أسئلة اليسار ليست مجرّد أسئلة تواجه فصيلاً أيديولوجياً، بل قد تتضمّن في طيّاتها أسئلةً أوسع، عن التنظيم والكتابة والالتزام والسياسة. وفي مسيرة اليسار، الفردية أو الجماعية، ما يحاكي حاضراً يواجه تساؤلات سياسية، ما بعد الثورة وحماستها. من خلال محاولة رسم حيوات وضاح شرارة الفكرية والتنظيمية والسياسية، يعود فادي بردويل إلى هذا الماضي لكي يطرح سؤال الأفق السياسي في لبنان.
حيوات وضاح شرارة
في شتاء عام 1964، نشرت دار الطليعة في بيروت ترجمة عربية لكتاب أنور عبد الملك، Egypte Société Militaire (1962)، بعنوان «مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون». تحوّل المجتمع العسكري في الأصل الفرنسي إلى مجتمع يبنيه العسكريون في الترجمة العربية، بعد تدخّل بشير الداعوق، صاحب الدار البعثي، على الأرجح للتخفيف من الشحنة النقديّة لكتاب عبد الملك، الذي صدر بعد عقد على سيطرة الضباط الأحرار على الحكم في مصر. لم تُذيَّل النسخة العربية باسم واضعها. بقي المترجم مجهولاً.
في السنة ذاتها، والتي باتت تشهد على نهاية عهد فؤاد شهاب، أسّس بضعة شبّان وشابّات في العشرينيات من أعمارهم، بعد مراكمة بعضهم لتجارب سياسية في أحزاب قومية عربيّة كحزب البعث العربي الاشتراكي وأحزاب شيوعية كالحزب الشيوعي الفرنسي، تنظيماً ماركسيّا سريّاً سمّوه: لبنان الاشتراكي.
في عام 1966، بدأ التنظيم السرّي بإصدار نشرة احتوت على أبواب عدّة، منها زاوية تثقيف نظري. انتقدت مقالات النشرة الحزب الشيوعي اللبناني بشراسة وهاجمت الأنظمة العسكرية-البيروقراطية التقدميّة. كما دعت النشرة سياسيًا إلى قيام يسار مستقل يمثّل مصالح الطبقة العاملة خارج التبعيّة للأحزاب والزعامات الوطنية، ككمال جنبلاط. لم توقَّع أي من مقالات النشرة .
في عام 1968، صدر كتيّب بالفرنسية Transformations d'une manifestation religieuse dans un village du Liban-Sud (Ashura) [أدوار احتفال ديني في قرية من جنوب لبنان (عاشوراء)] عن مركز أبحاث معهد العلوم الاجتماعية للجامعة اللبنانية. وكان الباحث وضاح شرارة.
في أيّار 1969، نشرت مجلّة دراسات عربيّة التي كانت تصدر عن دار الطليعة، نصّا نظريّاً بعنوان «مدخل لقراءة البيان الشيوعي» معرّفةً قرّاءها بأنه من إعداد حلقة دراسات «لبنان الاشتراكي». أعادت الدار نشر المدخل مع ترجمة للبيان الشيوعي في كتاب مذيَّل بتوقيع زاهي شرفان (1972).
في آذار 1975، بضعة أسابيع قبل التاريخ الرسمي لبدايات الحروب الأهلية والإقليمية اللبنانية، نشرت دار الطليعة كتاباً بعنوان هجين (نصفه تاريخي ونصفه الآخر أيديولوجي) وغامض، لاحتوائه على مفارقة مؤسسة: «في أصول لبنان الطائفي: خط اليمين الجماهيري». فما الذي يجمع اليمين بخطّ الجماهير؟ كُتب النصّ في برج حمّود بعدما انتقل المناضل الماوي إليها لمشاركة الجماهير مساكنها والنضال معهم في حاراتهم وأماكن عملهم، بعيد طرده من منظمة العمل الشيوعي (1973) التي كان قد ساهم في تأسيسها سنة 1970.
بعد ذلك، كتب وضاح شرارة أكثر من عشرين كتاباً، بالإضافة إلى الترجمات، ونشر مقالات بالمئات يصعب حصرها، بصحف ومجلات ومؤخراً بمنصّات إلكترونيّة عربيّة ومحليّة. بإمكاننا القول اختصاراً أنه لم يتوقف عن الكتابة والنشر منذ ستّة عقود، تاريخ صدور ترجمته لكتاب أنور عبد الملك.
