّة. هكذا يصبح الدفاع عن الدستور والجمهورية والديموقراطية خياراً وطنياً نهضوياً في مواجهة الإمبريالية. خوري، الياس. «كوميديا الأغلاط ولائحة الشرف». الملحق، 12 أيلول 2004
بعد قرابة شهر على تنظير «الملحق» لليسار الديموقراطي الاستقلالي، عُقِدَت الجمعية العامة التأسيسيّة لحركة اليسار الديموقراطي ضمّت الحركة قياديّين سابقين في الحزب الشيوعي اللبناني نديم عبد الصمد والياس عطالله، وكتّاب يساريّين مستقلّين كالياس خوري وسمير قصير. التي كان خوري أحد مؤسّسيها، والتي باتت جزءاً من القوى التي شاركت في «انتفاضة الاستقلال» بعد اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري.
قبل يوم واحد على هذا الاغتيال، كان خوري يستكمل عدّته الفكريّة لقيام اليسار بدوره في المعركة الاستقلالية ضدّ الوصاية، خوري، الياس. «السؤال والمسألة»، 13 شباط 2005 وذلك عبر إثبات:
- الوصاية هي أصلاً جزء من صفقة سوريّة-أميركيّة حطّمت الحركة الوطنية اللبنانية في بدايات الحرب اللبنانيّة.
- الخروج من الوصاية هو مقاومة للاستعمار لأنّ تجربة العراق تعلّمنا بأنّ «شرط الدفاع عن الأوطان هو الحرية والديموقراطية»، و«انهيار الداخل واستعباده هما شرط نجاح القوى الكولونيالية الجديدة في فرض شروطها المذلّة». خوري، الياس. «السؤال والمسألة»، 13 شباط 2005
- للقوى العلمانية دور أساسيّ في مقاومة الوصاية حتّى لا «يكون التغيير جزءاً من الجحيم الطائفي». خوري، الياس. «السؤال والمسألة»، 13 شباط 2005
النهضة الجديدة
بعد اغتيال الحريري، تحوّلت الأعداد إلى ملفّات سياسيّة تتصدّرها مقدّمة من «الملحق» تحمل موقفاً تعبوياً. والواقع أنّ «الملحق» انخرط في «انتفاضة الاستقلال» بتفاؤل مفرِط. فكتب الياس خوري: «اليوم يتأسّس الوطن الذي طال انتظاره، ويتّحد الشعب، من الشمال إلى الجنوب، حول شعار واحد وهدف واحد وقضية واحدة.» خوري، الياس. ملف «ثورة 2005 الشعبيّة: الاستقلال الثاني أوّلاً». الملحق، 21 شباط 2005 واعتبر في إحدى افتتاحيّاته أنّه يكتب باسم الـ«نحن» التي هي «جميع اللبنانيّين الذين يريدون بلداً مستقلاً سيّداً حرّاً ومتحرّراً من كلّ قيد خارجي». الملحق. ملف «شعب الاستقلال: البراكين الجريحة». 6 آذار 2005
انسحب هذا التفاؤل على تأثير الانتفاضة اللبنانية على العالم العربي. فـ«الثورة الديموقراطية في لبنان تفتح الأفق العربي الذي أقفله الانقلاب العسكري، وجمّده وقتل روح نهضته». خوري، الياس. ملف «ثورة 2005 الشعبيّة: الاستقلال الثاني أوّلاً». الملحق، 21 شباط 2005 وتماماً كما تأسّست النهضة الأولى على مقارعة الاستبداد، ستولَد نهضة ثالثة من مقاومة الاستبداد:
وغداً سوف يكتشف المشكّكون والذين يتّهمون الانتفاضة في عروبتها، أنّ الشعب اللبناني في انتفاضته يقدّم الخدمة الكبرى إلى العالم العربي، لأنّه يفتح طريق الخلاص من الانقلاب، ويعيد القضية العربية إلى مكانتها في وصفها دفاعاً عن الحرية والحق. خوري، الياس. ملف «شعب الاستقلال: البراكين الجريحة». 6 آذار 2005
لم يكن ربط «انتفاضة الاستقلال» بنهضةٍ جديدة مجرّد لعبة لغويّة. فالواقع أنّ «الملحق» نظر إلى عدد من كتّابه من المثقّفين اللبنانيّين والسوريّين كجزءٍ من تلك السلالة النهضويّة. وهذا ما ظهر جلياً في رثاء الياس خوري لسمير قصير:
كتاباته كانت مواصلةً لنضال النهضويّين ضدّ الاستبداد والاحتلال، ودعوة إلى التنوير. لذا كان سورياً وفلسطينياً ولبنانياً، أي حمل الهمّ العربي المشترك وأعاد غرسه في وطنيّة لبنانيّة منفتحة وديموقراطية. خوري، الياس. «في معنى الجريمة». الملحق، 12 حزيران 2005
حتّى الاغتيالات المتتالية التي واجهها «الملحق» بشجاعة، لم تحدّ من تفاؤله وإيمانه بالدور النهضويّ الذي تلعبه قوىً ثلاث: مدينة بيروت، ومثقّفوها، واليسار اللبناني ومعه كلّ العلمانيّين والديموقراطيّين:
صحيح أخيراً أنّ العلمانيّين واليساريّين لا يشكّلون قوّةً سياسيّة ضخمةً في لبنان أو المشرق العربي، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ هذه القوى الثلاث تمتلك طاقةً رمزيّةً قادرةً على زحزحة الجبال. خوري، الياس. «في معنى الجريمة». الملحق، 12 حزيران 2005
لم يتوقّف الإيمان بهذه الطاقة على مقاومة أيّ شعور بالخوف بعد الاغتيالات، بل تحوّل إلى تفسير لتلك الاغتيالات نفسها التي تطال يساريّي «الانتفاضة». فمع اغتيال الأمين العام السابق للحزب الشيوعي جورج حاوي، وقبل أن تتوسّع رقعة الاغتيالات، شبّه الياس خوري ما يجري بالتصفيات التي طالت مثقّفين يساريّين في الثمانينات. وكما كان الهدف وقتها إخراج اليسار من مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، يراد من تصفيات اليوم إخراج اليسار من المعركة الاستقلاليّة. خوري، الياس. «إنّهم يقتلوننا أيّها الرفاق». الملحق، 26 حزيران 2005
شبح الحرب
بعد تظاهرة 14 آذار التي جمعت مئات الآلاف في ساحة الشهداء للمطالبة بخروج الجيش السوري، خرج «الملحق» بغلاف يحمل صورة تمثال لرأس حافظ الأسد كُتب فوقه: «أواخر أيّام النظام؟» الملحق. ملف «أواخر أيّام النظام؟». 20 آذار 2005 ، وأعلن خوري عندها: «الآن نستطيع القول إنّ الحرب الأهلية اللبنانية قد انتهت». خوري، الياس. «الإثنين العظيم». الملحق، 20 آذار 2005
لكنّ هذا التفاؤل الذي حاول تجاوز الفيل القابع في الغرفة، أي حزب الله ومعه الانقسام بين جمهور تظاهرتَيْ 8 و14 آذار، لم ينسحب على كتّاب «الملحق» برمّته. فبعد تظاهرة 8 آذار التي حشد فيها حزب الله مئات الآلاف من أنصاره في وسط بيروت، وجد بلال خبيز في قدرة المعسكريْن السياسيَّيْن اللبنانيَّيْن على تجميع هذا العدد الكبير من الحشود مدعاةً للقلق، إذ يؤشّر إلى استشعار تلك الحشود الضخمة بالخطر الجدّي. وبحسب تعبيره، فـ«إنّ البلد بَلَدان»، و«ما نتّفق عليه يكاد يقرب من الصفر»:
لشدّ ما يؤلمني أن أرى تظاهرة حاشدة لدعم المقاومة وتثبيت إنجاز التحرير تجعل جزءاً كبيراً من اللبنانيين صامتين كما لو أنّ التحرير يهدّدهم. وعلى النحو نفسه، أن يرى المحرّرون في خروج الجيش السوري انكساراً لهم أمام شركائهم اللبنانيين. خبيز، بلال. «كلنا للوطن». الملحق، 13 آذار 2005
سرعان ما عاد شبح الحرب الأهليّة إلى «الملحق». فبعد حشود الساحات، وقهر الاستبداد، والتبشير بنهضةٍ ثالثة، جاءت الاغتيالات وتداعيات حرب تمّوز واعتصام المعارضة المديد في وسط بيروت. فعادت الحرب إلى «الملحق» الذي تصدّرت أغلفتَه في شهر واحد عناوين «كي لا يعود التاريخ الأعمى» الملحق. «كي لا يعود التاريخ الأعمى»، 3 كانون الأول 2006 ، و«لا للحرب». الملحق. «ملف: لا للحرب»، 17 كانون الأول 2006
في أيّامه الأخيرة في «الملحق»، عاد بلال خبيز إلى التسعينات، كأنّه يحدس بأنّ التجربة أنهت دورتها الكاملة. خبيز الذي روى في العدد الأوّل من «الملحق» سيرته كمقاتل في الحرب الأهليّة، استغرب كيف أنّ جيل التسعينات الذي تباكى على أطلال بيروت المدمّرة بعد الحرب الأهلية، عاد وانخرط بحماسة في إحدى جبهتَيْ «حرب أهلية باردة» تقسمان البلد بين «شعب عميل لإيران وسوريا، وشعب عميل لأميركا وفرنسا»: خبيز، بلال: «في نقد الحروب السابقة والراهنة». الملحق، 22 نيسان 2007
كان البكاء والنشيج على أطلال وسط بيروت التجاري صفةً عامّةً من صفات الجيل الجديد. وكان الأمل بمستقبل زاهر ينتشر في أوساط هؤلاء انتشار النار في الهشيم، إلى حدّ أنّنا شعرنا، نحن الذين ضيّعنا جلّ شبابنا في أعمال الحرب وأحلام الانتصار، أنّنا خاسرو هذه الحرب الوحيدون. خبيز، بلال: «في نقد الحروب السابقة والراهنة». الملحق، 22 نيسان 2007
خبيز الذي بقي مسكوناً بتجربة الحرب الأهليّة في كتاباته، والذي لم ينجرف كلياً ليشارك في الاستقطاب الحادّ في البلاد، ما لبث أن منعته «النهار» من الكتابة السياسيّة في «الملحق»، بعد كتابته مقالاً عن مدينة تل أبيب، خبيز، بلال. «مدينة تفيض عن حاجة الحداثات الغربية: تل أبيب محجّة أهل المنفى». الملحق، 27 نيسان 2007 قبل أن يتمّ طرده نهائياً. غادر خبيز «الملحق»، ثمّ غادر لبنان مضطرّاً بعد تهديداتٍ وحملة فبركاتٍ اتّهمته زوراً بالكتابة في صحيفة «هآرتس» الإسرائيليّة.
«حزب الله»
اتـّسعت صفحات «الملحق» للنقد ضدّ «حزب الله» في أكثر من محطّة. إلا أنّ «الملحق» عموماً استمرّ في الرهان على قيام الحزب بدور معارض لسلطة «الطائف»، وذلك لأسباب عديدة، منها: أنّ الحزب لم يكن جزءاً من تقاسم الغنائم والفساد في التسعينات، ولم يكن له دورٌ ظاهر في التفاصيل السياسيّة الداخليّة التي كانت تمسك بها الوصاية السوريّة، وقد سادت خصومةٌ آنذاك بين «حزب الله» وحركة «أمل»، إضافةً إلى دور الحزب في المقاومة وصولاً إلى الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب العام 2000.