مسار ثري ومتعرّج من التفكير والكتابة. كتابات حزبية بلا توقيع. نصوص نظريّة بأسماء مستعارة. أبحاث في العلوم الاجتماعيّة. دراسات تاريخيّة محرّكة بأسئلة نظريّة- سياسيّة- نضاليّة. أبحاث في التراث الإسلامي. نقد سينمائي. ومؤخراً كتابات في الفن المعاصر. تأويلات لتاريخ الفكر العربي الحديث. أبحاث ميدانية عن أوضاع المدينة وسكانها والوافدين الجدد إليها. نصوص على تخوم السيرة الذاتية. تعقيب على سير نسائية. دراسة الدولة الوطنية العربية الحديثة وتحليل آليات عملها.
هل وضاح شرارة أكاديمي؟ هل هو مثقّف؟
لم يتوقف شرارة يوماً عن الكتابة. إلّا أنّها كتابة عصيّة عن التصنيف ضمن الأبواب المتعارف عليها. فنحن الآن وهنا نتكلم ضمن سلسلة عنوانها «مسارات الأكاديميين/المثقفين البارزين العرب».
فهل شرارة أكاديمي؟ بالطبع، وخاصّة إذا أخذنا تدريسه لعقود في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية في الاعتبار. لكن من الصعب حصر كتاباته ضمن حقول معرفيّة معيّنة، أو حتّى التعريف عنها بأنها تدور في فلك عدّة اختصاصات وتجمع بينها. يقفز شرارة الكاتب فوق أسوار الجامعة بسهولة. فلا تقتصر مداخلاته على مجادلة زملاء المهنة، وإن تقيّدت بعض كتاباته بصرامة مناهج العلوم الاجتماعية. فهو كاتب عام، بمعنى طبيب عام، يتنقّل بخفّة بين عوالم ومسائل ومراجع ومصادر ونظريّات متعدّدة. فنحن نتحدّث عن كتابة خارجة عن الاختصاصات الجامعية وديناميكيّات تطوّر حقولها المعرفية. ربما كانت عبارة المفكرة الفرنسية كريستين بوكي-غلوكسمان عن الأعمال العابرة للمعارف La transversalité des savoirs هي الأقرب لالتقاط تلك الكتابة.
هل شرارة مثقّف؟ بالطبع، إنما بأي معنى؟ بعض كتاباته تعليقات سياسيّة مباشرة. وبعضها الآخر حادّ، لا شكّ في ذلك. لكن من أي موقع يكتب؟ ولمن؟ هل يتكلّم بإسم فئة اجتماعيّة معيّنة ويدافع عن مصالحها بعد انسحابه من العمل السياسي المباشر؟ هل يقوم بكتابة العرائض وتوقيعها؟ هل يسعى لبلورة رأي عام من خلال ظهور إعلامي (راديو، تلفزيون، وسائل تواصل اجتماعي) خارج الكتابة؟ هل يتقمّص دور الضمير الأخلاقي الذي يرفع صوته ضدّ أهل القوّة؟ أو النبيّ الذي يصيغ هويّة لشعبه؟ أو الداعية الملتزم بالدفاع عن قضيّة محقّة؟ أو الكاتب الطليعي الذي يسعى إلى تنوير العامّة؟ لا شيء من كلّ هذا.
يصعب حشر صورة شرارة الذي تستضيفه سلسلة «مسارات الأكاديميين/المثقفين العرب البارزين»، في ألبوم صور المثقّف العربي. فهو في آن واحد أكاديمي خارج عن الأكاديميا، وأقلّ وأكثر من مثقف، أو مثقّف مثقّفين، كما نقول موسيقي موسيقيّين. خاصّة إذا التفتنا إلى تحليله لأعمال المثقفين العرب وصياغاتهم الخطابية، الذي ابتدأه في أطروحة الدكتوراه Le discours Arabe sur l’Histoire (1972)، وترجمه لاحقاً إلى العربيّة (المسألة التاريخيّة في الفكر العربي الحديث، 1977).
انا مش ليبرالي
من أين يدخل المرء إلى عوالم وضاح شرارة المتعدّدة؟ وكيف يحيط بكتابته التي تفلت من التصنيفات الجاهزة والسريعة؟
في ما يخصّني، فتحت باباً أوصلني رأساً إلى طريق غير نافذ. في حزيران 2007، خرجت من مكتبة يافث في الجامعة الأميركيّة في بيروت لاستراحة قصيرة واتّصلت بجريدة الحياة، طالباً التكلّم إلى مسؤول ملحق صحافة العالم. تردّدت قبل الاتصال، جزئياً لعلمي بمواقف شرارة النقدية الحادّة تجاه اليسار اللبناني الذي أنتمي إليه والثورة الفلسطينية التي دعا يوماً إلى التحام الجماهير بها. حسم زهير رحال، صديقنا المشترك، ورفيق شرارة السابق في منظمة العمل الشيوعي، تردّدي: إحكيه قال، أنا بطلّ عليه لما مرّ عالجريدة، مش متل ما بيقولوا عنو. فيك تاخد وتعطي معو. أجاب الرجل على الهاتف، فقلت له إنني بصدد إعداد أطروحة دكتوراه عن يسار الستينات، وتحديداً مثقفيه وكتابه الذين انتقلوا من اليسار إلى الليبراليّة. فرحّب واتفقنا على اللقاء بعد بضعة أيّام. ثم أضاف: على خلاف بعض الأصدقاء الذين أُجمَع معهم أحياناً، أنا مش ليبرالي.
تعريف أوّليّ بالسلب.
خروج عن اليسار، حسناً.
لكن نحو أي أفق أيديولوجي-سياسي؟ من أي موقع تكتب؟ ولمن؟
نقد المنشقّ والصفوة المختارة
لم يفضِ انشقاق المناضل عن يساريته إلى اعتناق قضيّة أخرى، كالإسلام السياسي الحركي الذي جذب بعض مجايليه في السنوات الأولى للثورة الإيرانيّة (1979). ولم يتبنَّ شرارة موقفاً ليبراليّاً لجأ إليه بعض رفاقه السابقين، لقدرته الجمع ما بين نقد مثلّث للعصبيّات الطائفيّة وتسلّط أنظمة ما بعد الاستقلال وغياب الديمقراطيّة عن تجارب الأنظمة الشيوعيّة والأحزاب اليساريّة. لذلك يطرح انشقاق شرارة أسئلة حول إحداثيّات الكتابة في السياسيّات (موقعها، موقفها، معاييرها، أفقها) إثر ما يمكننا تسميته بعملية انشقاق بلا اعتناق.
لذلك يطرح انشقاق شرارة أسئلة حول إحداثيّات الكتابة في السياسيّات (موقعها، موقفها، معاييرها، أفقها) إثر ما يمكننا تسميته بعملية انشقاق بلا اعتناق.قلّما تُفصح كتابة شرارة، بعيد الانسحاب من العمل السياسي اليساري، عن رؤيتها المعياريّة، رغم ابتعادها عن ادّعاء أي محايدة منهجيّة. فلنرجع إلى «حروب الاستتباع: لبنان الحرب الأهلية الدائمة» (1979)، وهو الكتاب الذي يجمع مقالات كتبت ما بين 1974 و1976 في مجلّة دراسات عربيّة. تؤرخ تلك المقالات لانتقال الكاتب من موقع المناضل اليساري الذي يقيّم نقدياً العقبات التي تواجه الحركة التي ينتمي إليها واخطاءها كي تعود أعمالها بنتائج مثمرة أكثر في المستقبل، إلى موقع المراقب النقدي المنشقّ عن معسكره الأيديولوجي، بعد انشقاقه الأوّلي والمبكر عن جماعته الأهلية. فيكتب من كان رفيقاً وأصبح فرداً وحيداً، «لامنتمياً»- إذا استعرنا عنوان أحد كتب كولن ويلسن التي لاقت صدى ما في منتصف القرن العشرين- في المقدّمة:
لا يبتدع التأسيسَ الاجتماعي الثقافي المختلف مثقفون، رغم أنهم يلعبون دوراً في ابتداعه. بيد أن ما يمكنهم الاضطلاع به هو تعرية الاستتباع حيث يتدثّر بالأيديولوجيات الحديثة أو بالاصالة.