لكنّ المفارقة هي أنّ هذا الانسحاب الذي توّج مسيرة الحزب المقاوِم، هو ما دفعه إلى أدوار سياسيّة علنيّة. فبعد ما سُمِّي بـ«تظاهرة البلطات»، نظّم مؤيّدون للوجود العسكري السوري في لبنان تظاهرةً حملوا فيها بلطات، ردّاً على استقبال شعبي لقيه البطريرك نصر الله صفير بعد عودته من زيارة إلى أميركا الجنوبيّة، وقد اعتُبر الاستقبال تأييداً لمواقف البطريرك الداعية لانسحاب الجيش السوري من لبنان. ثمّ خطاب الأمين العام لحزب الله في عاشوراء 2001 الذي شكّل أوّل دخول له في تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية، ارتفعت في «الملحق» الأصوات التي كانت ترفض منذ البداية اعتبار العمل المقاوم مفصولاً عن السياسة الداخليّة.
فرأى محمد أبي سمرا في خطاب نصر الله تأكيداً أنّ «حزبه جاهز دائماً ليكون القوّة الاحتياطيّة الكبرى في خدمة الإدارة السوريّة»، أبي سمرا، محمّد. من مزارع شبعا إلى كرنفالات السلاح الأبيض البيروتية: مقايضة التسلّط بالطاعة العمياء. الملحق، 28 نيسان 2001 قبل أن يشبّه العمليات التي بدأ حزب الله يقوم بها داخل مزارع شبعا بعمليات المنظمات العسكرية الفلسطينية في الجنوب اللبناني والتي ساهمت في دخول البلد حروبه الأهليّة. أبي سمرا، محمّد. من مزارع شبعا إلى كرنفالات السلاح الأبيض البيروتية: مقايضة التسلّط بالطاعة العمياء. الملحق، 28 نيسان 2001
وإذا كان التعامي عن علاقة العمل المقاوِم (الفلسطيني) بالحرب الأهليّة (السابقة) هو ما يدفع، بحسب أبي سمرا، إلى «تنزيه» حزب الله عن السياسة الداخليّة، فإنّ بلال خبيز يحمّل مسؤولية هذا «التنزيه» لنظرة الليبراليّين واليساريّين إلى البلد ككتلة طوائف من دون النظر إلى ما يحدث داخل كلّ كتلة:
ينشأ افتراض أنّ ما يقوم به حزب الله في الجنوب وبعض الضاحية لا علاقة له بالشأن اللبناني الداخلي، وأن كل ما يجري في هذا الصعيد وضمنه، لا يتعلق من قريب أو بعيد بغير موجبات الصراع مع العدو الإسرائيلي، وليس له أية آثار داخلية. خبيز، بلال. «لماذا تضيق الصدور باستقلال لبنان؟». الملحق، 14 نيسان 2001
فتحت ملاحظة خبيز هذه الباب فعلاً لمقالات بدأت تتكاثر في «الملحق»، يكتبها جيل جديد من الكتّاب يتناولون فيها الأوضاع داخل أماكن سيطرة حزب الله. أنظر مثلاً: سبيتي، فيديل. «مجتمع المقاومة الهادر في القرى المحرّرة». الملحق، 21 نيسان 2001 كما لو أنّ دخول «حزب الله» إلى الخطاب السياسي المباشر فتح الأعيُن أخيراً إلى وجود هذا الجسم السياسي وتأثيراته الاجتماعيّة.