ثم يكمل ان مقالات الكتاب التزمت جانب النقد الدائم،
لا لعجز كاتبها عن «الإيجابية» بل لأن زاوية الحدث الاجتماعي تطلّ على جذور الانقسام المجتمعي، كما تطل على ولادة الأيديولوجية المتناقضة. ويصعب قول الانقسام والتناقض في لغة الإنتساب التي سرعان ما تنقلب إلى خطابة متعددة الفنون: المديح، التأبين، الهجاء.
تحمل تلك الفقرة القصيرة سمات رئيسيّة لآليات عمل فكر شرارة النقدي، التي تميّز كتابته وتجعل قراءة نصوصه متطلّبة. منها، نقد إرادويّة وطليعيّة المثقّفين الذين يشملون الخبراء والتكنوقراط. أولئك الذين، جيلاً بعد جيل، يشخّصون مجتمعاتهم كأجساد عليلة تنتظر حلول الصفوة المختارة التي تهبط على الناس من فوق، حاملةً وصفات مدروسة للقضاء على الطائفية ونماذج جاهزة لمحاربة الفساد. فكتب في بداية «أصول لبنان الطائفي» (1975):
الوظيفة، العلم، التقنية… تموت الطائفية كما ماتت الإمبراطوريات القديمة تحت سنابك الغزاة البرابرة... وبرابرة الطائفية يأتون من أوروبا، «ما بين نهرين» جديدة تصدر الوباء الذي يفتك بالإنسان القديم لتجلوه موظفاً بلا لون، مثقفاً نفض عنه رواسب الجبل، فنيّاً بأهواء آلة حاسبة.
فالبرابرة الغزاة الآتون من خارج يحملون راية التقدّم الحتمي للتاريخ الكفيل بالقضاء على أدران الماضي. يكتب شرارة:
يشترك هذا الخارج مع الأنماط التي سبقته وتبعته، في أنه يشكل وجهة المسار الضرورية التي يتقدم التاريخ وفق إشارتها، كما يشترك معها في خروجه مسلحاً، كامل العدّة، من رأس جوبيتر، إله الآلهة في الجُمَل المختارة من هيغل وانغلز.
السياسي في شباك الاجتماعي: السيطرة بلا هيمنة
تختزن تلك الفقرة من «حروب الاستتباع» أيضاً حركةً نقديةً Geste critique بنيويّةً لا تتوقف عند السطح الأيديولوجي الذي يميز ما بين الفكر القومي واليساري والإسلامي مثلاً. بل تُعمل مبضعها النقدي على مستوى البنى الاجتماعيّة الأعمق؛ تلك التي تكوّن آليات عمل السلطة في حالات ارتباط السياسي بنسيج الأهلي للمجتمع.
فيلفت شرارة نظرنا إلى صعوبة إرساء علاقات سلطة مبنية على الهيمنة (غرامشي) في مجتمع منقسم أهلياً. تأخد السيطرة حينئذ شكل استتباع الخصوم المتحاربين بعضهم لبعض.فيلفت شرارة نظرنا إلى صعوبة إرساء علاقات سلطة مبنية على الهيمنة (غرامشي) في مجتمع منقسم أهلياً. تأخد السيطرة حينئذ شكل استتباع الخصوم المتحاربين بعضهم لبعض. فيوحّد الاستتباع آلية عمل السلطة، أو الأدقّ السلطات المختلفة، كسيطرة بلا هيمنة في مجتمعات لم تنتج معايير موحّدة تجمعها.