تجاوز نقد حزب الله أداءه داخل لبنان، ليشمل نظرته إلى الصراع بين الفلسطينيّين وإسرائيل خلال الانتفاضة الثانية. فـ«الملحق» الذي لم تغب عن صفحاته يوماً «القضية الفلسطينيّة»، استشعر الخطر الذي بدأت تشكّله العمليات الانتحاريّة على صورة الانتفاضة وعدالة القضية الفلسطينيّة وتعاطف العالم معها. ففي حين أيّد قسم كبير من الرأي العام العربي تلك العمليّات، وباركها نصر الله معتبراً أنّه لا يوجد مدنيّون داخل المجتمع الإسرائيلي وأنّهم كلّهم غزاة ومحتلّون، استخدم «الملحق» رصيده الفلسطينيّ ليحذّر من خطر تلك العمليات:
إنّ النظريّة القائلة بأنّ كل مواطن إسرائيلي مسؤول عن جرائم حكومته ومتواطئ معها، وتالياً يجب قتاله وقتله إذا أمكن، لا تشبه شيئاً آخر سوى شعار رمي اليهود في البحر، والذي لم يحسن أحد غير الإسرائيليين أنفسهم استخدامه في بناء لُحمَتهم الداخلية وفي كسب حربهم الإعلامية ضد العرب. أتاسي، محمد علي. من أجل أن يقرأ انتحاريّو المنطقة. الملحق، 22 كانون الأوّل 2001
لكنّ هذا النقد الذي طال حزب الله بقي على الهامش في «الملحق»، رغم خذلان «حزب الله» المعوِّلين عليه عبر تحالفاته الانتخابيّة مع «حركة «أمل»، وفي دفاعه عن الوصاية السوريّة. حتّى اغتيال رفيق الحريري و«انتفاضة الاستقلال» التي تلتْه، لم تبدّل من تلك النظرة الاستثنائيّة نحو «حزب الله». فتدرّج الموقف من ضرورة احتضان الحزب علّه يشارك في «المهمّة الاستقلالية العظمى»، الملحق. ثورة 2005 الشعبية: الاستقلال الثاني أوّلاً. 21 شباط 2005 إلى طمأنة الذات بأنّه من المستحيل أن يستخدم حزب الله قوّته لزعزعة توازنات الداخل لأنّ ذلك يضرّ به أوّلاً، الأمين، محمد حسن. حزب الله والشيعة: صناعة الإجماع الوطني. الملحق، 6 آذار 2005 إلى دعوة حزب الله بألا يضيّع فرصة «استثمار التحرير الذي صنعته المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي داخل مشروع نهضوي عربي جديد»، خوري، الياس. الإثنين العظيم. الملحق، 20 آذار 2005 إلى إقناع النفس بأنّ حزب الله يريد الانضمام إلى انتفاضة الاستقلال لكنّه يخضع لابتزاز السلطة الأمنية-السياسية الحاكمة. الملحق. ملف «الطريق إلى ربيع لبنان». 27 آذار 2005
حتّى أنّ أحد أشرس المعارضين للنظام السوري وصف خطاب 8 آذار الذي ألقاه نصر الله تحت عنوان «شكراً سوريا»، بأنّه «كان في الإجمال مُتعقِّلاً ومسؤولاً وسياسياً بامتياز». حديدي، صبحي. «غلطة السيّد… بألف ممّا نعدّ!». الملحق، 13 آذار 2005 أمّا الاختلافات معه، لا سيّما في ما يتعلّق بموقفه من النظام السوري، فهي من باب غلطة الشاطر والاضطرار. حديدي، صبحي. «غلطة السيّد… بألف ممّا نعدّ!». الملحق، 13 آذار 2005