ما هي تبعات، وانعكاسات، تلك الملاحظة عن غياب الهيمنة على أدوات الكاتب المفهوميّة؟ تبلور حركة شرارة النقدية جواباً ضمنياً عن سؤال الكتابة النقديّة في السياسيّات بعيد الانشقاق عن اليسار، ووظيفتها في مجتمعات منقسمة كالمجتمع اللبناني المتأرجح ما بين سلم أهلي هشّ وحروب أهلية دامية. فبالرغم من أهميّة الاختلافات السياسية ما بين طرفي النزاع في السنوات الأولى للحرب- عروبة لبنان ودعم المقاومة الفلسطينية من جهة، والقومية اللبنانية وسيادة الدولة من جهة ثانية- يدعو شرارة المثقفين إلى الالتفات إلى آليّات عمل علاقات التضامن الأهليّة (الطائفيّة، المناطقيّة، العائليّة) وبعض العصبيّات الحزبيّة التي تتشابه في العمق. وفي الدعوة إلى تعرية الاستتباع الذي قد يتدثّر بأيديولوجيات متعارضة إشارةٌ إلى أخذ مسافة من طرفي النزاع الحربي-السياسي للتركيز على نقد ركائز الممارسة السياسيّة، لعلّ ذلك يساهم بتأسيس منطق مغاير، يخرج عن لحمة العصبيّات.
انتباه شرارة إلى صعوبة إنتاج هيمنة ما في لبنان ليس وليد الحرب الأهلية، بل يعود إلى فترة نضاله الماركسي. فكتب، أو بالأحرى كتبا، في حاشية من مقدّمة «كتاب الأمير الحديث: قضايا علم السياسية في الماركسية» لأنطونيو غرامشي، الذي ترجمه زاهي شرفان بالاشتراك مع قيس الشامي (عزيز العظمة)، ونشرته دار الطليعة سنة 1970:
ويدعونا انعدام وجود هيمنة فعلية في لبنان– عدم وجود «دولة» بكل معنى الكلمة– انعدام وجود مجتمع مدني متكامل عضوياً… ولعل أفضل دليلين على انعدام الهيمنة هما مدى انتشار الفساد من جهة، وعدم وجود فئة عضوية من المثقفين أفرزها حكم فئوي… ييرز هذا في أي معاينة للصحافة اللبنانية، وفي عدم وجود أي ثقافة بكل معنى الكلمة (الندوة اللبنانية، مجموعة مجلة شعر) وفوضى وعدم تناسق النظم التربوية، هذا بغض النظر عن المحاولات الفاشلة وغير الجدية لخلق هيمنة للدولة عن طريق الإذاعة والتلفزيون.
السياسي في البنى الخطابية: بعث الوحدة ونبذ الكثرة
لا تقتصر تلك الحركة النقدية البنيوية على سير آليات عمل النسيج الاجتماعي الموحّدة تحت سطح الاختلاف الأيديولوجي، بل يتّكئ عليها شرارة أيضاً لتحليل المنطق الخطابي للإيديولوجيات المختلفة.
ففي «الواحد والمنقسم: من فكر النهضة إلى فكرة الوحدة» (1980) الذي يتناول فيه شرارة أعمالاً كثيرة (شبلي الشميل، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، أنطون سعادة، زكي الارسوزي، رفاعة الطهطاوي، قسطنطين زريق، ميشال عفلق)، يتخلى الناقد عن نظرة تؤطّر الفكر من خلال علاقته بالتاريخ– الفكر عقل التاريخ وتمثله– ليقدّم تحليلاً ينظر إلى المنطق الداخلي الذي تتولّد منه أفكار وأحكام تلك الأعمال. وأحد مسوّغات ذلك التحليل هو رأي الكاتب بأن الفكر العربي الحديث غالباً ما يستعيد ثوابت من دون مساءلة. لذلك يبتعد عن التحليل الذي يرى إلى كل عمل كممثل لفترة تاريخية معينة، وعن دراسة تاريخ الفكر السياسي على طريقة «أعلام وأعمال» من خلال طرحه فرضيّة الاستعادة/التكرار عند أجيال مختلفة من المفكرين.
كما في توصيفه لدور الاستتباع في غياب الهيمنة، تتميّز قراءة شرارة لأعمال المثقفين بقدرته على إبراز مواطن الوحدة تحت سطح الاختلاف السياسي. فتخرج القراءة النقديّة عن إعادة تدعيم الاصطفافات الأيديولوجيّة التي تنشئ أسواراً عازلة ما بين الفكر الديني والعلماني. وتنعقد الصلات بين الأيديولوجيات المختلفة على مستوى أعمق من اختلافاتها الفكرية، وهو صور الوحدة وكيفية النظر الى التعدّد والاختلاف والتجزيء.
فيخلص شرارة إلى أن الوحدة في تلك الأعمال هي المدخل المحتوم لطرح مشكلة الفعل التاريخي بقطبيه: الانحطاط والنهضة، وأن الانحطاط فيها طارئ وغريب ووافد. أمّا مدار الوحدة، فهو الحقيقة التي تجعل من الفرقة انحطاطاً ومرضاً، ما يجعلها تصم المخالفين بالضلال والخيانة والعمالة.
كما في فقرة «حروب الاستتباع» التي استشهدت بها سابقاً، يعلّق شرارة على عمله الكتابي وأثره المحتمل. فينهي نصّه بالتعليق إنّ ما فعله هو رؤية إلى النفس، ولو أنها لا تكفي لتبدأ تاريخاً، إلّا أنها تشرّع نافذة على ضمّ الشتات، على محاولة لوغوس.
هجران النظريّة وآفاق النقد الانعكاسي
رغم اختلاف المواد التي يتناولها النصّان اللذان أشرت إليهما (آليات عمل السلطة في السنوات الأولى للحروب اللبنانيّة وأرشيف المثقفين العرب)، فهما يتشاركان ببلورة نقد عميق يتعدّى سطح الاصطفافات الايديولوجية ليتناول البنى المجتمعية والخطابية. ليس ذلك نتيجة انجذاب إلى البنى، على طريقة الفن للفنّ، إنّما لانتباه شرارة إلى أن البنى تلعب الدور الرئيسي في تحديد الممارسات السياسيّة. التخوين مثلاً، ممارسة خطابية-سياسية عريقة يشترك فيها أكثر المتخاصمين ايديولوجياً (قوميون، إسلاميون، يساريون، إلخ). والولاء العصبي للزعيم- الأب- الوصيّ، بالرغم من اختلاف تجليّاته داخل كلّ جماعة، يجمع مَن تفرّقهم المواقف السياسيّة اليوميّة.
تعكس تجليّات تلك الحركة النقديّة، أي تعرية الاستتباع (الاجتماعي) وضمّ الشتات (الخطابي)، تفكيرَ شرارة بوظائف الكتابة النقدية وأثرها السياسي، أو ربما التحرّري، بعد الخروج عن الكتابة النضالية اليسارية.
في كلتا الحالتين تبتعد الكتابة عن أوهام الطليعة النهضوية الساعية لتأسيس حياة جديدة. فتستعين الكتابة النقدية باستراتيجيّتين مختلفتين، التعرية والضمّ، لهدف واحد وهو المساهمة بقطع التكرار العصابي، بالمعنى الفرويدي. فسبر آليات عمل النسيج الاجتماعي ورصد تكرارِ أفكار الوحدة ونبذِ الفرقة يتشاركان بتوجيه موضع النقد نحو البنى الاجتماعية والخطابية لتشخيص آليات عملها المغمورة. وهي تشبه عملية الانتقال من اللاوعي إلى الوعي، التي تسعى إلى فتح كوّة في جدار التكرار الذي يعيد إنتاج الماضي في الحاضر. لعلّها تساهم بعض الشيء في تأسيس اجتماعي-سياسي مختلف.
يحمل الموقف النقدي المتكرّر من الطليعة المثقفة نقداً ذاتياً مضمراً لمناضل ماركسي سابق آمن يوماً بأن النظرية الثورية هي الطريق الملكي للسياسة الثورية؛ لا حركة ثورية دون نظرية ثورية (لينين). كما يحمل في طيّاته موقفاً انعكاسيّا Réflexif عن صلاحيّة الاحتكام السهل إلى مفاهيم مجرّدة في مجتمعات سياسية لم تنتج معايير مجرّدة توحّدها، كالمواطنة في لبنان. ففي تلك المجتمعات التي تضمر فيها السلطة كهيمنة، وتتكاثر السلطات المتباينة التي تسعى إلى السيطرة والاستتباع، يصعب تضمين بعثرة الحوادث المتفرقة والعالقة بالنسيج الاجتماعي الأهلي (العائلي- الطائفي- المناطقي) تحت مظلّة مفهوم واحد أو اثنين.