هذا التقدير لمقاومة «حزب الله» وتضحياته قاد «الملحق» إلى مخالفة كثيرين ضمن تحالف 14 آذار من أجل مديح «الصمود البطولي في الجنوب» خوري، الياس. درسان من الحرب. الملحق، 10 أيلول 2006 خلال حرب تمّوز، وإن كان مديحاً مصحوباً بدعوةٍ إلى الحوار الوطني للبحث في مصير المقاومة الإسلاميّة. لكنّ رياح الخريف التي عصفت بالتطوّرات السياسيّة اللاحقة، أثبتت هذه المرّة أنّ زمن التفريق بين المقاومة والسياسة الداخليّة قد ولّى. فتدرّج موقف «الملحق» من التحذير من انقلاب سياسي يقوده «تحالف حزب الله وعون ولحود وبعض زمر الهيمنة السورية» لوضع لبنان داخل المحور الإيراني، خوري، الياس. درسان من الحرب. الملحق، 10 أيلول 2006 إلى اتّهام المقاومة الإسلاميّة بتخريب التوازن الطائفي الدقيق الذي لا يحتمل انفراد مقاومة ذات طابع طائفيّ بقرار السلم والحرب، خوري، الياس. «المغامرة والمقامرة». الملحق، 18 شباط 2007 إلى لوم حزب الله على توظيف نتائج الحرب في غير مكانها ممّا جعل النصر يشبه الهزيمة. خوري، الياس. 12 تمّوز. الملحق، 15 تمّوز 2007
كان ذلك كلّه قبل أحداث 7 أيّار 2008 حين اتّجه سلاح حزب الله إلى الداخل اللبناني بحجّة «الدفاع عن السلاح». عندها، أسدل «الملحق» الستارة على مرحلةٍ سياسيّة، معلناً «انتصار الهزيمة». الملحق. انتصار يشبه الهزيمة. الملحق، 18 أيار 2008
خاتمة
افتتح الياس خوري تجربته في «الملحق» بالسؤال عن العلمانيّين واليساريّين اللبنانيّين ودورهم في بناء معارضة لنظام ما بعد الحرب الأهلية. بعد خمسة عشر عاماً، عاد السؤال نفسه:
ماذا جرى لألوف العلمانيين والديموقراطيين واليساريين، الذين تدفّقوا إلى ساحة الحرية، لكنهم عندما شعروا أنّ ظهرهم مكشوف، بعد اغتيال سمير قصير، وفي مأتمه الصغير المؤثّر، لم يطرحوا على أنفسهم بناء البديل. خوري، الياس. الجدار. الملحق، 30 كانون الأوّل 2007
هذه المرّة، لم ينبع السؤال من حُطام الحرب الأهليّة، بل من النقد الذاتي لتجربة 14 آذار. طال النقد البنية الطائفية لقيادة 14 آذار التي جعلتها تفترق عن «حلم 14 آذار». كما طال أيضاً التحاق اليسار الديموقراطي بتلك القيادة الطائفية. أنظر مثلاً: خوري، الياس. المصدر نفسه. كأنّ خمسة عشر عاماً لم تكن كافيةً لتبدُّل السؤال أو لتلمُّس الإجابة. فما كتبه خوري قبيل انتخابات 2009 النيابية، بدا كما لو أنّه يكتب قبيل انتخابات 1992 أو 1996، عبر الترداد بأنّ «الوطن لا يبنيه سوى مشروع علماني ديموقراطي»، وأنّ الأوان قد «آن للفكر اليساري اللبناني أن يبدأ بلورته، ويخرج من كسله واتّكاليّته». خوري، الياس. «اليسار في صحراء الانتخابات». الملحق، 3 أيّار 2009 الفارق الوحيد هو أنّ «الاستقلال» بات الآن جزءاً من هذا المشروع اليساري الذي حلم به «الملحق» منذ إعادة إطلاقه في العام 1992. خوري، الياس. «اليسار في صحراء الانتخابات». الملحق، 3 أيّار 2009
لم يطُل الأمر بالياس خوري قبل أن يغادر جريدة «النهار» هو الآخر، بعدما استغنت عن خدماته تنفيذاً لسياسة عصر النفقات. في مقاله الأخير، عاد إلى نون الجماعة التي بدأ بها رحلته في «الملحق». «نمضي ولا ننظر إلى الوراء»، خوري، الياس. المقال الأخير. الملحق، 4 تشرين الأوّل 2009 قال. وكانت بيروت لا تزال مدينةً «تشبه سفينةً محطّمة»، خوري، الياس. سؤال الحرية. الملحق، 14 آذار 1992 غير أنّ البحارة غادروا السفينة أو ابتلعهم البحر.
رسوم: جمال صالح (2023)
أُنجِز هذا البحث بدعمٍ من مؤسسة روزا لوكسمبورغ- مكتب بيروت.