وكان شرارة قد انتبه باكراً إلى الهوّة التي تفصل ما بين مفاهيم الأيديولوجيا الثورية المجرّدة والركائز الاجتماعية الأهلية للفعل السياسي. فكتب في «المقاومتان، اللبنانية والفلسطينية- القسم الثاني: امتحان تشرين» (نشرة لبنان الاشتراكي، آذار 1970) عن الانقطاع ما بين فعالية المقاومة الفلسطينية في إجبار السلطة اللبنانية الجلاء عن بعض المناطق واستغلال نتائج ذلك على صعيد سياسي جماهيري، فنتج عن ذلك:
بروز قوى وطنية، متقدمة في برنامجها الذي يختصره دعم المقاومة، لكنها تدخل في أطر القوى التقليدية إن بما يرجع إلى شرذمتها أو بما يعود لعلاقات الولاء الشخصي والعائلي والمحلي التي تربط ما بين القيادات و«الرجال» (طرابلس). ولم تكن المقاومة غريبة عن هذه الظواهر كلها: فهي مَدّتْها بوسائل مادية، وغذّتْها بالرجال أحياناً، وفي كل الأحوال عطفت عليها واعتبرتها ظواهر سليمة لا اعتراض لها عليها.
كما انشق شرارة عن اليسار، خلص أيضاً إلى هجر العمل النظري المجرّد نحو تسجيل الحوادث الكثيرة ورصد عدم تناسقها والتعقيب عليها، بعدما شهد له رفاقه وزملاؤه في الجامعة بامتلاكه ملكة النظرية. ودليله في مهمة الاقتفاء الشاقّة هذه أحد أبطاله السريين المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي، الذي وثّق أحداث الحملة الفرنسية على مصر، وأزاح لويس آلتوسير وتلامذته عن عروشهم.
فمن يقرأ دولة حزب الله (1996) الصادر بعد أكثر من ربع قرن على نشر «مدخل إلى قراءة البيان الشيوعي» (1970)، يلاحظ نمطاً كتابياً مختلفاً، أكثر كثافة بكثير من ذلك الذي اهتمّ يوماً بتعريب المفاهيم وربطها بعضاً ببعض. نمط كتابي يلتصق بالمادّة التي يشتغل بها ويتلوّن بألوانها. ينتج عن ذلك نقد محايث Immanent يشبه جينيولوجيا فريدريك نيتشه التي استعادها ميشال فوكو لاحقاً. نقد يعمل على صياغة سرد للتاريخ يعيد للطارئ والظرفي والمتغير من الحوادث منزلته. فيزحزح الناقد الرواية الملحمية للجماعة عن نفسها ويعيد الاعتبار لكثرة المصادر والعناصر التي تضافرت لصناعتها.
الحداثة والمنازعة
في مقدمّة الطبعة الثالثة (1998) لدولة حزب الله، يخرج شرارة عن التزام جانب النقد والمعياريّة المستترة التي تستشفّها القارئة من كتاباته، كانتسابه الطوعي إلى لبنانيّة ما في مقابل الأيديولوجية الضمنية العروبيّة- اليساريّة- الإسلامويّة التي ينتقدها. فيكتب: والحق أن شرائط الحداثة السياسية والديمقراطية هي فروض البحث الذي بين يدي القارئ، وهي ومسلّماته المعياريّة، بما هي العلانية السياسية بخلاف السرية، والحياة الاجتماعية الفردية بخلاف التحام المجتمع والمنازعة والانقسام. وأزعم أن الأخيرة (المنازعة والانقسام) هي المسلّمة السياسية الأهمّ لشرارة- قارئ خطابات مكيافيلي حول العقد الأول من تيتوس ليفيوس وتعقيب كلود لوفور عليها- بما هي خروج عن الوحدة العصبية من قبل الأهل والأقوام من تحت، واستيلاء أجهزة الدولة والأحزاب على الحياة السياسية من فوق، دون أن تنتهي إلى مجتمعات تمزّقها حروب أهلية دائمة.
القيام بالنفس ومآلات الانشقاق
ستّون سنة من البحث عن السياسي كان رهان صاحبها الأوّل قيام الناس بنفسها. Autonomie انتقل خلالها شرارة من السياسة إلى الاجتماع السياسي، ومن النظرية الثورية إلى التاريخ والاثنوغرافيا، ومن الإيمان بالجماهير إلى الابتعاد عن كلّ ما يمتّ للأهل بصلة، ومن نقد القوميّة اللبنانية إلى إعادة الاعتبار للمسألة اللبنانية ونسبه اللبناني المتلعثم، ومن آلتوسير إلى الجبرتي، ومن ثوريّة ملتحمة بالجماهير إلى فرديّة منشقّة عن الجماعة.
في النهاية، يعود سؤال البداية عن الأفق السياسي للانشقاق المزدوج عن الجماعات الأهلية والأحزاب المتماسكة عصبيّاً، والذي ينتج أفراداً غير منتمين. وهو ما حاولت تلمّس جواب أوليّ له في تلك المكالمة الهاتفية الأولى قبل أن يسارع شرارة إلى نفي الصفة الليبرالية عنه. يعود ذلك السؤال دوماً. يعود أحياناً كطيف أليف، وأحياناً أخرى بإلحاح مؤرّق أكثر.
فهل الانشقاق فعل خروج عن السياسة لتوثيق استحالتها في مجتمعات تمزّقها العصبيّات؟ أم يفضي الخروج عن الجماعة الأهليّة إلى التنقّل بين أحزاب جماعات أهلية أخرى حسب برامجها السياسية؟ في تلك الحالة، يفترق الموقف النقدي من العصبيّات الأهليّة عن الممارسة السياسيّة ويتعارض معها. أم هو الشرط الأساسي لتأسيس سياسة تقوم على المنازعة وتخرج عن لحمة العصبيّات؟ وإذا كان الأمر كذلك، فممّن يتكوّن المنشقّون المؤسّسون؟ من أفراد ليبراليّين بالضرورة؟
إن كانت العودة إلى محطّات من مسار شرارة السياسي- الفكري هي الدافع الرئيسي لطرح تلك الأسئلة، فصداها لا يقف عند عتبة تجربته أو حتّى تجربة رفاقه من جيل الستينات. فهي تلازم كلّ تفكير بممارسة سياسيّة لا ترتكز إلى ولاءات أهلية وعصبيّات أحزاب السلطة. فنقد الطائفيّة عمليّة سهلة، والانشقاق الفردي عن الجماعات الأهليّة والحزبيّة متاح بدرجات مختلفة. أمّا تأسيس مشاريع سياسيّة تجمع المنشقّين والمنشقّات لتشكّل قطباً ذا وزن شعبي يواجه تكتّل العصبيّات المتحالفة- المتناحرة وشبكاتها الزبائنية، أي قطباً أبعد من سياسة النخب المدنيّة «التغييريّة» و«البديلة»، فتبيّن أنه عملية أصعب بكثير.
بالرغم من ذلك، نشهد الآن مرحلة إعادة صياغة لعلاقة خارج لبنان بداخله قد تساهم بفتح آفاق سياسية مغايرة. اقتصاديّا، من خلال الاتكال الرئيسي لاقتصاد ما بعد الانهيار على تحويلات المغتربين وخسارة بعضهم لمدّخراتهم، مما يجعلهم أصحاب مصلحة مباشرة بالسياسات الاقتصادية والمالية. وسياسيّاً، من خلال توسّع ديناميّات سياسيّة وحقوقية معارضة لآليّات عمل النظام في الاغتراب، في عالم أكثر ارتباطاً على كلّ الأصعدة. ينقل ذلك التوسّع مواجهة المنشقّين مع النظام إلى خارج حدود الجمهوريّة، بعيداً عن أجهزته وأحزابه ولحمة العصبيّات الأهليّة. من المبكر استشراف نتائج توسيع مواقع المجابهة إلى الخارج (الدعاوى ضدّ المصارف، مثلاً)، ومن الخارج إلى الداخل (الانتخابات النيابية). لكن من المؤكد أننا بتنا أمام نموذج جديد من المهاجرين، لا يُختزل بثالوث العصبيّة- الاندماج- الحنين. فهل تساهم تلك التحوّلات الموضوعيّة وديناميّة المنشقّين-المهاجرين بشقّ أفق سياسي مغاير؟
نصّ منقّح قليلاً لمداخلة في سلسلة «مسارات الأكاديميين/ المثقّفين البارزين العرب» (5 أيّار 2022، الجامعة الأميركية في بيروت).